الحلقة الرابعة:

الإمام الأكبر محمد سيد طنطاوى.. المجدد المهدور حقه

السبت، 25 مايو 2019 01:00 م
الإمام الأكبر محمد سيد طنطاوى.. المجدد المهدور حقه
الشيخ محمد سيد طنطاوى
محمد الشرقاوی

تولى الشيخ محمد سيد طنطاوى منصب مفتى الديار المصرية فى 28 أكتوبر 1986 وظل به لمدة عشر سنوات
 
 
«مع القرآن الكريم، برنامج يعده ويقدمه سعد المطعنى، إخوتنا فى رحاب الإيمان إلى حضراتكم التفسير الميسر، لآيات الذكر الحكيم، من تسجيلات الإمام الراحل الدكتور محمد سيد طنطاوى، شيخ الأزهر»، كلمات يتردد صداها يوميًا، عبر أثير إذاعة القرآن الكريم من القاهرة، علقت فى أذهان الكثير.
 
يعتبر الشيخ محمد سيد طنطاوى، شيخ الجامع الأزهر السابق، أحد أعظم مفسرى القرآن الكريم فى العصر الحديث، بشكل مبسط وميسر، لكن كل ذلك لا يشفع له فى نظر المتنطعين من رجال الدين.
 
هو من مواليد 28 أكتوبر 1928، ولد بقرية سليم الشرقية بمحافظة سوهاج، حفظ القرآن وجوَّده، وعندما وصل إلى سن السادسة عشرة من عمره، رحل مع أسرته إلى الإسكندرية، وبها التحق بالمعهد الدينى الأزهرى عام 1944.
 
 
التحق الشيخ بكلية أصول الدين، وحصل منها على شهادة الليسانس 1958، ثم العالمية مع إجازة التدريس بالأزهر 1959، ثم الدكتوراه فى علمى التفسير والحديث عام 1966، عن موضوع رسالته «بنو إسرائيل فى القرآن والسنة»، بعدها أعير إلى الجامعة الإسلامية بليبيا، فعمل على تحسين المناهج التعليمية بها، وتولى منصب عميد كلية أصول الدين بأسيوط 1976، ثم رئيسًا لقسم التفسير بالدراسات العليا فى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية، فبات من العلماء الأجلاء المشهود لهم بالعلم والفضل، وشهد له الكثير من الثقات بالقدرة على الإحاطة بالمذاهب والاستنباط منها، وإصدار الفتاوى التى تدل فى وضوح على أن شريعة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان.
تولى الشيخ محمد سيد طنطاوى، منصب مفتى الديار المصرية، خلفًا للشيخ عبد اللطيف عبد الغنى حمزة، فى 28 أكتوبر 1986، وظل به لمدة عشر سنوات، أصدر خلالها 7557 فتوى مسجلة جميعها بدار الإفتاء. 
 
بدا الشيخ طنطاوى أشبه بمكتبة متنقلة، من كثرة مؤلفاته وكتبه، حتى ترك تراثًا علميًا ضخمًا تزخر به المكتبة العربية والإسلامية، الأمر الذى يؤكد على مكانته العلمية، حيث تتميز مصنفاته بالابتكار فى اللغة والأسلوب، ومن أشهر مصنفاته:
 
 
من أهم مؤلفات الشيخ محمد سيد طنطاوى، ويصنف فى المكتبة العربية بأنه من أفضل التفاسير المبسطة التى تصل إلى القارئ البسيط والمتفحص، يقع فى خمسة عشر مجلدًا، وفى أكثر من سبعة آلاف صفحة، وقد كتبه فى بضعة عشر عامًا بذل فيه أقصى جهده ليكون تفسيرا محررا من الأقوال الضعيفة وشبه الباطلة والمعانى السقيمة والآراء التى لا سند لها، وقد توخى فى هذا التفسير أن يكشف عما اشتمل عليه القرآن الكريم من هدايات جامعة، ومن تشريعات جليلة وآداب فاضلة وأخبار صادقة، وطبع منه عدة طبعات.
 
 
ويقع فى مجلدين، تزيد صفحاتهما على الألف صفحة، تناول فى المجلد الأول تاريخ بنى إسرائيل فى مختلف عصورهم، ثم تحدث عن مناهج القرآن الكريم فى دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام ومظاهر إنصافه لهم وتناول -أيضًا- مسالك اليهود فى العهد النبوى لكيد الإسلام والمسلمين، وفى المجلد الثانى تحدث عن رذائلهم كما صورها القرآن الكريم ثم دعواهم الباطلة، وكيف رد القرآن الكريم عليها، ثم عن وعيد الله - تعالى- وعقوباته لهم، ثم عن فلسطين ومراحل الغزو الصهيونى، ومن الجدير بالذكر أن موضوع هذا الكتاب، كان هو الأطروحة التى حصل من خلالها على درجة الدكتوراه، وطبعت منه عدة طبعات.
 
 
وكان من أكثر كتبه رواجًا وشهرة، ويقع فى ثلاثمائة صفحة، حتى أنه أعيد طبعه ما يزيد على أربع عشرة مرة، وأصدرت وزارة الأوقاف كتيبًا يتضمن مختارات منه حتى يكون فى متناول يد القارئ البسيط.
 
 
وطُبع هذا الكتاب ما يزيد على عشر طبعات، تناول فيه معنى الدعاء وآدابه وشروطه، وأعطى به نماذج من الدعاء المستجاب من القرآن والسنة وأدعية مأثورة فى أحوال مختلفة.
 
 
تناول فيه الغزوات والسرايا من حيث المعنى والهدف، وحقق الأقوال فى عدد السرايا والغزوات وأهداف تلك الأقوال.
 
 
ويقع هذا الكتاب فى مجلدين، وتزيد صفحاتهما على ألف صفحة، تحدث فيه عن مميزات القصة فى القرآن الكريم، وعن أهدافها، ثم تناول العديد من قصص الأنبياء الذين ورد الحديث عنهم فى القرآن الكريم، ثم تناول العديد من القصص الأخرى، مثل قصة أصحاب الكهف وذى القرنين وسيل العرم وأصحاب الأخدود، وجعل مسك الختام قصة سيدنا محمد، كما جاءت فى القرآن الكريم.
 
 
 ويعد هذا الكتاب من أشهر مؤلفاته، والذى صدر قرار بدراسته على السنوات الثلاث بالمرحلة الإعدادية الأزهرية.
يقول الشيخ محمود عاشور، وكيل الأزهر الأسبق، فى حديثه عن الإمام الراحل، إنه ترك مؤلفات متعددة، تتحدث عن علمه وفقهه فى الحديث والتفسير والتوحيد والمنطق، فكان بحق عالما موسوعيا، محبوبا من كل من يعرفه، وكان يتمنى الخير الدائم للأزهر، وكان يأتيه بالأموال من كل الجهات حتى يزيد فى بناء المعاهد الأزهرية، وهو صاحب مقولة: «إنه كلما ازداد بناء المعاهد الأزهرية، قل الشر والتطرف فى المجتمع». 
وتابع عاشور رحمه الله: «الإمام كان ذكيا لماحا، يقرأ ما فى نفوس الناس ويقيمها التقييم العلمى السليم، وله جهود ضخمة فى تطوير المناهج الأزهرية سواء على مستوى المعاهد أو الجامعة، حيث كان يجتمع بشكل دورى بالموجهين فى جميع المواد فى كل قطاعات المعاهد، ليناقش معهم المواد التى تناسب وضع الطلاب فى سنوات الدراسة، وكان يتولى بنفسه التوجيه نحو تطوير هذه المواد.
 
 
خاض الإمام الراحل معارك فكرية كبيرة، حتى اشتهر بكثرة اجتهاداته، وهو الأمر الذى لم يرق لعلماء النقل وكتب التراث، فكان أكثر أئمة العصر الحديث اشتباكا، وخاض معارك فكرية كثيرة، وقدم اجتهادات عصرية، عالجت مشكلات حياتية، وصل اجتهاده لدرجة الاشتباك مع تراث المؤسسة الأزهرية، وطور الدراسة فيها مرتين، لتواكب التطورات والعصر الحديث، وهو ما لاقى استحسانا كبيرا فى الأوساط الدينية والثقافية.
فى عهده باتت المكتبة الأزهرية سهلة بعيدة عن الحشو والتعقيد وكثير من القضايا الجدلية، التى لا يقوى عليها الطلاب، كما خلص كتب المعاهد الأزهرية من جميع القضايا التى تدعو للتشدد والتعصب أو الاحتقان الطائفى فى رؤية وبصيرة نادرة سابقة لعصره وزمنه وللأحداث التى نعيشها الآن.
كان لطنطاوى رؤية ثاقبة فى التجديد ومراعاة المستجدات، وقراءة التراث قراءة عصرية، تمثلت فى رؤيته لأعمال وفوائد البنوك التى تبناها بعد ذلك مجمع البحوث، ورأيه فى قضية النقاب وأنه ليس مفروضا، وإباحته زراعة الأعضاء والتبرع بها.
 
 
تبنى الشيخ الراحل رؤية مهمة فى مسائل الحوار بين الأديان، فدعا لذلك وحرم الإرهاب والعنف، وقال فى دحض الإرهاب عن العرب والمسلمين «إن شريعة الإسلام تصون دماء الناس، وتصون أموالهم وأعراضهم وحريتهم وكرامتهم، وقد كرم الله الإنسان، فقال (ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات)، وبين لنا القرآن الكريم أن من قتل نفسا واحدة دون حق، فكأنما قتل الناس جميعا، ومن تسبب فى إحيائها فكأنه أحيا الناس جميعا، فشريعة الإسلام بريئة من هذا الاتهام الباطل، لأنها شريعة الحق والعدل والسماحة، وتعتبر الناس جميعا من أب واحد ومن أم واحدة، وإذا كان فى المسلمين من يسىء إلى دينه فليس معنى ذلك أن جميع المسلمين يفعلون هذا، وكل دولة فيها الخير وفيها الشر».
ونقلت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، حوارا لشيخ الأزهر فى نوفمبر 2001، وضع فيه معايير للحوار الهادف بين الحضارات مهاجما ما يصفهم بالسفهاء الذين يسوقون نظرية تصادم الحضارات، وقال إن «مسألة الحوار نحن نؤيدها فى جميع الناس، لأن الذى يقرأ القرآن يجد أنه قد ساق ألوانا من المحاورات التى دارت بين أهل الجنة وأهل النار، بين الرسل وبين أقوامهم، بين العقلاء والسفهاء، بين المنافقين والمؤمنين، نجد ألوانا عديدة من الحوارات، بل نجد أن الله عز وجل قد فتح بابه للحوار حتى مع إبليس، ونجد ذلك فى سورة الأعراف وسورة ص وغيرها من السور القرآنية، وكلها تعلمنا أن الحوار مطلوب مع الأعداء ومع الأصدقاء، لكى تقيم الدليل على أن شريعة الإسلام هى الشريعة التى اختارها الله سبحانه للناس، وأن دين الإسلام هو الدين الذى جاء من جميع الأنبياء، ونجد هذا على لسان سيدنا إبراهيم: «إذ قال له ربه اسلم قال أسلمت لرب العالمين»، «ووصى بها إبراهيم ـ أى بكلمة التوحيد».
ويضيف الدكتور طنطاوى، أن من يرى أن الحضارات تتصادم فهو مخطئ، فالحضارات تتصادم عند السفهاء، أما عند العقلاء فالحضارات تتعاون، كل دولة لها حضاراتها، ولا مانع من الأخذ من الحضارات الأخرى طالما فيها التقدم الصناعى والصحى والاجتماعى، وثبت أن النبى، صلى الله عليه وسلم، كان يرسل بعض أصحابه إلى بلاد الأعداء لكى يتعرفوا على أنواع الأسلحة التى لديهم ليصنعوا ما هو أفضل منها أو ليأخذوا هذه الأسلحة للاستفادة منها عندما يحدث نزاع بينهم وبين أعدائهم.
 
 
آثار الإمام الراحل جدلا كبيرا فى حياته سواء بفتاواه أو مواقفه، وكان أبرزها، فى 20 فبراير 1989، حينما أصدر فتوى بتحريم فوائد البنوك الإسلامية، باعتبارها ربا، وفى فبراير 2003، جابه الفتاوى السياسية، فأقال الشيخ على أبو الحسن، رئيس لجنة الفتوى بالأزهر، من منصبه بسبب ما قيل من أنه صرح بفتوى، يؤكد فيها «وجوب قتال القوات الأمريكية إذا دخلت العراق، وأن دماء الجنود الأمريكيين والبريطانيين تعد فى هذه الحالة حلالا، كما أن قتلى المسلمين يعدون شهداء»، وقال شيخ الأزهر: «إن الفتوى التى صدرت لا تعبر عن الأزهر الذى لا يتدخل فى السياسة وسياسات الدول».
كما أقال فى نهاية أغسطس 2003، الشيخ نبوى محمد العش، رئيس لجنة الفتوى، لأنه أفتى بعدم شرعية مجلس الحكم الانتقالى العراقى وحرم التعامل معه، وفى 30 ديسمبر عام 2003، صرح طنطاوى بأنه من حق المسئولين الفرنسيين إصدار قانون يحظر ارتداء الحجاب فى مدارسهم ومؤسساتهم الحكومية باعتباره شأنا داخليا فرنسيا، وفى 5 أكتوبر 2009، أجبر طالبة بالصف الثالث الإعدادى الأزهرى على خلع النقاب، ما أثار جدلا كبيرا فى ذلك الوقت، من مؤيدى النقاب.
 
 
دافع طنطاوى عن قضايا المرأة كثيرا، ونادى بمساواتها للرجل، فكان يقول إن «الإسلام يساوى بين الرجل والمرأة فى ستة أمور، هى: أصل الخلقة، والتكاليف الشرعية، واعتناق الفضائل واجتناب الرذائل، وطلب العلم، والعمل الشريف، وأخيرا الكرامة الإنسانية»، وكان أول من أجاز للمرأة شرعا تولى رئاسة الدولة، وأكد أن المرأة لها حق الترشح والانتخاب وولاية القضاء، وأنه لا يتفق مع من ينكر على المسلمات حقوقهن السياسية، وقال إن من حق المسلمة البالغة العاقلة فى الشريعة أن تباشر الانتخاب، وأن تنتخب من تشاء، بل إن لها أن ترشح نفسها للمقاعد النيابية العليا، وأكد حق المرأة فى تولى القضاء، قائلا: «لم أجد نصا يمنع المرأة من ولاية القضاء».
وكان الإمام الراحل المدافع الأول عن قضية تجريم الختان فى مصر، وكان دائمًا ما يؤكد أن ختان الإناث لم يأت ذكره فى القرآن أو السنة النبوية، وأن الختان فى الإسلام للرجال فقط، وقال: «من وجهة النظر الدينية لم أجد شيئًا يقول إن الختان واجب للنساء»، كما أيد شيخ الأزهر قانون محكمة الأسرة الجديد قائلا: «إن القانون بجميع مواده، جاء مطابقا للشريعة الإسلامية، وإنشاء محكمة جديدة للأسرة، وإصدار قانون خاص بها يعد خطوة جيدة، والمحكمة ستكون قادرة على سرعة الفصل فى الحكم التشريعى، والوصول إلى العدل فى أقرب وقت ممكن»، وعندما سُئل عن الاستعانة بالمرأة فى لجنة الفتوى، قال: «لو طلبت لجنة الفتوى بالأزهر الاستعانة بالمرأة فلا مانع من ذلك».
 
 
كان طنطاوى، شبه منقطع لعمله فى الأزهر ومؤلفاته وكتاباته، وكان يقول دائما العمل مقدس قبل كل شىء، وكان غير تقليدى فى حل المشكلات خاصة التى تتعلق بمصلحة الأزهر أو العاملين به، وإذا أراد أحد العاملين السفر للعمل بالخارج، لا يقف حائلا أمامه ويعطيه الإجازة، ويقول: «لا تقفوا فى وجه أحد، دعوه يستفيد ويفيد البلد».
واشتهر طنطاوى بأنه كان شديد الغيرة على الأزهر، ولا يغضب لشخصه، ولكن يشتد غضبه وانفعاله إذا شعر من أحد لديه الرغبة فى النيل من الأزهر أو أى من مؤسسات الدولة، كما كان حريصا على المال العام لدرجة أنه كان لا يستخدم السيارة المخصصة له من قبل الدولة فى أموره الشخصية، وهذا ينطبق بالتالى على جميع أفراد أسرته.
ورفض طنطاوى أن يعالج ابنه أحمد فى ألمانيا على نفقة الدولة، وقال لوزير الصحة: «الحمد لله لدينا الاستطاعة أن نعالجه»، كما كان دائم الرفض للتدخل فى قضاء مصالحهم فى مؤسسات الدولة، ويقول لهم: «ما تحرجونيش فى هذه الموضوعات مع أحد»، ومن ذلك لم يعط استثناء فى السن لإدخال ابنه أحمد الأزهر.
 
 
كان الشيخ الراحل، فى زيارة للمدينة المنورة بعد أداء مناسك الحج عام 2009 ميلادية، وذهب على نفقته الخاصة فى حج القرعة، وكان أنس الكتبى، نقيب أشراف المدينة فى صحبته، فطلب منه التوقف بجوار سور مقبرة البقيع، ونزل ووقف بجانب السور وسلم على أهل البقيع، ودعا الله تعالى أن يرزقه اللحاق بهم والدفن بجوارهم، وبالفعل لم تنقض بضعة أشهر حتى دفن بجوار الصحابة الذين عهد على نفسه الدفاع عنهم، ففى 10 مارس 2010، توفى عن عمر يناهز 81 عاما، إثر نوبة قلبية تعرض لها فى مطار الملك خالد الدولى بالسعودية عند عودته من مؤتمر دولى، لمنح جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام للفائزين بها.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة