«الاختيار 3».. جبروت القوى الناعمة

الثلاثاء، 05 أبريل 2022 11:18 ص
«الاختيار 3».. جبروت القوى الناعمة
طلال رسلان يكتب:

«حقائق بالواقع، صدق الأحداث دون تجميل، وعي كامل بعقل المواطن، حبكة القصة وإبداع الصورة».. بخلطة محكمة نال مسلسل الاختيار العلامة الكاملة، وحاز الإعجاب منذ الحلقات الأولى.

لم يكن مسلسل الاختيار مجرد عمل درامي متقن في الصورة والتفاصيل والإخراج، بل قضية وعي كاملة الأركان، رسمت بحكمة مسارا جديدا لتشكيل الشخصية المصرية واحترام عقليتها. وصل الاختيار إلى داخل العقول قبل البيوت، أعطى أهداف الدولة «الجمهورية الجديدة» للمشاهد دون تخبط أو صِدامات فكرية وانفعالات عنيفة.

مع انطلاق الموسم الثالث من الاختيار، حجم الصدمة الفكرية لدى المشاهد لم تكن بسيطة، كيف سيكون الإقناع مع تجسيد شخصيات لا تزال موجودة في الواقع، بل وممثلٌ ومحركٌ أساسي في الأحادث؟!. شخصية مثل المشير عبد الفتاح السيسي بالتأكيد ستحتاج إلى ساحر درامي وليس فنانا عاديا لإقناع الجمهور بالرسائل التي تصيغها هذه الشخصية بوطنية متجردة، وبتداخل مع أحداث يعرفها المتلقي نفسه تمام المعرفة، بل عاش تفاصيلها وأحداثها وربما يعرف ما لا يعرفه كاتب الأحداث والمدونين.

تحدٍ لم يكن بسيط بأي حال من الأحوال، بل ومن وجهة نظري كان عقدة الجزء الثالث من الاختيار، ناهيك عن أن الأحداث لم يمر عليها وقت كبير ولا تزال محفورة في الأذهان بكامل تفاصيلها، ثم إن المشاهد نفسه يراهن على التكرار، ولم يكن يعرف ما يخبئه صناع الاختيار في جعبتهم من سحر.

كل تلك الأسئلة التي انفجرت في عقول المشاهدين، انفجرت إجاباتها بالعلامة الكاملة وبامتياز مع الظهور الأول للفنان ياسر جلال في شخصية المشير عبد الفتاح السيسي وقتها، لن أزيد في وصف الشخصية عن ما قاله خبراء لغة الجسد ومحللو الأداء الحركي، فقد تابعت أغلبهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لخص أحدهم ما فعله الساحر ياسر جلال في المشاهد قائلا «ياسر جلال وصل بالشخصية إلى قدر لا تستطيع معه قراءة لغة جسده، ومن الأفضل أن تصف الشخصية الحقيقية، لا فرق في شيء، أكاد أجزم أن صاحب الشخصية الأصلية لن يصدق ما وصل إليه ياسر جلال من سحر المحاكاة والتشخيص إلى هذه الدرجة».

بالطبع ليس ياسر جلال وحده، فهناك حفلة إبداع صاخبة انفجرت في جنبات المسلسل «الموسيقى، اختيار الشخصيات، أدق أدق التفاصيل، التلامس الدرامي مع الواقع والانتقال بسلاسة إلى الأحداث دون خلل فهذه خلطة بيتر ميمي المبهرة»، سأضرب لك مثالا عن إبداع التفاصيل، فأنا شخصيا لم أصدق أن يرفع خالد الصاوي النضارة على جبهته بهذه الطريقة مثل الإخواني خيرت الشاطر، تفصيلة تبدو عادية، لكن ثُقلها في التأثير على المشاهد والقريب من الأحداث لم يكن أبدا عاديا، وهذا هو رهان الجزأ الثالث من الاختيار، كل تفصيلة بالقضية كاملة.

كنت واحدا من المعاصرين لأحداث 30 يونيو بكل تفاصيلها، ما قبلها وما بعدها، وصولا إلى إزاحة مكتب إرشاد الإخوان من كرسي الحكم، تجربة يناير وإن كانت خاطفة لكثيرين فقد أعطتنا إنذار ترقب وبالطبع مات عنصر المفاجأة، كنت شاهدا على سياسة معقدة ترسمها الأحداث في المنطقة بأكملها وليس بمصر فقط، وشغوفا بتدوين التفاصيل، تلك التشابكات المعقدة، التي تضرب كل الثوابت في مقتل، حاضر أسود ومستقبل ينذر بسيناريو مليشيات في شوارع العاصمة، الأكثر من ذلك أني تلك الفترة كنت في وظيفة محرر ديسك، ويعرف العاملون في المجال الإعلامي معنى هذه المهنة في أحداث كهذه، يعني ببساطة يمر عليّ يوميا أدق تفاصيل الأحداث، تصريحات كل شخصية «كبيرة وصغيرة، متداخلة مع الأحداث أو هامشية»، ما وارء الأحداث، وما المقصود بقرار معين، وتتبع الأحداث، وتوقعها، خريطة كاملة تدور في ذهنك، وكأنك في مسرح بكامل تفاصيله وأنت المتفرج الوحيد.

شاهدت تحول الأحداث بيد الإخوان من العنف إلى الدموية والإرهاب، تطور مرعب في العاصمة وما يدور بسيناء، أخبار ترد من هنا وهناك مؤكدة عن تنظيمات إرهابية تعشش بقواعدها كاملة في البلاد، سلاح يتدفق من الحدود كالسيل، مؤسسات الدولة التي نخر فيها سوس الإخوان، حتى تحولت إلى مواخير للجماعة، قرار يتبعه قرار بالتمكين الكامل للجماعة، تفاصيل مرعبة وأيام عجاف لن يتمنى أحد ولا حتى مجرد التفكير بالعودة إليها مهما كلف الأمر، 100 يوم من حكم الجماعة كانت كفيلة بتعريف أصغر فرد في الشعب المصري إلى أين نحن ذاهبون.

أنا مثل ملايين بل هناك من هو كان محركا للأحداث نفسها، ولذلك كان التحدي صعبا في إقناع هؤلاء بدراما تحكي بصدق عن الواقع، لكن بعد الحلقات الأولى من الاختيار 3، أجزم أن حلقة واحدة من هذا العمل تساوي مئات الخطب الدينية والسياسية وآلاف الكتب التي تتحدث عن حقبة الإرهاب الأسود في القصر الرئاسي.

ما فعله الاختيار 3 في وعي الشعب، بهذا القدر من الحكمة، وبمشرط جراح ماهر أنقذ المريض في عملية بالغة التعقيد، سيكون محولا للعقل الجمعي المصري إلى طريق النور، وستكتب الأجيال عن عظمة هذا العمل رغم بساطته وبأقل الإمكانيات، وما استطاع من رسم صورة أخطر ساعات في تاريخ مصر الحديث، بجودة عالية ودون رتوش، وكل في مكانه كما يقول الواقع، أعاد الاختيار إلينا الثقة في جبروت القوى الناعمة وما يمكن أن تصل إليه من نقطة تحول في تاريخ الأمم.

 

  

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق