حزام الحكومة الناسف

السبت، 26 مارس 2016 03:24 م
حزام الحكومة الناسف
عبد الحليم قنديل يكتب


ربما لايبدو بيان الحكومة مهما ، ولا حتى شخص المهندس شريف إسماعيل رئيس الوزراء المعين من الرئيس السيسى .


رئيس الوزراء فى مصر لايزال فى مكانه القديم كسكرتير للرئيس ، وقد أرهقوا الرجل المرهق غاية الإرهاق ، وكلفوه بقراءة بيان استغرق ساعة أمام مجلس النواب ، وقطع الرئيس السيسى ـ دون أن يحضر ـ قول كل خطيب ، وطلب من البرلمان ـ "المينى برلمان" فى الحقيقة ـ التصويت بالثقة على الحكومة التى كلفها ، وهو ما يثق الرئيس أنه سيحدث تلقائيا ، وببركة تصويت الأغلبية الميكانيكية من "خدام" جماعة البيزنس وجماعة الأمن .


ولانريد أن نقسو على المهندس إسماعيل ، فقد ربط البيان ووضعه "مطرح ما عايزه صاحبه" ، وتحدث عن سبعة محاور فى نص إنشائى ركيك ، بدت كلماته باهتة متآكلة الحروف ، ومنقولة آليا من وعود سابقة لحكومات المخلوع مبارك ، ودون أن تبدو فى الأفق ملامح لرؤية جديدة ، ولا شبه جديدة ، تبرر توقعات رئيس الوزراء عن معدل النمو ومشاريع الإسكان والصرف الصحى ، والتى مدها إلى سنة 2020 ، أى بعد عامين كاملين على نهاية رئاسة السيسى الأولى ، وكأن إسماعيل يتوقع أن يمتد به الأجل فى الحكومة ، وإلى خط نهاية الرئاسة الأولى فى أواسط 2018 ، أو كأنه يتوقع أن يعيد السيسى تكليفه حال انتخابه رئيسا للمرة الثانية ، ولا بأس بتفاؤل السيد رئيس الوزراء بصدد مستقبله الوظيفى ، وإن كان لم يجد لتفاؤله وسيلة ، سوى بسرقة عبارة اشتهر بها باراك أوباما عند ترشحه رئيسا لأمريكا لأول مرة قبل ثمانى سنوات ، وقال إسماعيل ـ كما قال أوباما ـ "نعم نستطيع" ، ولعله قصد أنه "يستطيع" البقاء طويلا فى منصبه ، وهى مراوغة لفظية تذكر بأمل إبليس فى دخول الجنة ، فلم يلتفت الرجل إلى العبارة التى كلفوه بتلاوتها "خطفا" ، وهى جوهر المستفاد من بيان الحكومة على عواره اللغوى والسياسى ، والتى تحدثت عن ضرورة اتخاذ "القرارات الصعبة" التى تأجلت طويلا ، وقد سبق لإسماعيل أن أشار إليها فى لقاءات مع عينات تسويق مختارة من الكتاب والصحفيين ، وتجاهل الرئيس السيسى ذكرها فى لقائه مع العينة المختارة مع المثقفين ، ربما حتى لاتنفجر فى وجهه شخصيا ، فقرر إعادة تكليف إسماعيل بنطقها وتحمل مضاعفاتها ، وما من سر مخفى فى "القرارات الصعبة" إياها ، والكفيلة بإشعال حرائق تأكل حكومة إسماعيل ، وتحيله إلى مخازن استيداع سبقه إليها غيره ، فليس بوسع الناس أن يصبروا أكثر مما صبروا ، ولن يسكت أحد على "قرارات صعبة" ، من نوع خفض دعم الطاقة ، وإشعال جحيم الأسعار فوق الغلاء والغليان القائم ، وزيادة أسعار البنزين والسولار والمازوت والغاز والبوتاجاز والمياه والكهرباء وتذاكر القطارات ومترو الأنفاق ، ومن بعدها وقبلها كل السلع والاحتياجات الأساسية ، وهى القرارات التى لم يشأ إسماعيل أن يعلنها بصراحة وتفصيل فى بيانه ، حتى لاتعوق عملية نيل الثقة البرلمانية ، وإن رأى من كلفوه ، أن الإشارة إليها تكفى ، ولا يبقى سوى قرارات التنفيذ المؤجلة إلى حين قريب ، ودون أن يكون للبرلمان فرصة ولا دور فى الموافقة أو الاعتراض .


هذه هى حقيقة القنبلة التى أخفاها اسماعيل ، أو التى كلفوه بإخفائها على نحو ساذج مكشوف ، فقد ألبسوه الحزام الناسف ، وتركوه لمصير الاحتراق والتدمير الذاتى ، وفضل الرئيس السيسى أن يبقى هذه المرة بعيدا ، وأن يتحدث فقط عن إنجازات غير منكورة ، على طريقة مشروع تنمية قناة السويس وشبكة الطرق واستصلاح المليون ونصف المليون فدان ، ولا بأس بإضافة عناوين خدمية من نوع الإسكان الاجتماعى وشبكة الصرف الصحى ، وردت تكرارا فى بيان الحكومة ، ودون أن يجرؤ إسماعيل على ادعاء الفضل فيها ، فللرئيس السيسى حكومات أخرى أهم ، أظهرها حكومة الجيش التى يعتمد عليها بالأساس ، والتى تشرف على حركة المشروعات الكبرى ، فوق أن الرئيس يدير بنفسه قطاعات بذاتها ، أهمها قطاع الطاقة والإسكان وبناء المدن الجديدة ، ويتدخل فى تفاصيل التفاصيل ، ويناقش مصير كل مليم فى ماكينة إنفاق ضخمة ، تجاوزت حدودها حتى الآن مبلغ الخمسمائة مليار جنيه ، فما من عائق ولا عوز يقف فى طريق ما يمكن تسميته "رأسمالية الجيش" ، والتى تدير عملا يتسع بإطراد ، ويضم نحو مليونى مهندس وفنى وعامل مدنى إلى الآن ، ويضيف أصولا هائلة للوجود المصرى ، تحتاج بطبيعتها إلى زمن طويل لكى تدر دخلا ، أو تغير من ظروف اعتلال الاقتصاد المصرى ، بينما تترك حكومة إسماعيل وحدها طعاما للحريق ، وفى مهب ريح متاعب اللحظة ، وفى دوامة العجز المخيف فى الموازنة العامة ، ويطلب منها أن تدبر أحوالها ، وأن توجد إيرادات جديدة ، فلا تجد غير سياسة "المشى فى الجزمة" نفسها على طريقة الفنان محمد صبحى فى مسرحية "الجوكر" ، فتعالج الداء بالتى كانت هى الداء ، ولا تجرؤ على رفع عينها فى وجوه من تسميهم رجال الأعمال ، ولا على التفكير ـ مجرد التفكير ـ فى تطبيق خطة الضرائب التصاعدية ، ولا على مضاعفة الحد الأقصى لضرائب الدخل ، ولا على بناء اقتصاد انتاج حقيقى ، يزيد الصادرات ويخفض الواردات ، ويرد الاعتبار النقدى للجنيه المصرى ، فتلك كلها قرارات سيادية وأساسية ، لا يملك رئيس الوزراء حق التصرف فيها ، وهو الذى شكل وزارات الاقتصاد فى حكومته من "الخدم" التابعين لشركات مليارديرات النهب ، ولا شأن له بتحصيل مستحقات الدولة من الناهبين والفاسدين ، فهو يكتفى بعبارة هائمة عن "مكافحة الفساد" ، وردت فى بيانه الفارغ من المعنى ، ولم يحدثنا ، ولا حدثنا الذين كلفوه ، وألقوا به فى اليم ، لم يحدثوننا عن مصير قرابة التريليون جنيه (ألف مليار جنيه) مستحقة للدولة لدى ناهبى أراضى الطرق الصحراوية والمجتمعات العمرانية ، فتلك كلها مسائل تخص الرئيس لا رئيس الوزراء ، والمهندس إسماعيل هو "عبد المأمور" وليس "المأمور" ولا هو الآمر ، وقد قبل الرجل ـ لسذاجته ـ أن يلبس الحزام الناسف ، وأن يتحمل مسئولية الجهر بعنوان ما أسموه "القرارات الصعبة" ، وعلى ظن أن الفقراء والطبقات الوسطى هم "الحيطة المايلة" فى هذا البلد ، وأن المطلوب فقط هو حماية امتيازات الواحد بالمئة من المصريين ، وهم طبقة النهب و"الشفط" التى تملك نصف ثروة البلد ، وإجبار التسعين بالمئة ـ من الفقراء والطبقات الوسطى ـ على دفع تكلفة إصلاح عجز الموازنة ، وهم الذين لا يملكون سوى فتات وحطام يصل بالكاد إلى إجمالى ربع الثروة المصرية ، ويسميهم الرئيس ورئيس وزارته بمحدودى الدخل جريا على عادة المخلوع مبارك ، بينما هم من منهوبى الدخل ، ومع ذلك يتجبرون عليهم مقابل تدليل من يسمونهم برجال الأعمال والمستثمرين ، ومقابل "التطنيش" على ثروات الفاسدين المنهوبة ، وإزاحة رئيس جهاز المحاسبات من طريقهم ، وإقامة حفلات ومهرجانات لتكريم الفساد بدعوى محاربته ، وتحميل العبء كله على غالبية المصريين من الفقراء والطبقات الوسطى ، وإضافة العنت إلى العنت الواقع ، وجعل حياتهم جحيما لا يطاق ، وبهدف تمرير الخراب الذى يسمونه إصلاحا اقتصاديا ، وهو "الإصلاح" الذى جرى ابتذال معناه فى عقود حكم المخلوع ، وتجرى العودة إليه الآن تنفيذا لشروط البنك وصندوق النقد الدوليين ، وقد تحدث الرئيس السيسى مرارا عن ضرورة طرح أفكار من خارج الصندوق ، بينما أفكار حكومته ومستشاريه كلها من داخل "صندوق" النقد الدولى ، وليس فيها من جديد سوى إغراق البلد فى تلال من الديون ، وإجبار الناس على العيش فى ظلال تلال من قمامة الفساد ، ثم شق جيوب المعذبين المتعبين المنهكين بالفقر والبطالة والمرض ، والمخاطرة بطلاق بائن مع مطامح العدالة الاجتماعية المدهوسة ، والتعويل على شعبية مفترضة للرئيس السيسى ، تناقصت معدلاتها بشدة ، ولم تعد تحتمل مقامرة اتخاذ إجراءات جديدة ضد الشعب فى غالبه الساحق ، فقد سبق للرئيس اتخاذ خطوة أولى فى خفض الدعم وزيادة الأسعار ، وكانت شعبية السيسى وقتها فى أوجها ، ومرت الخطوة بسلام اجتماعى نسبى ، وهو ما قد يتصور الرئيس إمكانية تكراره ، ولكن ليس فى كل مرة تسلم الجرة ، فالغضب يجتاح النفوس ، وقد بدا غضب الناس صامتا مع إحجام أغلبهم عن المشاركة بالتصويت فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة ، بدا الغضب مكتوما ، وفى صورة عصيان مدنى تلقائى على طريقة "خليك فى البيت" ، وقد حذرنا مرارا وتكرارا من إمكانية تحول "الغضب الصامت" إلى "غضب ناطق" ، وتواترت أمارات الغضب الاجتماعى سراعا ، ولم يعد ينقصها سوى اتخاذ ما يسمونه "القرارات الصعبة المؤلمة" ، والتى قد تكون إيذانا بحريق لا يبقى ولا يذر ، فاحذروا اللعب بالنار ، وبأحزمة القرارات الناسفة .
إنه حزام السيسى الناسف ، يلقيه إلى خاصرة حكومة شريف إسماعيل على سبيل التفكير والتفجير الانتحارى .
 

 

تعليقات (1)
اتفق ولكن ما العمل؟
بواسطة: عبد التواب النمساوى
بتاريخ: السبت، 09 أبريل 2016 01:01 م

اتفق مع الأستاذ عبد الحليم قنديل ولكن ما هو الحل يا سادة؟ فتحقيق العدالة الاجتماعية فى هذا البلد يتطلب إجراءات و قوانين و تشريعات للحد من نفوذ طبقة رجال الاعمال و إعادة توزيع تلك الأموال التى تم اكتسابها فى ظل النظام السابق و قوانينه الفاسده، وهذا يعنى ان الرئس يحتاج على الاقل الى برلمان تفكر غالبيته فى هذا الاتجاه والا ستبوء اى محولة للرئيس لتعديل الوضع بالفشل و سيتهم فى الداخل و الخارج بالديكتاتورية و تبنى سياسات اقتصادية طاردة للاستثمار... الخ ولو افترضنا وجود هذه الأغلبية فى البرلمان بالفعل فأى وزارة واى وزراء بالله عليكم سينفذون تلك السياسات ومن اين يأتوا بهؤلاء؟ لقد اصبح العالم اليوم اكثر تعقيدا و لم تعد الإجراءات الاقتصادية مسألة قرارات فردية كالتأميم او نزع الملكية دون سند قانونى ولذلك فكنت اتمنى ان يتم وضع اقتراحات لإجراءات محددة و واقعية للرئيس قبل توجيه النقد اليه، لانى واثق ان اى انسان مهما كان فى مصر سيتعرض لنفس الصراعات اذا ما صادفه سوء الحظ واصبح رئيسا للجمهورية.

اضف تعليق