موسم تكريم الفساد

الأحد، 31 يناير 2016 04:38 م
موسم تكريم الفساد
عبد الحليم قنديل

لا أحد يستطيع أن يتخفى وراء ظل أصابعه ، ولا أن يحجب بيده نور الشمس ، ولا أن يلبس الفساد حجابا ولا نقابا ، فالفساد يتوحش فى مصر ، ويحكم قبضته على قرار التنفيذ والتشريع ، ولا يتأثر بجروح ولا رضوض تصيبه ، من نوع المطاردات الرقابية التى تجرى هنا أو هناك ، والقبض على مسئول أو آخر بتهم تلقى الرشاوى ، فكلها ضربات متفرقة ، لا تصيب الفساد فى قلبه ، ولا تتطلع لإنهائه بالضربة القاضية ، ولا تفكك سلطته كنظام حكم وثقافة شائعة مهيمنة ، بل تضيف إليه مددا وزادا جديدا ، وتلهى الناس بتداعى الحوادث المفرقة عن أصل الداء ، ووضع المقدرات كلها فى خدمة سلطة الفساد ، وإقامة حفلات وحملات لتكريم الفساد والفاسدين ، وجعل سلوكهم فوق القانون والمساءلة وحقوق التقاضى ، بل وفوق الدستور نفسه ، وإقامة نظام قانونى شامل لتحصين الظالمين والنهابين ، وجعلهم فى مكانة الأسياد لا اللصوص ، وعلى طريقة قانون تحصين عقود الدولة ، والتعديلات المفزعة على قانون الكسب غير المشروع ، التى تتيح التصالح فى نهب المال العام ، وتجعل أحكام القضاء حبرا على ورق ، والتى سبقها القرار بقانون رقم 4 لسنة 2012 ، والمعروف إعلاميا بقانون التصالح مع رجال الأعمال ، ولم تنته كلها إلى استعادة مليم واحد من مئات المليارات المنهوبة ، بل بدت كفرصة "أوكازيون" مفتوح ، وموسم مجانى لتشجيع السرقات والحث على المزيد ، وتصوير السارقين كأنهم من أولياء الله الصالحين (!) .

وربما لا تكون من قيمة كبيرة ولا صغيرة لأحاديث طنانة عن استراتيجيات مكافحة الفساد ، وتشكيل اللجان تلو اللجان ، وتصدير الإيهام بأن كل شئ تمام ، فأسهل طريقة بيروقراطية لدفن أى موضوع هى تشكيل لجنة ، وهى طريقة يعرفها الظالمون أيا كانت درجة تعليمهم ودرايتهم ، وحتى الشاويش على عبد الله صالح فعلها حين كان يحكم اليمن ، فقد ضج المتنورون اليمنيون من عادة "تخزين القات" ، وقضاء اليمنيين لنصف وقتهم فى مضغ وتخزين القات ، والتلهى بالنيات الأخضر المخدر ، وتحويل الأفواه إلى بالونات منتفخة ، وكان من مصلحة الشاويش صالح ، كما من مصلحة أى طاغية فاسد ناهب مثله ، أن يبدى التجاوب الصورى مع دواعى رفض العادة الكريهة المؤذية ، وأن يتظاهر هو الآخر برفض عادة "تخزين القات" ، وأن يشغل الناس عن سرقاته وتضخم فساد عائلته الحاكمة ، فأمر بتشكيل لجنة عليا لمكافحة تخزين القات ، وعقدت اللجنة مئات الاجتماعات ، وتلقت الحوافز وبدلات حضور الجلسات ، ثم اكتشف الناس فى النهاية خديعة اللجنة العبثية ، وعرفوا أنها كانت تمضى وقت اجتماعاتها الطويلة فى تخزين "القات" الذى تحاربه (!) ، وضحك الشاويش صالح من سذاجة الذين صدقوه ، فهو يريد من الناس أن يتلهوا عنه بتخزين القات المخدر للأعصاب ، ولا بأس أن أضاف إليهم وجبة قات جديدة ، ودعم عملية تخزين القات بتخزين اللجنة نفسها ، وما حدث فى اليمن يحدث فى مصر ، بل أن البيروقراطية المصرية هى التى علمت الآخرين حيل تشكيل اللجان ، وربما لا نحتاج إلى بحث كثيرعن اللجان إياها ، فاللجان فى كل مكان ، خذ عندك ـ مثلا ـ سيرة اللجان التى تشكلت لاسترداد الأموال المنهوبة ، وقد صرفوا على اجتماعاتها سبعين مليون جنيه من خزانة الدولة المنهكة ، ودون أن تسترد اللجان مليما واحدا من الأموال المهربة للخارج ، ودون أن يتوقف تشكيل لجان أخرى تتكاثر كالفطريات ، تغرف هى الأخرى من مال الدولة ، وتستمتع بالحوافز وبدلات السفر وإقامة الفنادق ، وعلى طريقة ما يقال لك من استعداد وزير العدل أحمد الزند لزيارة سويسرا ، ومواصلة البحث مع سلطاتها فى قضية استعادة 590 مليون فرنك سويسرى مسجلة بأسماء مبارك وجماعته ، برغم أن الأمر صار قضاء مقضيا مع زيارة النائب العام السويسرى الأخيرة للقاهرة ، والتى كلفت خزانة الدولة مصاريف ضيافة بمئات الآلاف من الجنيهات ، ولم تسفر سوى عن بيان الخيبة الثقيلة ، وإعلان النائب العام السويسرى عدم اعتداده بحكم محكمة النقض القاضى بإدانة مبارك ، وبرغم ما جرى ويجرى ، يواصلون الضحك على ذقون الناس ، ويحولون لجانهم إلى مجارى استنزاف ونهب وفساد مضافة ، وتأمل ـ من فضلك ـ عدد اللجان التى شكلوها بدعوى استرداد قيمة أصول منهوبة فى الداخل بعد ضياع المليارات المهربة للخارج ، وخذ عندك ـ مثلا ـ لجانا شكلتها الحكومات المتعاقبة ، وواصلت اجتماعاتها الطويلة فى الفحص والدرس وإعداد القوائم ، واكتشفت حقوقا مضيعة للدولة فى أراضى المجتمعات العمرانية وعلى الطرق الصحراوية ، بلغت قيمتها ما يناهز التريليون ـ أى الألف مليار ـ جنيه مصرى ، وبدا لوقت أن المسألة قد تنقلب جدا ، ثم سرعان ما انتهت إلى هزل عظيم ، وظلت الحكومة تعطى المهلة إثر المهلة للحيتان الناهبين ، وتوحى أنها قد تتخذ اجراءات عنيفة ضدهم ، وأنها قد تسترد الأصول المنهوبة ، ثم لم تسفر القصة كلها عن استعادة مليم إلى الآن ، وألهوا الناس بدراما القبض على وزير الزراعة ، ومحاكمته على رشاوى "البدل" و"الكرافتات" وتذاكر الحج والعمرة ، بينما ضربوا صفحا و"طناشا" عن مئات المليارات الضائعة ، ثم انتقلوا إلى خدعة جديدة ، هى مفاوضات التصالح مع الناهبين القدامى والجدد ، عبر وزير العدل وجهاز الكسب غير المشروع ، وأعلنوا عن عروض لاستعادة عشرات المليارات لا مئاتها ، ودون أن تنتهى القصة إلى شئ حتى الآن ، فلم تجر استعادة مليم لا بالمحاكمات ولا بالمصالحات ، ويحاولون ستر المخبوء الآن بحديث عن انفراج قريب ، وعن إمكانية استعادة نحو 500 مليون جنيه من أربعين لصا كبيرا ، وكأننا بصدد استعادة سيناريو "على بابا والأربعين حرامى" ، مع العلم أن المخلوع مبارك رفض دفع 147 مليون جنيه مقابل توقى حكم الإدانة الباتة من محكمة النقض ، ولا بأس عندهم من إثارة غبار كثيف للتخفى بالسرقات ، وعلى طريقة تشكيل ما أسموه "لجنة تقصى الحقائق" ، وشغل الناس بقصة هشام جنينة رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات ، والذى يحاصرونه ويحاكمونه لأنه قال بعض الحقيقة الثابتة بالوثائق ، وأعد تقريرا عن تكاليف الفساد فى أربع سنوات مضت ، انتهى فيه إلى تقدير فاتورة الفساد بما يساوى 600 مليار جنيه ، مع أن الرقم أقل بكثير من الحقيقة ، ولا يأخذ فى حسابه تكاليف الفرص الضائعة ، ولا فساد المليارديرات الذين لا تمتد إليهم رقابة الجهاز المركزى للمحاسبات ، لكنهم يريدون عقابه ، وجعله أمثوله وعبرة للآخرين ، وحتى لا يفتح أحد فمه بكلمة تجترئ على مقام الفاسدين ، فالمطلوب هو "تبييض وش" الفساد ، وجعله على العين والرأس ، وإقامة حفلات لتكريمه ، وربما منح النياشين والأوسمة لكبار الفاسدين ، والاكتفاء بتقديم أكباش فداء من صغار المرتشين ذرا للرماد فى العيون .
وقد تصوروا أن قرارات حظر النشر قد تغلق الملف ، مع أن هذا النوع من القرارات لم يعد يفيد أحدا ، ولا يطفئ نارا ، فملف الفساد قضية رأى عام بامتياز ، بل هى قضية القضايا فى مصر الآن ، وإذا منعوا الصحف والإذاعات وقنوات التليفزيون من النشر ، وهددوها بالعواقب وسوء المآل ، فإن هذا كله لن يكمم الأفواه ، ولن يحظر النشر على شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى ، وكلها فضاءات حرة لا تقيدها قرارات النيابة ولا السلطات ، وسعة انتشارها أكبر من كل وسائل الإعلام التقليدى ، ثم أن الفساد ينشر نفسه بنفسه ، وتزكم رائحته الأنوف ، ويلمسه كل مواطن مصرى فى حياته اليومية ، وهو ما قد يثير الريب فى قرارات حظر النشر ، ويقطع بعدم جدواها ، فوق العوار المتعلق بمصادرتها الغليظة لحق الناس الدستورى فى المعرفة ، وهو ما أكد عليه حكم أخير للقضاء الإدارى ، تضمنت حيثياته تنديدا بليغا بقرارات الحظر ، واعتبرتها منافية لحقوق الناس فى استقاء المعلومات الصحيحة ، ووسيلة لإحلال الشائعات محل المعلومات ، أى أنها تحقق الغرض العكسى تماما ، وتثير البلبلة بأكثر مما تبعث على الثقة ، فوق أنها ـ فيما نرى نحن ـ عودة لقرارات وقوانين "أهل الكهف" ، فلم يعد ممكنا فى عصر ثورة الاتصالات حجب أى شئ ، ولم يعد لقرارات المنع والحظر من تأثير واقعى يذكر ، وكان الأجدر بسلطة النيابة العامة أن تنأى بنفسها عن الالتباسات ، خاصة فى قضايا الفساد ذائعة الصيت ، فقد صار الناس يعلمون حقيقة ما جرى قبل قرار حظر النشر ، ويعرفون أن بيان ما يسمى "لجنة تقصى الحقائق" مزيف بالكامل ، وأنه جرى إعداده حتى قبل اجتماعات اللجنة ، وتعمد حجب نصوص تقرير هشام جنينة الأصلى ، وتصويره للناس على أنه تقرير مبالغات متعلقة بفساد قديم لاحديث ، وقراءة عبارات التقريرعلى طريقة "ولا تقربوا الصلاة" ، والإفراط فى "القص واللصق" على نحو بالغ الفجاجة ، وبهدف تضليل الناس لا تقصى الحقائق ، وعندما شاع خبر التزييف المقصود فى بيان اللجنة إياها ، وتبين أن تقرير جنينة كان دقيقا وصحيحا ، وأن الرقم الذى ذكره كمتوسط سنوى لتكاليف الفساد واقعى جدا ، وأقل بكثير من الرقم الذى توصلت إليه دراسة أحالتها وزارة التخطيط جرت بالتعاون مع البرنامج الإنمائى للأمم المتحدة ، فقد ذكرت الدراسة أن تكاليف الفساد سنويا تصل إلى ما يزيد على 257 مليار جنيه ، بينما رقم تقرير هشام جنينة ينزل بالرقم سنويا إلى حدود المئة وخمسين مليار جنيه ، حين تكشفت الحقيقة أو كادت ، وبدا أن السحر قد ينقلب على الساحر، أرادوا "كفى الماجور" على الخبر اليقين ، وسترعورات لجان وحفلات ومواسم تكريم الفساد .
[email protected]

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة