الدين التنموى

الأحد، 31 يناير 2016 04:32 م
الدين التنموى
كمال الهلباوي يكتب:

عاد إلينا الخبير اللغوى والصديق الأحمدى الشلبى، بالمقال الثانى عن" الدين التنموى" وذلك ضمن سلسلة مقالاته بعنوان: من رحيق اللغة يقول الرجل:
"إن علاج العجز اللغوى الذى نعانى منه؛ هو العلاج الوحيد الأمثل الناجع لكل مشاكلنا المستعصية فى هذا الميدان. بعد سيطرة موضوع التعبير اللفظى علينا. وأصبحنا نقول مالا نفعل، بل وطغيان التدنى اللغوى مما أدى إلى الانحطاط الأخلاقى للغياب غير المفهوم وغير المبرر لوزارات الإعلام والثقافة والشباب والتعليم - فاللغة ترجمان الفكر والوجدان؛ اللذان يفصحان عن مغاليق النفوس، ومدى الاتزان السلوكى والنفسى للإنسان؛ ويعوَّل المثقفون والعلماء وأصحاب الفكر المسئول، على الثقافة اللغوية كموصل جيد، وتواصل فاعل، للعلم والفكر والثقافة والمعارف بمفاهيمها الواسعة؛ وتقرن بالعمل فيرتقى الشعور والفكر، وبالتالى يرتقى السلوك؛ وتزدهر الحضارة. والثقافة اللغوية ليست ترفا أو وجاهة، بل ضرورة ملحة لأمة تتلمس الخطوات لنهضة حقيقية متوثبة، لمكانة نستحقها ونحن جديرون بها.
واللغة مفتاح من أهم المفاتيح لفهم الدين الصحيح؛كما لمسنا عند الإمامين المجددين الجليلين الشيخ محمد عبده والشيخ الشعراوى؛ اللذان برعا لغويا؛ فتعلقت بهما القلوب والعقول. والشرط الأهم فى العالم الفقيه، هو التفقه فى اللغة ليعضد تمكنه الفقهى بامتلاكه ناصية اللغة، والوقوف على أدق أسرارها وتفاصيلها. والغوص خلف المعانى الشريفة وروعتها. وتاريخنا المصرى يزخر بعلماء فى الدين ناصعة آثارهم؛منهم الإمام الليث بن سعد، الذى أشرت له سلفا؛ المولود بقلقشندة مركز طوخ قليوبية. فطلب منى الصديق اللغوى جمال سيبويه، ابن محافظة القليوبية أن أذكر من مآثرالإمام الليث؛ ما نتمناه فى علمائنا الأفاضل، للتأكيد على اتصال اللاحق بالسابق؛ فى سلسلة متصلة فى التعمق والتيسيرالفقهى، فى آن واحد؛ اتسم بها علماء الكنانة.
سعى الإمام؛ الليث بن سعد جاهدا؛ إلى اكتشاف أسرار القرآن والحديث بالتعمق فى دراسة اللغة العربية وقواعدها، وهو ما أثنى عليه الفقهاء فيما بعد، مدركا أن النصوص القرآنية والنبوية ليست حروفا ترص رصا، لكنها آيات الله المناسبة فى الألفاظ والمعانى لتخلق معانى تخاطب القلب، وتهذب الروح والوجدان، ولهذا راح الليث ينهل من رحيق اللغة من منبعها الصافى الرقراق؛ وهو الشعر العربى السابق واللاحق، فترك هذا التوجه فى نفسه ميلا للفنون، وحبا للشعر، وتهذيبا فى النفس؛ وتمتع بمباهج الحياة؛ دونما تفريط أو إفراط.
يروى أن أول حديث رواه (إن الله جميل يحب الجمال)، لذلك تشبعت روحه العذبة ببهاء الدين ورونقه. فالدين ليس عقوبة؛ كما صوره المتشددون؛ وإنما استمتاع بمباهج الحياة، وفق القاعدة الفقهية (افعل ولاتفعل). كان الليث يهتم بتهذيب النفس، والسمو الروحى والأخلاقى، من منظور إسلامى، يسره لنا الإسلام الحنيف؛ فقد كان يهتم بالأحاديث التى تهذب الروح، وتحض على تأمل جمال الحياة، واستنطاق البهاء والروعة فى الحياة والتفكر فيها؛ مكنه من ذلك تمكنه اللغوى الرائع، كما كان يتقن اليونانية واللاتينية، وهو الشىء الذى جعل عقله ينفتح على الثقافات الأخرى، لينهل من علومها ويصقل تجاربه فى الحياة والفكر والثقافة.
ومن سعد طالعه، أن المنعم أنعم عليه بذاكرة تشبه ذاكرة سيدنا أبى هريرة – رضى الله عنه – الذى كان يطلق عليه ذاكرة عصر الوحى. كان الليث فقيه الأمة، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو والصرف، ويحفظ الحديث والشعر، حسن المذاكرة، مما يسر له الغوص خلف المعانى الشريفة. فرقت روحه وترقرقت أحاسيسه، وفاض فكره، فقرن العلم بالعمل. فرغم تبحره فى علوم الدين واللغة، كان رائدا لإنتاج نحل العسل بمصر. لذلك اشتهرت مدينة بنها ببنها العسل؛ وللعسل مفعول السحر فى النفوس؛ فمن رحيقه يصح البدن، ويبطل السحر، وتشرق الوجوه ملاحة، وبشرا، وتزدهر الأحوال؛ فلشرف العسل، شرفه المولى – سبحانه وتعالى- بسورة النحل.
كان دخل الليث بن سعد في كل سنة ثمانين ألف دينار وماوجبت عليه زكاة.لأن الله – سبحانه وتعالى – سلطه على هلكته فى وجوه البر والإحسان. – فقد كان الليث بن سعد يجلس كل يوم أربعة مجالس يجلس فيها، أما الأول، فيجلس ليأتيه السلطان في نوائبه وحوائجه،وكان الليث يغشاه السلطان فإن أنكر من القاضي أمرا أو من السلطان كتب إلى أمير المؤمنين فيأتيه العزل. والثانى، أنه كان يجلس لأصحاب الحديث، والثالث، كان يجلس للمسائل يغشاه الناس فيسألونه، والرابع، كان يجلس لحوائج الناس لا يسأله أحد من الناس فيرده، كبرت حاجته أو صغرت.
ما إن يذكر الليث، حتى يذكر معه بره وإحسانه، وعطاياه للكبير والصغير، على السواء، فقد كان أبوه واسع الغنى، يملك فى قرية قلقشندة بالقليوبية؛ أرضا خصبة، - يحسن تدبيرها- تنتج خير الثمرات من زرع وفاكهة،ونشأ الرجل فى هذه الأجواء المنعمة يحب الحياة ويقبل عليها، غير مسرف فيها ولا ممسك، وكان مثله من الأئمة العظام "جعفر الصادق وأبوحنيفة". كان يحب التطيب والتنعم بحلو المأكل والملبس. وذات يوم عاتبه الإمام مالك لتمتعه بأطيب الطعام، وتزينه بأبهى الثياب، وخروجه للنزهة فى الحدائق والأسواق، فكتب مالك إليه معاتبا: "بلغنى أنك تأكل الرقاق وتلبس الرقاق"أى الثياب الراقية الفاخرة"وتمشى فى الأسواق". فكتب إليه الليث:"قال الله تعالى:"قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
وقد نادى الليث بأنه ليس من حق أحد، أن يحتفظ بمال إلا إذا بلغ الناس حد الكفاية. والحكام وولاة الأمور، مسؤولون أمام الله عن أن يوفروا للناس جميعا حد الكفاية لا حد الكفاف، وحد الكفاف هو ما يحفظ للناس حياتهم من الطعام والشراب، أما حد الكفاية فهو ما يكفى كل حاجات الناس من جودة الطعام والشراب، والمسكن الصالح المريح، والدواب التى تحملهم، والعلم الذى ينقذهم من الضلال، وسداد ديونهم.
ولعل هذه الفتوى جاءت من التصاقه بالفقراء ومعاشرتهم، وشعوره بمعاناتهم اليومية، فكانت انتصاراً للعدالة الاجتماعية بمفهومها المعاصر. لقد ساءه أن بعض الناس فى مصر كانوا لا يبجلون الخليفة الجليل عثمان بن عفان "ذو النورين" – رضى الله عنه - فصار ينهى الناس عن ذلك؛ حتى انتهى الناس عن ذلك، بل صاروا يبجلونه. ولما هدم أحد ولاة مصر بعض الكنائس، كتب الإمام الليث إلى الخليفة بالأمر، فعزل الوالى، لأنه بحسب وصف الليث كان مبتدعا مخالفا لروح الإسلام.
ولما تولى الوالى الجديد أمره بأن يعيد بناء الكنائس المهدمة، وأن يبنى كنائس جديدة، كلما طلب ذلك المسيحيون فى مصر، موضحا للوالى أن أكثر الكنائس التى كانت قائمة بمصر إنما بناها الصحابة، ممن قادوا جيوش الفتح الإسلامى. معتبرا إجماع مثل هذا العدد من الصحابة هو فى قوة السنة، فما كانوا ليجمعوا على أمر إلا لأنهم تعلموه من الرسول - عليه الصلاة والسلام- كما احتج الإمام الليث على من هدم الكنائس بقوله تعالى: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا".
لقد أهملنا وضيعنا هذا الإمام الفقيه المحدث الكريم،واسع العلم شديد الهمة، سخى القلب والروح واليد،وللأسف مازلنا نضيع هذا الفقيه العالم المصلح الحالم،تاركين أثره ومدرسته الفقهية الرفيعة لتغوص فى غياهب النسيان، وتذوى عبر الأزمان. لقد فجع كاتبنا الكبير عبد الرحمن الشرقاوى، حينما ذهب إلى مكتبة مسجده – رضى الله عنه - فوجد الماعز، وقد أكلت وأتلفت كل المخطوطات والكتب تماما، فضاع معظم آثاره الفقهية، ولم يصلنا إلا النذر اليسير منها.فهل لنا أن نحيى منهجه الإسلامى الراقى بتطبيق سلوكياته ولا نكتفى بالانبهار اللفظى فقط وكفانا.
روي الإمام أبو حنيفة النعمان - رحمه الله تعالى- قصة كان لها أثر عميق ووقع عجيب عليه. يقول: كنت أمشي مرة فمررت بصبيان يلعبون، وإذا بصبي منهم يلعب قرب بقعة من الطين، فقلت له: احترس يا بني حتى لا تزل في الطين. فنظر إليَّ فلما رآني قال: يا إمام أنا إمرؤ هين، فإني إن زللت فإنما أزل في الطين وحدى؛ أما أنت يا إمام فإنك إن زللت زلت أمة من ورائك.
فرجائى وتوسلاتى لشيوخنا الأماثل أن يقتدوا بأسلافهم الصالحين الطامحين لإزالة الفساد اللغوى، ومن ثم التشدد الدينى. فقد راح بعض علماء الدين يرددون ماجبلوا عليه من ثقافة لفظية. فاتهم أن الرئيس المثمر، انطلق إلى الجانب العملى فتبرع بنصف ثروته ونصف راتبه للدولة. فماذا فعلتم أنتم؟؟؟؟؟ والكرة الآن فى ملعب رجال الأزهر، والأوقاف، ودار الفتوى، ووزير العدل، وكبار رجال الدولة، والأغنياء، الذين يدينون لمصر بالكثير والكثير، لأنهم ظل الله فى الأرض. فهل نحن فاعلون؟؟؟؟؟ !!!!!! إلى الرئيس المثمر: سأظل مقتنعا بتوصيفك الدقيق للفساد فى الترسانة البحرية بالأسكندرية، ولدى أفكار للقضاء على الفساد والتنمية؛ لعل أهمها ؛عدم إتباع الطرق التقليدية فى التفكير؛ فلدينا علماء كثر فى الاقتصاد يجيدون التصريحات من أبراجهم العاجية؛ ولا ينزلون إلى أرض الواقع، وقد سبقتهم القوات المسلحة بفكرها الراقى البعيد عن الإفراط فى الجانب النظرى؛ حيث كان التفكير فيما لم نتعود عليه فى حرب أكتوبر المجيدة، هو الذى أدى إلى النصر المؤزر، حيث اجتمع الشعب حول هدف قومى فذاب الجميع فى بوتقة الوطنية المصرية. ولدى أفكار تناسب التفكير العقلانى الواقعى للمرحلة، ومستعد لمناقشتها لتطبيقها لاستغلال طاقاتنا البشرية والمادية الهائلة المهدرة. وانطلاقة خلاقة لاتبقى ولاتذر من التخلف والفقر والجهل والإرهاب". إنتهى كلام الصديق المنوفى وللحديث صلة.
والله الموفق

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق