خلاف مع الرئيس

السبت، 06 فبراير 2016 06:47 م
خلاف مع الرئيس
عبد الحليم قنديل

الرئيس السيسى قال أخيرا أنه "لا يزعل" من أحد ، ولا يغضب من نقد ولا اختلاف ، فاللهم اجعل كلامنا خفيفا على قلب الرئيس ، وعلى معدة الأجهزة التى تتطوع لتقديم الخدمة الغشوم "عمال على بطال " .


وقال الرئيس ـ فى ذات الاتصال الهاتفى مع قناة "أوربت" ـ أنه وفريق معاونيه فشلوا فى التواصل مع الشباب ، وهو اعتراف فى محله تماما ، لم ينس معه الرئيس روايته المفضلة عن انهيار الدولة ، وأن هدفه هو تثبيت الدولة ، وهذا كلام لا بأس به فى العموم ، وإن كان الرئيس قد أخطأ ـ فيما نظن ـ فى تاريخ بدء ما يسميه انهيار مصر ، ودفعته الرغبة فى المبالغة إلى مد أجل الانهيار ، والقول أنه بدأ من خمسين سنة ، وبعد هزيمة 1967 كما قال.


والحق أن الرئيس السيسى ليس وحيدا ولا فريدا فى التوقف عند 1967 ، واعتبارها نقطة النهاية لمشروع النهوض الناصرى ، فثمة فريق كامل من المتابعين والقارئين للتجربة الناصرية ، وبعضهم من أشد المتحمسين لها ، يرون أن جمال عبد الناصر مات فى 5 يونيو 1967 ، وليس فى 28 سبتمبر 1970 ، وهم يقصدون بالطبع مشروع عبد الناصر ، وهذا انطباع خاطئ تماما فى تقديرنا ، وقد ينطوى على فوائض عواطف مجازفة ، بأكثر مما ينبنى على حقائق ومعلومات صحيحة ، وعلى تقييم دقيق للتاريخ ، وعلى قراءة حقيقة ما جرى بعد هزيمة 1967 ، وقد كانت حدثا كارثيا بامتياز ، كشف خللا مدمرا فى بنية وقيادة الجيش قبل الهزيمة المخزية ، واستئثار جماعة عبد الحكيم عامر وأزلامه بالجيش بعيدا عن سلطة وعين ورقابة جمال عبد الناصر ، وربما لأسباب تعود إلى خطأ قاتل ارتكبه عبد الناصر نفسه ، فقد غلبته عواطف صداقة مميتة مع شخص عبد الحكيم عامر ، ولم يكن يصح لها أن تتغلب ، ولا أن تمنع عبد الناصر من تسريح عامر عقب حرب 1956 ، وتأخر القرار إلى أن وقعت الهزيمة الخاطفة فى 1967 ، وظلم الجيش الذى لم يقاتل ، وأمرته قيادته العسكرية العاجزة بالانسحاب المهلهل ، وترك سيناء لقمة سائغة للاحتلال الإسرائيلى ، وهى تشكل ستة بالمئة من مساحة مصر كلها ، وحين وقعت الكارثة ، لم يتردد جمال عبد الناصر فى تحمل المسئولية الكاملة عنها ، وقرر التنحى الذى رفضه الشعب فى انتفاضة جماهيرية عارمة ، أعادت عبد الناصر إلى موقعه ، وحملته مسئولية إعادة البناء من نقطة الصفر ، وهو ماجرى بالضبط ، وفى زمن قياسى صاروخى مذهل ، فقد جرت الإطاحة بكل القيادات القديمة المفلسة ، وجرت عملية إعادة تنظيم شاملة للجيش ، وتقدمت قيادات وأجيال جديدة مقتدرة ، وجرى استئناف المعارك على الجبهة ، بدءا بمعركة "رأس العش" وإغراق المدمرة "إيلات" ، وبدء حرب استنزاف ردت الاعتبار للجيش المصرى ، ووضعت مصر كلها تحت السلاح ، وظهر جيش المليون ضابط وجندى ، فى بلد كان عدد سكانه ثلث العدد اليوم ، وأعدت الخطط الكاملة للعبور وتحرير سيناء ، ورفض عبد الناصر قبول أى تفريط أو مساومة ، فقد جرى احتلال سيناء فى 1956، وعادت مع الانتصار على العدوان الثلاثى ، وكانت خطة عبد الناصر ـ بعد 1967 ـ أن تعود سيناء ثانية بأقرب وقت ، وبغير صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو ، وكان الجهد الخارق وراء قضاء الله بوفاة عبد الناصر المبكرة ، وعمره 52 سنة لا أكثر ، مات الرجل فى ذروة النضج وأوان العطاء ، لكنه لم يترك مصر ولا دولتها منهارة كما يقول الرئيس السيسى ، والذى دخل ثانويته العسكرية فى زمن تعبئة ما بعد هزيمة 1967 ، والتحق كضابط بالجيش الذى تركه جمال عبد الناصر ، وفى أوان آخر مختلف سياسيا بعد حرب أكتوبر 1973 ، وكان ما جرى بعد حرب أكتوبر هو نقطة البدء الحقيقية للانكسار والانهيار ، وليس قبل هذا التاريخ أبدا ، فقد كانت الفترة من 1967 إلى 1973 هى أنضج فترات الدولة المصرية ، وأعظم فصول الوطنية المصرية المعاصرة بإطلاق ، كان الوضوح هو سيد الموقف ، وضوح الهدف والأساليب والأدوات ، وكانت التعبئة الشعبية فى ذروة حضورها ، وكانت الهزيمة كمحنة تتحول إلى منحة ، فلم يهرب أحد من الميدان ، ولا من تحمل المسئولية ، ولا حملها لغيره ، ولا بحث عبد الناصر عن تبريرات ، ولا عن شماعات يلقى عليها تبعة ما جرى ، فقد كان اكتشاف الخطأ ، والمقدرة على التصحيح الذاتى ، كانت تلك ـ مع غيرها ـ بعض مواهب عبد الناصر ومزاياه وملكاته القيادية النادرة ، وهكذا حول المحنة إلى منحة ، وبنى جيش مصر العظيم الثانى بعد جيش إبراهيم باشا ابن محمد على ، وكان البناء هذه المرة وطنيا شعبيا عصريا علميا ، بلا امتيازات لأحد ، وبلا طبقية مريضة مقيتة ظهرت بعد ما يسمى معاهدة السلام ، وكان جيش جمال عبد الناصر الذى حقق المعجزة ، وعبر القناة ، واقتحم خط بارليف ، وجعله حطاما ، وأثبت مقدرته الفائقة على صنع النصر الذى يليق بمصر ، وفى ظل دولة عظيمة التماسك ، وجهت غالب مواردها للمجهود الحربى ، وبتعبئة سياسية واقتصادية هائلة ، تبنى الجيش الذى يحمى ويحرر ، وتبنى فى الوقت نفسه تنمية واقتصادا انتاجيا ، تواصل ملحمة السد العالى ، وتضيف القلاع الصناعية الكبرى حتى بعد الهزيمة ، مع اطراد قوانين العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص ، والتوزيع العادل المنصف للثروة الوطنية ، واجتثاث ظواهر الفساد بلا رحمة للفاسدين ، وتثبيت أسعار السلع والاحتياجات الأساسية لعموم المواطنين ، وتوفير فرص العمل لكل قادر عليها ، وجعل معدل البطالة صفرا ، وتحقيق معدلات تنمية حقيقية معقولة حتى مع طغيان أولوية التعبئة العسكرية ، فقد حققت مصر معدلات تنمية حقيقية بلغت 4% سنويا بين عامى 1967 و 1969 ، وزادت معدلات التنمية الحقيقية إلى 19. 5% سنويا بين عامى 1969 و 1973 ، كان تصنيع مصر الواسع يمدها بطاقة الصمود والحيوية التى لا تنفد ، وكانت اندفاعة التنمية والتصنيع قبل 1967 ، تكفل لمصر الدولة الناهضة مخزونا عفيا ، فقد حققت مصر بين عامى 1956 و 1966 ، أعلى معدلات التنمية الحقيقية فيما كان يعرف وقتها بالعالم الثالث ، وكان يضم الصين الشعبية ، وقفزت معدلات التنمية إلى حدود العشرة بالمئة سنويا من أوائل الستينيات ، وبلغ المتوسط العام لمعدل التنمية السنوى 7. 6% سنويا بحسب أرقام البنك الدولى بين عامى 1956 و 1966 ، وقد تأثرت قفزات التنمية قليلا بعد 1967 ، وانخفضت الموازنات المالية الموجهة للمشروعين النووى والصاروخى ، لكن التصرف بالموارد المتاحة كان دقيقا وصحيحا فى عمومه ، وكانت عوائد التملك مساوية تماما لعوائد العمل ، ولم تفقد مصر وصلا بمشروع النهوض الجبار بمعايير زمانه ، وكانت تجربة مصر بارزة موحية على خرائط النهوض الكبرى فى العالم ، كانت تجربة مصر حتى حرب 1973 رأسا برأس مع تجربة كوريا الجنوبية ، كانت مصر رأسا برأس مع كوريا الجنوبية فى معدلات التنمية والتقدم والاختراق الصناعى التكنولوجى ، وكانت التعبئة العسكرية تعبئة صناعية وعلمية فى الوقت نفسه ، وبالطبع لم يكن كل شئ مثاليا ، ولا خاليا من أخطاء كبيرة وصغيرة ، لكن الخط العام للتطور كان يمضى بدأب ونضج ، صقلته تجربة الهزيمة نفسها ، وكان عبد الناصر ـ مع هذا كله ـ حريصا على بناء تحالف عربى جديد بقيادة مصر ، وعلى تفكيك الاحتقان السياسى بالداخل ، وعلى التفكير بالتحول إلى التعدد الحزبى بعد إزالة آثار العدوان ، وعلى إطلاق سراح المحتجزين السياسيين بالسجون ، وإلى أن جرى "تبييض السجون" إلا قليلا ، وإلى أن تراجع عدد المحتجزين الإجمالى إلى 273 شخصا لاغير وقت الوفاة المفاجئة لجمال عبد الناصر ، وهو ما يؤكد أن التجربة الناصرية كانت فى ذروة حيويتها ونضجها ، لولا أنها كانت تفتقر بالخلقة إلى تنظيم سياسى شعبى ، وكان سندها بالأساس هو "كاريزما" جمال عبد الناصر التى لا تستعاد ، وقد كان رحيل الرجل إيذانا برحيل التجربة ، التى استمرت بالقصور الذاتى ، وبهياكلها السياسية والاقتصادية والعسكرية حتى حرب العبور فى أكتوبر 1973 ، ثم كانت خيانة السياسة لنصر السلاح والشعب والدولة ، والانقلاب على الناصرية ، والتواطؤ مع اليمين الدينى الإرهابى المتخلف ، وبدء زمن الانهيار المتسارع مع "انفتاح السداح مداح" ، ودهس الذين "هبروا" لدم الذين عبروا ، وافتتاح مواسم النهب العام وتجريف الموارد والأصول ، وعلى طريقة "خلى بالك من اسكندرية ياحاج رشاد" ، وتوقيع معاهدة العار ، وإغراق مصر فى ديون خارجية وصلت إلى 50 مليار دولار مع اغتيال السادات ، وخلع مصر من مصريتها ومن عروبتها ، وهو ما ندفع ثمنه إلى الآن ، وندفع ضرائب الدم لتحرير سيناء ، التى تركت منزوعة السلاح فى غالبها لقرابة أربعة عقود .


والخلاف هنا مع الرئيس السيسى ، ليس خلافا فى قراءة التاريخ ، بل خلاف فى قراءة الحاضر والمستقبل ، فلا يصح أن تدواى مصر بالتى كانت هى الداء ، وقد يستحق الرئيس السيسى تأييدا فى اختياراته الوطنية غير المكتملة إلى الآن ، لكنه يستحق المعارضة الكاملة فى اختياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية الراهنة بالذات ، فالاختيارات الأخيرة هى ذاتها التى قادت مصر إلى الانهيار من أربعين سنة ، وليس من خمسين سنة ، يخلط فيها الحق بالباطل ، ولا تقيم تواصلا حيا مع الشباب والأجيال الجديدة ، لا يبدأ بغير"تبييض السجون" ، وإخلاء سبيل عشرات الآلاف من الشباب المحتجزين فى غير تهم العنف والإرهاب ، وقد لا تتسع السطور لشروح مضافة قد نعود إليها فيما بعد ، إن أبقانا الله على قيد الحياة والكتابة ، ووقانا غدر "كلاب السكك" .
[email protected]

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة