أهذا كل شأنك ياعرابى؟..

السبت، 19 فبراير 2022 06:06 م
أهذا كل شأنك ياعرابى؟..
أحمد النجمى

أمير الشعراء أحمد شوقى حاول تشويه تاريخ عرابى واتهامه بالتسبب فى الاحتلال الانجليزى لمصر.. والتاريخ ينصف قائد الثورة العرابية 
 
 
صغار فى الذهاب وفى الاياب.. أهذا كل شأنك ياعرابى؟.. بيت شعر معروف لأمير الشعراء أحمد شوقى قاله فى سياق استقبال نبأ عودة أحمد عرابى باشا من منفاه بسيلان التى قضى فيها نحو 20 عاما من الابعاد ليعود إلى مصر في العام 1903.
 
موقف أمير الشعراء لم يكن الموقف الوحيد الذي واجه عودة عرابى بالاستهجان، بل كانت هناك عشرات المواقف التى لم يرحب اصحابها بعودة الرجل.. جميعهم ومنهم شوقى كانوا يدورون فى نفس السياق ويكررون نفس القول وهو أن عرابى هو سبب قدوم الاحتلال البريطانى إلى مصر، ذلك الاحتلال الذى يمر على مصيبة قدومه إلى مصر 140 سنه في العام الحالي "تم احتلال مصر سنة 1882 وتم الجلاء عنها في 1956".
 
بعض من هاجموا عرابى انطلقوا من أن هزيمته امام الاحتلال هي التى مكنت بريطانيا من دخول البلاد، وأنه استفز الغرب حتى استهدف الاحتلال مصر.
فهل كان عرابى سبب الاحتلال فعلا؟.. وإن لم يكن، فما السبب الحقيقى لهذا الاحتلال؟.. ولماذا وكيف الصقت بعرابى هذه التهمة التى لايزال بعضهم يرددها بعد 140 عاماً من تاريخ دخول الانجليز لمصر؟.
 
أعود إلى جلسة جمعتنى فى إحدى الامسيات بالكاتب الكبير الراحل محفوظ عبد الرحمن في مايو 2009 في فيلته بالشيخ زايد، كنت قد ذهبت إلى الرجل الذى تربطنى به علاقه القطب بالمريد _رحمة الله عليه_  لإجرى حوارا صحفيا معه لمجلة المصور، وإذ بى أجده منهمكا وسط كم كبير من الوثائق والمراجع.. سألته بفضولى إن كان لديه مشروع جديد لمسلسل -وقد كان رحمه الله أعظم كتاب السيناريو فى مجال الدراما التاريخية-، واذا به يذيع سرا كان فى وقته يمثل انفرادا صحفيا، وهو ان هذه الوثائق والكتب جميعها عن عرابى باشا.
 
كان محفوظ عبد الرحمن يعد العدة لمسلسل عن البطل العظيم أحمد عرابى، وكان محفوظ من أكابر المدققين الذين يقضون سنوات - نعم سنوات - ليجمعوا المادة التاريخية للمسلسل - أى مسلسل- يكتبه، لذا كان كثير من الوثائق التى فى حوزته تمثل صورا طبق الأصل من وثائق عرابى الموجودة فى دار الكتب المصرية.
جلست مع عمنا محفوظ فى تلك الليلة قرابة أربع ساعات نتحدث عما فى هذه الوثائق والمراجع، وعن شخصيه عرابى والنواحى الدرامية فيها، ولم أكن محتاجا إلى هذه الجلسة لكى أصبح من محبى عرابى، لكننى كنت فى حاجة إليها لأعرف ما لم اعرفه عما تعرض له الرجل من اهانة وامتهان بعد أن سقط فى قبضة الاحتلال، ولاعرف الدوافع النفسية التى جعلته يرسل إل ملكة بريطانيا خطاب اعتذار عن الثورة بعد أن قضى 20 عاما فى المنفى.
 
عرفت من محفوظ عبد الرحمن وحوارى معه والوثائق التى كانت بحوزته كيف انتقم الاحتلال من عرابى واهانه بالغ الإهانات، وكيف أنه كان يقف فى قفص الاتهام خلال محاكمات الاحتلال له، هى بالطبع محاكمات صورية فضلا عن كونها غير انسانية على الإطلاق، حافى القدمين كنوع من كسر عزة النفس، وكيف بعد أن جرى نفيه إلى سيلان لم يحظ بالمعاملة التى تليق بقائد الجيش المصرى.. لقد جرى تدمير عرابى فى المنفى، وهنا فى مصر قبل نفيه مباشرة تدميرا نفسيا ممنهجا على يد الانجليز الذين كانوا بارعين فى التعذيب النفسى!.
 
ووجد الرجل ذاته بعد 20 عاما من المنفى عجوزا متداعي الصحة وحيدا يوشك أن يموت بعيدا عن أسرته وذويه ومنهارا نفسيا، خاصة بعد أن شوهت صورته طبقة مثقفى ذلك الزمان ممن تنعموا في قصور الخديوى توفيق الذى جلب الاحتلال للوطن بالأساس، وحظوا برعايته ورعاية باشواته ورجال دولته، ومعروف أن ممن تنعموا في ظل الخديوى توفيق وتربوا في نعمته أحمد شوقي أمير الشعراء، ولنفرق هنا للضرورة بين قيمة الرجل كشاعر فذ وبين دوره فى تزييف وعى الناس بقضية عرابى.
 
حكى محفوظ عبد الرحمن كل هذا تفصيليا وكنت اعرفه اجماليا، ويأتى عام تتذكر فيه مرور 140 عاما على الاحتلال الذي تخلصت منه بنضال طويل، ولايزال البعض يلصق بعرابى تهمة أنه السبب فى الاحتلال، وكان بيت أحمد شوقى "أهذا كل شأنك ياعرابى" صار مثلا وحكمة!.
 
الحق أن من جاء بالاحتلال ليس عرابى على الإطلاق وإنما هم أسرة محمد على باشا، فالخديوى إسماعيل بنسقه المالى الاخرق المعروف والديون الرهيبة التى كبل بها مصر جاء بصندوق الدين، وهو لمن لا يعرف صندوق دولى كان يتحكم في مصير الدول المدينة لبريطانيا وفرنسا، دولتى الاحتلال العظميان آنذاك، فأتى الصندوق وصار له ممثلون فى الحكومة المصرية، وأصبح يسيطر على مقدرات الدولة المصرية رغم أنف الخديوى إسماعيل الذي تم نفيه 1879 لكى تحلو السيطرة للإنجليز والفرنسيين عبر أبنه الذى رحبوا به على العرش، وهو الخديوى توفيق.
 
الخديوى توفيق الذى اضطر البطل أحمد عرابى ورفاقه من ضباط الجيش المصرى إلى الثورة عليه في 1881، وبالمناسبة فإن هذه الثورة هي اول ثورة شعبية مصرية إذ لم تكن مطالبها كلها متعلقة بالجيش بل كانت تهدف إلى إقامة حياة برلمانية سليمة وتستهدف فصل مصر عن الدولة العثمانية، وكانت هذه هي افكار عرابى باشا ورفاقه واحلامهم لمصر، لذا التف حوله المصريون وجعلوه أول زعيم شعبى فى تاريخ مصر الحديث، ولم يطق توفيق أن يتحكم فيه مصرى من محافظة الشرقية، وهو حفيد محمد على باشا شخصيا.
 
وبهذه العنجهية استدعى الاحتلال البريطانى لمصر.. هذا الاحتلال الذى تمنى هذه الفرصة لكى يقضى على تحول مصر إلى دولة مدنية ديمقراطية قوية ذات جيش حديث كما كان عرابي ورفاقه يحلمون. كانت قدرات الجيش البريطانى وتسليحه وتمويله تفوق الجيش المصري وقتها ألف مرة على الأقل، وزاد الأمر صعوبة وتعقيدا وجود خونة بين صفوف عرابي، خدعوه اثناء القتال وتحالفوا مع الانجليز فوقعت الهزيمة بعد أن قاتل عرابي والجيش المصرى من خلفه قتال الابطال.
 
ثم يأتي بعد هذا من يلصق تهمة الإتيان بالاحتلال لعرابى، وإذا كان شوقى قال "أهذا كل شأنك ياعرابى"، فإن الرد عليه أن شأن عرابى هو شأن الابطال العظماء الذين تحملوا من أجل هذا الوطن مالا يطيق بشر أن يتحمله.
 
رحل الاحتلال وبقيت مصر وصارت ذكرى عرابى علما خفاقا على الوطنية المصرية في ازهى صورها.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق