رسائل تكتب نفسها

الأحد، 22 أبريل 2018 06:42 م
رسائل تكتب نفسها
محمود الغول يكتب:

بعد اجتيازه صندوق البريد الخشبي المتآكل في مدخل العمارة القديمة بثلاث خطوات، توقف ثم عاد الخطوات نفسها للخلف، وأمعن النظر في الباب الزجاجي للصندوق، فرغم الغبش، إلا أن الزجاج كان يشي بوجود شيئ خلفه.
 
أمعن النظر، ثم أدار مقبضًا صغيرًا يتوسط الإطار الخشبي للصندوق، وفتح بابه بصعوبة، وأخرج ظرفًا ورقيًا قديمًا محشوًا بأوراق أخرى داخله، قبل أن يعيد إقفال باب الصندوق مع إدارة المقبض ليحكم إغلاقه.
 
أخذ يقلب الظرف على جانبيه، متفحصًا سطرًا مكتوبًا بخط طيب (المرسل إليه: آدم سلامة.. 11 شارع جزيرة الورد.. القاهرة.. الدور الثاني.. شقة 22).
 
بحث عن اسم المرسل لكنه لم يجد شيئًا، فقط طابع البريد أخبره أنه أرسل من مدينة السحر، الإسكندرية، فراح يجرد ما تبقى من ذاكرته، عله يتوصل لذلك المرسل المجهول، غير أنه فشل، فكل معارفه هناك باتوا ما بين متوفي وراحل ومهاجر.. لقد فرّوا إلى ما وراء البحر لعلل مختلفة.
 
دسّ الظرف، الذي أصفرت بشرته بعد بياض، في جيبه، وصعد السلم..
يوجد في العمارة مصعد، لكنه لا يعمل منذ أن سقط ومات داخله الأستاذ برسوم، أمين مخازن الشركة العالمية للتجارة، قبل عشر سنوات.. كان وقتها برسوم على المعاش، ويومها هم بالنزول بغية الذهاب إلى «البوسطة» ليتسلم معاشه الشهري، لكنه مات مشجوج الرأس ومفتوح الصدر، قبل أن يأخذ مليمًا من المعاش الذي تحول بعدها إلى ابنته إيفون..
 
وإيفون، فتاة رقيقة.. لها من الجمال نصيب وافر، تمامًا مثل شعرها الذي يصل حتى منبت مؤخرتها، لكنها لم تتزوج.. كانت على وشك الزواج من ابن خالتها هاني، الذي ذهب للحرب ولم يعد..
 
كان هاني شابًا مثل عود نعناع عفي، كله نضارة وحيوية ينشر البهجة هنا وهناك، وفي الليلة التي سبقت رحيله، لم ينم إذ ظل يغني ويغني ويغني.. غنى للنصر.. وغنى لحبيبته.. إلى أن سقطت قذيفة فحملت روحه إلى السماء.. لكن روحه أبت أن ترحل وحدها، فرافقتها روح صديقه وزميله بهجت..
 
ومن بهجت؟
بهجت أحمد محمود، مهندس ميكانيكي، تخرج ثم سارع إلى الجبهة، تاركًا أمه وشقيقته مديحة، كان يحلم بانتهاء الحرب ثم العودة إلى حضن أمه وأخته التي كانت وقتها تستعد للزفاف من سالم مرزوق حسين، مدرس الجغرافيا بمدرسة الأبطال بكفر النور.. وحين وصلها نبأ شقيقها أقسمت ألا يدخل الفرح قلبها يومًا، فأغلقته وألقت المفتاح في بئر لا يصل إليه النور..
 
صعد الرجل الدرج، ووقف أمام باب شقته ليتفحص الظرف مرة أخرى، إذ لم يكن لديه من الصبر ما يكفي لأن ينتظر حتى يضع يده في جيبه ليخرج المفتاح الذي سيدسه في فتحة الباب ثم يديره لمرتين قبل أن ينفتح الباب ليلج هو..
 
داخل الظرف توجد بعض الأوراق، كل ورقة تحوي سطورًا، مكتوبة بخطوط مختلفة، ومع ذلك ستتأكد أن كل هذه الخطوط كتبتها يد واحدة..
 
الأول، خطاب مكتوب بيد مرتعشة، خطه أحدهم وهو يبكي، ودموعه رغم مرور الزمن لم تجف بعد.. 
والثاني، خطاب معطر، تتراقص كلماته الملونة كفراشات خرجت للتو من شرانقها..
والثالث، خطاب يعلن موعد وصول صاحبه، الذي سافر إلى بلاد البترول..
والرابع، خطاب بطلب سلفة من أجل جهاز «البنت» الكبرى..
والخامس، خطاب عتاب إلى صديق لم يعد كما كان..
والسادس، خطاب إلى حبيب مشتاق..
والسابع: خطاب بلا سطور..
 
أغلق الباب خلفه، مارًا بصالون مذهب سقطت قشرته، وما أن اجتازه حتى ألقى بجسده إلى فوتيه يبدو أن لونه الأصلي كان أزرقًا..
 
لم يكن له أن يفشل في التعرف على خطّ يده، التي فقدها  قبل سنوات، ومع ذلك استهلك دقائق حتى تيقن من أنه خطه هو شخصيًا، ورغم صدق كل حرف من حروف كلمات الرسائل السبع، إلا أنه لا يتذكر على وجه الدقة متى كتبها وإلى من أرسلها..
 
المدهش أنه، وفي مناسبات مختلفة، هم بكتابة واحدة من هذه الرسائل، لكنه كان في كل مرة يتراجع عن الكتابة..
هو لا يعلم أن رسائلنا التي لم تخطها أيدينا تكتب نفسها، لكنها لا تصل إلا إلى الصادقين.. وإن لم تصادف صادقًا فإنها ترد إلى المرسل.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق