الصوم عبادة الأحرار

السبت، 02 أبريل 2022 10:14 م
الصوم عبادة الأحرار
حمدي عبد الرحيم

تحرير النفس المسلمة هو غاية الصيام الذي كتب عليها فرضًا وتأتيه تطوعًا ولتعلم هذه النفس الحرة أن الله الذي استخلفها في الأرض لتقيم فيها الحق

قرأتُ أن الأستاذة الجليلة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) كان لها بنت تعد من عالمات الرياضيات، فقد كانت تعد رسالة الدكتوراه في المانيا، وكان زوج الأستاذة عائشة هو العالم الشهير الشيخ الأستاذ أمين الخولي، وفي جلسة جمعت الأسرة، سألت عالمة الرياضيات أمها: يا أمي لماذا حرم الله الخمر ولحم الخنزير؟.

هذا سؤال ابتدائي، لن تعجز الأستاذة عائشة عن الإجابة عليه، ولكن لأن هؤلاء علماء يسعون نحو الحقيقة وليسوا من الذين يرددون المألوف المعتاد، فقد ردت الأم قائلة: لا أعرف الإجابة، وعليك بأبيك.

الأستاذ الخولي فكر قبل أن يجيب ثم قال لكريمته: الرأي عندي أن الله قد حرم ما حرم وأحل ما أحل لتدريب عباده على طاعته.

أكتب هذا وعيني على معركة كل سنة، فكلمتي هذه ستصل إلى قارئها ونحن نفر من وطيس معركة (لماذا نصوم؟)، وهي معركة عجيبة، ولكن هذا ما كان، فقد كنا نصوم عبادة لله وحده لا شريك له، ولم نبحث أبدًا عن علل الصوم، وحتى الذين بحثوا وصلوا إلى أن علة الصوم هي التقوى وهذا مذكور في قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ".

لم يتسنى لي التأكد من حقيقة جلسة آل الخولي، فقد تكون من الكلام الذي يروج عن العلماء، وقد تكون حقيقة قد وقعت، ولكن الذي أنا على يقين منه هو ما خطه قبل عشرات الأعوام أبو فهر، الشيخ الأستاذ محمود شاكر، فقد هداني الله لمقال له وجدته في جمهرة مقالاته يناقش بالتفصيل قضية الصوم.

قال أبو فهر: "سألتني أن أكتب لك شيئًا عن هذه الكلمة المعذبة: (الصيام) فقد ضرب عليها الناس من الحكم، وصبوا عليها من الفوائد ما لو تأملته لم يَعْدُ أن يكون عرضًا طفيفًا من أعراض التجارب التي تمرُّ بالصائم، ولرأيتهم يبنون فوائدهم وحكمهم على غير منطق، كالذي يزعمونه من أن الغنيَّ إذا جاع في صيامه أحسَّ، بل عرف كيف تكون لذعة الجوع على جوف الفقير، فهو عندئذ أسرع شيء إلى الجود بماله وبطعامه.

ثم يزعمون أن الفقير الصائم إذا عرف أنه استوى هو والغني في الجوع قنع واطمأنت نفسه، لا أدري أمِن شماتته بالغني حين جاع كجوعه وظمئ كظمئه، أم من حبه للمساواة في أي شيء كانت، وعلى أي صورة جاءت! ولا تزال تسمع مثل هذه الحكم، حتى كأنَّ ربك لم يكتب هذه العبادة إلا ليعيش الفقير، وليعيش الغني، كلاهما في سلطان معدته جائعًا وشبعان!".

هكذا ترى أن أبا فهر قد نسف مألوف القول في تلك القضية لأن الأمر عنده هو أمر إلهي بعبادة، نعم هي شاقة ولكنها تبقى عبادة تتم بأمر إلهي.

ثم قال أبو فهر: "ومنذ ابتلي المسلمون بسوء التفسير لمعاني عباداتهم، ومنذ أدخلوا عليها ما ليس منها، ساء أمرهم ودخل عليهم عدوهم من أنفسهم ومن غير أنفسهم، وجعل بأسهم بينهم، وتتابعوا في الخطأ بعد الخطأ، حتى تراهم كما تراهم اليوم.

ولقد كتب علينا الصيام لينقذنا من مثل هذا البلاء، ولكنا نسينا الله فأنسانا أنفسنا، حتى صرفنا أعظم عبادة كتبت علينا إلى معنى الطعام نتخفف منه لتصحَّ أبداننا، ونبذله لنواسي فقيرنا، ونجتمع عليه لتأتلف قلوبنا، ونصوم شهر رمضان فلا تصحُّ لنا أبدان، ولا يواسى فقير، ولا تأتلف قلوب وإذا تمَّ بعض ذلك فسرعان ما يزول بزوال الشهر، وتنتهي آثاره في النفس وفي البدن وفي المجتمع.

ولو أنصفنا هذه الكلمة المظلومة المعذبة لرأينا الصيام كما كتب على أهل هذا الدين طاعة خالصة بين العبد وربه، يأتيها الفقير الهالك ابتغاء رضوان الله، ويأيتها الغني الواجد ابتغاء رضوان الله، ويأتيانها جميعًا في شهر رمضان، ويأتيانها فرادى في غير شهر رمضان، لا ليعيشا في معاني المعدة بالبذل أو بالحرمان، بل ليخرجا معا سواء عن سلطان الطعام والشراب، وليخرجا معا سواء من سلطان الشهوات، بل ليخرجا معًا سواء من سلطان كل نقيصة: من سلطان الخوف، فلا يخاف أحدهما إلا الله، ومن سلطان الرياء، فلا يعمل إلا لله.

وليس بين الصائم وبين ربِّه أحد، ولا يحول بينه وبين الاستجابة لربه شيء من أشياء الدنيا، أو حاجات البدن، أو داعيات الغرائز أو نزوات العقول.

فتأمَّل معنى الصيام من حيث نظرت إليه: هو عتق النفس الإنسانية من كل رقٍّ: من رقِّ الحياة ومطالبها ومن رقِّ الأبدان وحاجاتها في مآكلها ومشاربها، من رقِّ النفس وشهواتها، ومن رقِّ العقول ونوازعها، ومن رقِّ المخاوف حاضرها وغائبها، حتى تشعر بالحرية الخالصة، حرية الوجود، وحرية الإرادة، وحرية العمل".

ثم يلخص أبو فهر القضية كلها في سطور قلائل فيقول: "تحرير النفس المسلمة هو غاية الصيام الذي كتب عليها فرضًا وتأتيه تطوعًا، ولتعلم هذه النفس الحرة أن الله الذي استخلفها في الأرض لتقيم فيها الحق، ولتقضي فيها بالحق، ولتعمل فيها بالحق، لا يرضى لها أن تذلَّ لأعظم حاجات البدن؛ لأنها أقوى منها، ولا لأعتى مطالب الحياة؛ لأنها أسمى منها، ولا لأطغى قوى الأرض؛ لأنها أعزُّ سلطانًا منها.

وأراد الله أن يكرِّم هذه العبادات فأوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس عن ربه إذ قال: «الصوم لي» (البخاري: 7492)، فلا رياء فيه؛ لأنه جُرِّد لله فلا يراد به إلا وجه الله، فاستأثر به الله دون سائر العبادات، فهو الذي يقبله عن عبده، وهو الذي يجزي به كما يشاء".

لكم تمنيت أن هذا الكلام العالي الشريف وصل إلى كل مسلم حتى نكف جميعًا عن البحث عن علل بشرية لقضية إلهية.

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق