سلطة على «محطة مصر»

الأحد، 26 يونيو 2016 09:19 م
سلطة على «محطة مصر»
عبد الحليم قنديل يكتب

ثمة تناقضات مرعبة فى أحوال السلطة الحاكمة لمصر الآن ، فلا تكاد تلحظ انضباطا فى الرؤية ، ولا شيئا مفكرا به ، ولا سلوكا مقصودا بذاته ، اللهم إلا فى القضايا المركزية من شواغل الرئاسة ، من نوع السياسة الخارجية عربيا وإقليميا ودوليا ، وقضايا الدور المصرى فى محيطه العربى ، وقضية تجديد الجيش وتسليحه وتطوير صناعاته الحربية ، وتقليص السطوة التى كانت مستديمة لواشنطن على القرار المصرى ، وكذا اختراقات ملفتة للمحظورات ، على طريقة استعادة الروح للمشروع النووى السلمى ، وبناء محطات الطاقة النووية فى "الضبعة" ، وبتعاون وثيق متشعب مع الروس ، وهو ما قد يمتد إلى طموحات إحياء الصناعة المصرية ، والبدء فى دورة تصنيع شامل اعتمادا على هيئات الجيش فى المقام الأول .


وفى مقابل وضوح الرؤية فى القضايا الوطنية بعامة ، والانضباط الملحوظ فى القضايا الأولى برعاية الرئيس ، من نوع سلاسل محطات الطاقة ، وشبكة الطرق ، والمدن الجديدة ، ومشروع منطقة قناة السويس ، وطموح استصلاح زراعى لملايين الفدادين المستهدفة ، وكلها ـ مع غيرها ـ تتم فى دائرة شبه مغلقة ، بين الرئيس وجنرالاته فى قيادة الجيش ، وبأولويات الانضباط والكفاءة والسرعة القصوى ، وتخصيص موارد هائلة ، بلغت إلى الآن ، وبحسب تقديرات الرئيس السيسى لما جرى فى عاميه الأولين فى الحكم ، ما يجاوز مبلغ التريليون جنيه مصرى ، أو بالدقة ـ كما قال الرئيس ـ تريليون و40 مليار جنيه بعد ضغط النفقات ، وهى مبالغ آخذة فى الزيادة ، تمول ورشة عمل غير مسبوقة ، يعمل بها ما يزيد على المليونى مهندس وفنى وعامل مدنى ، تحت إشراف وإدارة هيئات الجيش ، وتكون حالة إنجاز تشبه الإعجاز ، وتتم وفق تصور مسبق ، يبنى ما يمكن تسميته "مصر الجديدة" ، وبأحوال انضباط معاكسة لما يجرى عليه الحال فى الاختيارات الداخلية عموما ، وفى بنية (مصر القديمة) الغارقة بالفوضى والفساد ، وفى كل اتجاهات السياسة والاقتصاد والإعلام والأمن ، والتى قد تلحظ فيها غيابا ملموسا للرئيس ، وبعكس حضوره المكثف فى إنجازات (مصر الجديدة) ، فالرئيس يراقب ويجتمع يوميا برئيس الوزراء وأعضاء حكومته ، ويتحدث إليهم فى تفاصيل التفاصيل ، ويتقدم بوصايا لاتجد طريقها غالبا إلى التنفيذ ، وعلى طريقة وصاياه الدائمة بالتحكم فى انفلات الأسعار ، ودون أن تخف موجات الغلاء أبدا ، بل تزيد فى إطراد ، برغم نجدات موقوتة متفرقة من المجمعات الاستهلاكية الحكومية وبعض هيئات الجيش ، والرئيس يوصى بوقف الاقتراض الذى نعجز معه عن السداد ، وتومئ الحكومة برءوس الوزراء علامة على الموافقة ، ثم لا نجد سوى المزيد من الانفلات فى الاقتراض الخارجى ، وزيادة الأعباء على أجيالنا الحاضرة والمقبلة ، وإلى حد وصل معه الدين الخارجى إلى حدود 54 مليار دولار ، فوق العبء المضاعف للديون الداخلية ، والتى تكاد تناهز رقم الناتج الإجمالى للبلد ، وبرغم مأساة الديون المتفاقمة ، والتى تهدد بشل اقتصاد البلد تماما ، فوق عجز الموازنة المخيف ، وجنون المضاربات الجارية على الدولار ، والإخفاق شبه التام للسياسة النقدية ، مع الغياب التام لأبسط معانى العدالة ، وخفض الحد الأقصى للضرائب التصاعدية إلى .22.5% ، وكأننا بلد "أوف شور" كجبل طارق وجزر العذراء البريطانية ، برغم كل هذا الخراب ، وتصاعد معدلات النهب العام ، فإن أحدا لا يتوقف ولا يتبين ولا يفكر ، ولا تبدو من خطة أبعد من المعالجات اليومية البائسة ، ولا أبعد من التغول الأمنى الذى تزداد وطأته القامعة ، ويغيب عشرات الآلاف من زهرة شباب البلد وراء الأسوار ، وبتهم مطاطية مثيرة للأسى والسخرية ، من نوع توجيه تهمة قلب نظام الحكم لأى متظاهر سلمى ، وكأن الحكم كومة قش أو كيس رمل ، فالحكم الذى يخاف من مظاهرة سلمية لا يستحق البقاء ، والخلط بين الإرهاب والسياسة أقرب سبيل للفناء ، فلا أحد فى مصر يعارض أو يعاند فى ضرورات الحرب ضد الإرهاب ، وفى أولويات ترقية عمل جهاز الأمن ، وتطوير تكنولوجياته وخططه الوقائية ، وليس من نقص فى الموارد المالية المخصصة ، فمصر من شريحة الأعلى إنفاقا على الأمن فى الدنيا كلها ، لكن المشكلة ليست فى المال ، بل فى العقول التى تخطط وتنفذ ، ولا تدارى فشلها الخلقى بالتلطيش فى عباد الله المسالمين ، والدوس على اعتبارات السياسة البديهية ، والتى تلزم بحصر الخصوم فى أضيق نطاق ممكن ، وتوسيع دوائر الرضا والتفاهم العام ، وهو ما يحدث عكسه بالضبط فى مصر الآن ، فكل سياسة معارضة يحولونها إلى عمل إرهابى ، وكل نقاش واختلاف يوضع فورا فى خانة قلب نظام الحكم ، ولا مكان لغير القوة الباطشة واملاءاتها الغبية ، والقوة بطبعها غبية ، والقوة بغير عقل هى قمة الغباء ، والاعتماد على الأجهزة الأمنية وحدها وصفة فشل مضمون ، وقد كان مبارك فى آخر سنواته ، يعتمد فى الحكم الثنائى ـ بينه وبين ولده ـ على جهاز كان يحمل اسم "أمن الدولة" ، وكان جهاز أمن الدولة يدير السياسة والإعلام لحساب العائلة ، وقبل أن تحل الفوضى المزادة المنقحة كما يحدث الآن ، فلم يعد الجهاز القديم وحيدا فى الميدان ، بل دخلت على الخط أجهزة أخرى ، كلها تتنافس بطرقها الغشومة ، وتستجلب الأتباع فى السياسة والإعلام ، وتتحالف مع قطاعات من رجال الأعمال القدامى والجدد ، وعلى طريقة ما جرى فى تشكيل "المينى برلمان" المنتخب من "مينى شعب" ، وتقدم تقاريرها المتناقضة على مكتب الرئيس ، وتوهم صاحب القرار بأن كل شئ غاية فى التمام ، وبينما يتحرك جهاز أمن الدولة فى النطاق القديم لإعلام الدولة ، ويشد أزر "الزبائن" القدامى ، وعلى طريقة ما يجرى الآن فى تعطيل صدور "قانون الإعلام الموحد" طبقا لنصوص الدستور ، وهو ما يراد المصادرة عليه أمنيا ، وتشكيل "مجلس أمنى" يحكم الصحافة التى توصف بالقومية ، ونشر جيل قديم جديد فى قيادة المطبوعات ، وشن حملة أمنية لإسقاط استقلالية نقابة الصحفيين المصريين ، والعودة إلى فتح خزائن "البدلات المالية" لتعزيز فرص انتخاب "نقيب أمنى" ، ومع التحكم الأمنى المعتاد فى "ماسبيرو" وقنواته التليفزيونية الأعظم فشلا ، والتى تنفق عليها الدولة قرابة المليارى جنيه سنويا ، وبينما يتحرك جهاز "أمن الدولة" لترميم البناء الإعلامى القديم المتصدع ، وإحكام السيطرة الأمنية عليه ، وإعادة تنصيب "أولاد الأجهزة" فى رئاسات مجالس إدارته ورئاسات تحريره ، وهو سلوك أمنى متقادم ، يتعارض مع اتجاهات أمنية لأجهزة لصيقة بشخوص السلطة الجديدة ، وتحكمها فكرة مد "أذرع إعلامية" فى مجال الإعلام الخاص ، وتقوم على مبدأ الاستحواذ وشراء قنوات الإعلام المملوكة لرجال أعمال ليسوا الأقرب إلى الإيقاع المطلوب ، وتكوين امبراطورية لإعلام يبدو خاصا فى ظاهره ، وما من دليل واحد على نجاح فكرة الأذرع ، فهى تغلق قنوات ومنابر إعلام ذائعة الصيت ، وتتخلص من الأصوات المشاغبة ، أو المستقلة فى الأداء والتفكير ، هى تغلق ما كان ، لكنها لا تقدم جديدا جذابا بأى معنى ، خذ عندك ـ مثلا ـ قناة تليفزيونية سلفية كانت شهيرة جدا ، وتحقق مستوى عاليا من المشاهدة ، اشتراها واحد من أجهزة اللهو الخفى ، واحتفظ باسمها التجارى ، وحاول حشوها بمحتوى دينى فى اتجاه مختلف ، وضاعف أجور المشايخ إلى أرقام فلكية ، ودون أن تستطيع القناة المحظية حفز أحد على مشاهدتها ، وبرغم اتصال بثها على مدى سنة وشهور إلى الآن ، يكاد الناس لا يعرفون عنها شيئا ، فقد نجحت عملية الاستحواذ ، ولكن فشلت عملية الاستبدال والإحلال ، وهذه هى مأساة الفوضى الضارية فى مصر الآن ، فلا رسالة إعلامية محددة ، ولا محتوى إيجابى ذى مغزى ، ولا تزيد القصة على كونها رغبة محمومة فى الإغلاق والمصادرة ، تتم غالبا بصفقات الاستحواذ على القنوات والصحف والمواقع الالكترونية ، وإلى أن تتم الصفقات وتؤتى أكلها ، فلا بأس من "مصادرات مكتومة" لأصوات المشاغبين والمستقلين ، وعلى ظن بالغ الخطأ والخطل ، هو أنه بالوسع تكميم الأفواه وقطع الألسنة فى دنيا الثورة الهائلة بوسائل الاتصال ، فلم يعد ممكنا لطرق وقوانين (أهل الكهف) أن تفيد أحدا فى عصرنا .


إنها الفوضى الضاربة ، والتجريب البدائى ، وحيرة سلطة منشقة على نفسها ، فى اختياراتها وفى أجهزتها الأمنية ، وفى دولتها "المخرومة" بثقوب الفساد الواسعة ، أنها سلطة تائهة كما لو كانت على "محطة مصر" المركزية للسكك الحديدية فى القاهرة ، حيث الزحام هائل ، والنيات متضاربة ، والاختلاط ظاهر بين درجات المسافرين ، منهم من يملك تذكرة سفر ، وآخرون من "المزوغين" كالعادة ، وطوائف من اللصوص تترقب الحقائب ، وأكبر أحلامها أن تخطف وتجرى ، فلا هى من الذاهبين إلى الإسكندرية شمالا ، ولا من المسافرين إلى أسوان جنوبا ، والكل فى انتظار قطار أفلت موعده .
 

 

تعليقات (2)
الاختصاص
بواسطة: د. محمد عوض رضوان
بتاريخ: الإثنين، 27 يونيو 2016 11:48 ص

يا أستاذ عبدالحليم نحن من قراءك ولكن الاختصاص أمر مهم، فما ذكرته في مقدمة مقالك أبدع فيه ريسنا المحبوب، وأما عن الأمور الداخلية أليس هناك حكومة مسئولة عنها وإن كانت باختيار الرئيس؟ مع تحياتي

اين الحقيقة
بواسطة: فوزى عبد القادر عبد الواحد
بتاريخ: الأحد، 10 يوليو 2016 04:50 م

الضرب من حديد للفاسدين مهما كانت مناصبهم لاتزيد المكافئات والحوافز والمنح عن ربع المرتب رفع دعم الوقود عن جميع المركبات وتحديد تعريفة لعمليات النقل سواء بالطن او الكيلوا متر تعريف من هو محدود الدخل فوزى عبد القادر

اضف تعليق