حقيقة البشر بين المظهر والجوهر

الأربعاء، 20 ديسمبر 2017 05:25 م
حقيقة البشر بين المظهر والجوهر
رشا الشايب تكتب:

كثيرٌ منا، ولكى يظهر بكل هذا الثبات مع ادّعاء وهم الاتزان، يمر بصراعات وانكسارات وانهزامات، وحروب داخلية عنيفة، تجرى في النفس ولا يشعر بها أحد، أو يشارك في تحملها بشر، ولا يدرى من هم حولك بمجهودك الثقيل المضاعف الذى تبذله لكى يبدو مظهرك الخارجي بكل هذا الثبات، مظهرٌ هادئ يُخفى حقيقة جوهرك الغاضب، ولا يعلم حقيقة النفس إلا بارئها، ولكنى سأحاول جاهدة أن أصف لكم جزء من حقائق النفس المعذبة في حالتين من أكثر حالات الصراع قوةّ واحتداماً.    

 

أولهما، شعور المظلوم، والذى قد سُلب حقه، أو قيل فيه ما ليس فيه كذبًا وافتراًء، أو أُلصقت به التهم ظلمًا وعدوانًا، أو وقع عليه إيذاء معنوي أو جسدي قهراً وامتهاناً. فتجد مظهره لا يدل على جوهره وحقيقة شعوره، فمظهره يغلب عليه الصمت والهدوء وإخفاء الحزن والجمود، وادّعاء الثبات والميل إلى اعتزال الناس والشرود، أما حقيقة شعوره فدعوني أصفه لكم، فالمظلوم، نفسه كسيرة جريحة غير مطمئنة، لا تهدأ أو تفرح، لا تسكن أو تمرح، حُرِمت عليه الطمأنينة والسلام، وكُتِب عليه القلق والتوتر والآلام. يمتلكه صُراخ داخلي عنيف يريد أن يخرج للعالم من حوله يعلن فيه براءته، أو يُثبِت فيه صِدق جوهره، فالصبر أصعب قراراته، والإنصاف حلم حياته، المرارة استوطنت نفسه، والحزن علا ملامح وجهه، وأحياناً تَتمَلكه الرغبة في الانتقام ودفع الظلم والاتهام، والبدء مع الظالم في الصدام، لكن تُوقفه وعود الله بالنصر المقدام، مهما طالت الأيام، فلولا وجود الله الخالد والأمل في عدله الحاصد لما أُغمضت عيناه، أو هدأت واستراحت دنياه.   

ثانيهما، الكُفر بالمبادئ، والتي لطالما كانت راسخة بالعقل، مطمئنٌ بها القلب، ولكن وبعد صراعات طوال ينقلب الحال، فما كان راسخ بالذهن بالأمس من قيم ومبادئ، أصبح اليوم وهم وسراب، بعد أن استوطن في النفس الشك والارتياب، وبعد أن واجهت الصعاب والتحديات والتعقيدات، فَكَفَرَت بالثابت، وهَدَمَت بداخلها البناء القيمي، والذى من المفترض أن يكون صَامد ضد  التقلبات و الأزمات.

وهذه النفس أُشفق عليها من كل قلبي، بل وأدعو الله لها بالعودة سريعاً إلى الطريق الصحيح، والندم مع التصحيح، وهذه أيضاً يختلف فيها المظهر عن الجوهر، فبرغم التحول الفاضح في المبدأ، والرغبة في قتل الحق وإخراج الباطل الأسوأ، إلا أنه مازال يهمس فيها صوتاً خافتاً يطالبها بالعودة إلى ما عرفت من الحق والالتزام بالمنهج، فهو الأمل والملجأ. 

والأمثلة كثيرة وحدث بلا حرج، فحينما ترى الغشاش ينجح ويرقى، وصاحب المال الحرام في مكانٍ أعلى، ومُجرم لم يُحاسب على فَعلته بل وفى الأرض استَعلَى، وكاذبٌ يكذب بلا خجلٍ حتى، وخائنٌ يخون بلا مبررٍ أو معنى، ومن يرمى الناس في ذممهم وأخلاقهم ولم يتروّى، ومظلومٌ لم يجد من يُنصفه، فقرّرَ ألاّ يُنصِفَ أحداً.

ومصدومٌ شَهد أُناسٌ الزُور في حقه، فاستحلّ شهادة الزُور كيداً بكيد والبادئ أظلم، ورحيمٌ مع الناس يساعد الصغير قبل الكبير، ووقت ضعفه واحتياجه للغير لم يلق أحداً، ووَفِىٌ مخلص، يكرهُ الغدر، ولكن فوجئ بالطعن من أقرب الناس، وآخر يحترم الجميع ويتواضع لخلق الله، ولم يجد جزاءً لعمله أوفى، ونظيفُ القلب، لم يؤذى أحداً بل يفرح للغير إن جاءهم الخير مددًا، ومع ذلك يرى نوبات الأذى تتسابق لديه عددًا وفي كل الأوقات، والأمثلة مازالت كثيرات، إن أردت انظر حولك، وسترى الشر في أغلب الجهات.   

هؤلاء قد آمنوا بالمبادئ وصدّقوا فيها، وكانت منهجاً يُميز سلوكهم، ونوراً يُضئ قلوبهم، وهدىً يُرشد عقولهم، ثم حَدَثَ أن فُتنوا بالأشرار، وَلِحق بهم الألم والأضرار، وصُدموا في مجتمعٍ قبيح، أصبحت فيه الفضيلة تختبئ في كهفٍ مهجور، وَهَنَت من محاربة الفُجور، فلم تعد تقوى أن تثور، بعد أن استفحل الشر بقوة وغرور.

ولكن!! هؤلاء نسوا أو تناسوا حقيقة هامة، أن الإيمان بالمبادئ غايته تنفيذ ما أَمَرَ به الله، ونشر شريعته السمحة الغرّاء، دون النظر إلى ردود الأفعال، أو السيء من الأقوال، ومهما قابلت من أهوال وضلال وانحلال، ولو كنت وحدك في طريق طوال، أو حتى لو لجأت إلى الانعزال، ووقتها لا تغتر بنفسك أو تراها من الأبطال، فلولا السند من المَولى المُتعال، لما لَزِمت منهج الأخيار في الأقوال والأفعال.

ولن يكتمل إيمانك ولن يصل لتمامه إلا وقد امتلكتك وبالكلية هذه الحقيقة الإيمانية الثابتة الملزمة، وهى أنّ هناك سننا كونية إلهية تحمى منظومة القيم كـ ( الخير –الحق –العدل- الإنصاف- حفظ حقوق الأفراد) والتي شرّعها الله وأَمَرَ بها عباده.

نعم، سنن كونية تضمن بقاء واستمرار القيم على وجه الأرض، وإلى يوم الدين، بل قل وتفرضها فرضاً وتنتصر لها في النهاية ضد من يحاول العبث بها أو محاربتها.

وليس ذلك فقط بل والانتقام ممن يتجرؤوا على تشويهها وهدمها والترويج لضدها، كنشر الظلم والفساد والشر بين الناس.

وكما آمنت بوجود قوانين كونية مادية - أنشأها الخالق - تحكم استمرارية بقاء هذا الكون وتحفظ وجوده من حيث (المادة- الذرة - التكوين)، وجب عليك أن تُدرك، وبيقينٍ عميق، وبطمأنينة المتأكد الوثيق، أن من خلق هذا الكون، قادرٌ بتمام القدرة وبعظيم المقدرة على إنصاف المظلوم والانتقام من الظالمين، مُصِرٌ على رد الحقوق لأصحابها، حريصٌ على فرض صولجان العدل على رؤوس العباد، وبكلمة منه ولو بعد حين، وإن شككت في ذلك ولو ذرة، فراجع إيمانك مع الله، وعُد لرشدك مصدقاً بآيات الله. 

هذا وصفى المتواضع البسيط لصراع لم يكن بالهيّن أو البسيط، ولا أدّعى المثالية، ولا أقولُ أنى أمتلك صفات الكمال النورانية، فمن أنا كي أصف نفسى بالمثالية؟ أو أتباهى بكوني ملائكية؟ بل أنا من الخطّائين، وهم  الأغلبية، الذين يؤمنون بالإرادة الإلهية، ويرجون رحمة الله الأبدية، ويخافون غضبه على البرية، ويطمعون أن يكون لهم في سباق الجنة الأفضلية.

فَطَرَنا الله جميعاً كَبَشَر، تَغلِب علينا صفة النقصان في الصفات والقدرة البشرية، فالكمال صفة تُنسب فقط للذات الإلهية، فهنيئاً لمن غَلَبَ نور إيمانه على طين بشريته فقلّ نقصانه إلى أدنى الحدود الدنيوية. 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق