عندما سطع نور الرجل الثاني " 1-4"

الأحد، 10 أبريل 2022 10:00 ص
عندما سطع نور الرجل الثاني " 1-4"
حمدي عبد الرحيم يكتب:

أبو بكر الصديق أول من أسلم لأن الله تفضل عليه فشرح صدره للإسلام ثم لأنه يحب محمدًا ويؤمن بصدقه وبأمانته

ما غاب الرجل الثاني عن مناسبة قط وكان دائمًا بجوار صديقه الرجل الأول يتشرب منه الإيمان والقيادة

 

لا تستقيم حياة أمة من الأمم إلا بوجود رجل أول فرد فذ، ولا يكون الرجل الأول فردًا فذًا إلا إذا ترك لأمته رجلًا ثانيًا وثالثًا ورابعًا، وقد أدب كل هؤلاء فأحسن تأديبهم وقد علمهم فأحسن تعليمهم.

وهذا ما كان من أمر أمتنا الإسلامية، فالقيادة كانت لرجل أول فرد فذ هو المصطفى عليه الصلاة والسلام، الذي درب الرجل الثاني فكان الصديق عليه الرضوان الذي صعد إلى مكانة ومقام الرجل الأول فتمكن من العرش بجدارة وعن استحقاق.

قبل الإسلام لا نعرف الكثير عن أبي بكر، سوى أنه كان أصغر سنًا من النبي بقرابة الثلاث سنوات، وكان تاجرًا ماهرًا، حصد من تجارته ثروة كبيرة، وكان من أعلام قريش، وقد ذكر أكثر من مؤرخ أنه كان نسابة قريش وقال بعضهم بل كان علامة قريش.

لم تشغله الثروة فيجعلها هدفًا ساميًا، فقد كان ينفق من ماله على تأدية الديات وعلى مساعدة الغارمين، وكان يصنع ذلك لشرف في نفسه وليس للتقرب من الآلهة، فلم يعرف عنه في الجاهلية محبة لتلك الأحجار التي كان يعبدها القوم ويرفعونها فوق سطح الكعبة المشرفة.

لم يسجد أبو بكر الصديق لصنم قط، قال أبو بكر في مجمع من الصحابة: "ما سجدت لصنم قط، وذلك أنّي لما ناهزت الحلم، أخذني أبو قحافة بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي: هذه آلهتك الشّمُ العوالي، وخلاني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني فلم يُجبني فقلت: إني عارٍ فأكسني، فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخرَّ لوجهه".

كان أبو بكر الصديق ممن حرّموا الخمر على أنفسهم في الجاهلية، فلم يشربها قط، وقد أجاب من سأله هل شربت الخمر في الجاهلية؟ بقوله: "أعوذ بالله"، فقيل: «ولم؟» قال: «كنت أصون عرضي، وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيّعًا لعرضه ومروءته".

علاقته بالرسول نشأت قبل البعثة الشريفة بزمن بعيد، فهما أبناء جيل واحد، وهما تاجران ماهران وهما من أشراف قريش وأعلام مكة، وهما هادئان ينفران من العنف والصخب ويميلان إلى الرقة واللين.

وقد قرأت أن حيًا من أحياء مكة كان مقصورًا على التجار، فسكنه رسولنا وأبو بكر، ومن هنا أصبحت الروابط بينهما أوثق.

قال محمد صلى الله عليه وسلم: أنا رسول رب العالمين.

وصلت الكلمة إلى أبي بكر، فتعامل معها بجدية تامة، تقول أم المؤمنين عائشة عليها الرضوان: "خرج أبو بكر يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان له صديقا في الجاهلية، فلقيه، فقال: يا أبا القاسم، فقدت من مجالس قومك، واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني رسول الله، أدعوك إلى الله، فلما فرغ من كلامه أسلم أبو بكر فانطلق عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما بين الأخشبين أحد أكثر سرورا منه بإسلام أبي بكر ومضى أبو بكر فراح لعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص فأسلموا، ثم جاء الغد بعثمان بن مظعون وأبي عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وأبي سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن أبي الأرقم".

هذا كلام خطير جدًا لأنه متعلق بالدين، وعندما يترك الرجل الدين الذي نشأ عليه، فهو يقدم على فعل أخطر من الخطورة ذاتها، فكيف فعلها أبو بكر بكل تلك البساطة؟

ليس سوى فضل الله ثم الحب، نعم لقد فعلها أبو بكر لأن الله تفضل عليه فشرح صدره للإسلام ثم لأنه يحب محمدًا ويؤمن بصدقه وبأمانته، ولذا لم يركن إلى الراحة بل ذهب ليأتي بغيره دعمًا لدين في مهده الأول ولم يتردد ولم يتعلثم ولم يشغل باله بما ستفعله قريش!

ثم كان من أمر قريش والمسلمين ما كان، وجاء ميعاد أخطر قرار في تاريخ الإسلام مذ كان وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إنه قرار الهجرة.

الهجرة باختصار مخل هى أن تترك عالمك وتذهب إلى عالم جديد، فمن يستطيع ذلك؟

الصحابة فعلوها، وكان على رأسهم الصديق الذي تمنى أن يكون رفيق هجرة صاحبه رسولنا الكريم، فتحققت أمنيته.

تخيل نفسك تسافر مع رجل مطلوب من العالم!

أنت الآن تقامر بحياتك نفسها، فلو وقع محمد بين أيدي طالبيه وما أكثرهم هل كان أبو بكر سينجو؟

وفي دار الهجرة المدينة المنورة حيث بدأ تأسيس دولة الإسلام جاء ميعاد ثاني أخطر قرار، إنه قرار المواجهة العسكرية مع قريش، غزوة بدر.

كان القرار خطيرًا لأن جيش الإسلام كان هو كل المسلمين.

روى الإمام مسلم عن ابن عباس قال: "حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، قَالَ: نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ ثَلاثُ مِائَةٍ وَنَيِّفٌ، وَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِذَا هُمْ أَلْفٌ، فَاسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، وَعَلَيْهِ رِدَاؤُهُ وَإِزَارُهُ، ثُمَّ قَالَ: "اللهُمَّ أَيْنَ مَا وَعَدْتَنِي؟ اللهُمَّ أَنْجِزْ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنَّكَ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلامِ، فَلا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا"، قَالَ: فَمَا زَالَ يَسْتَغِيثُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَيَدْعُوهُ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَرَدَّاهُ ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ".

كان الرجل الثاني حاضرًا وفاعلًا في كل مناسبة، ففي قلب المعركة الكبري ها هو بجوار الرجل الأول يدعمه بقلبه وعقله وماله وكل كيانه وعالمه.

ما غاب الرجل الثاني عن مناسبة قط، وما عليه أكانت مناسبة سعادة أم كانت مناسبة حزن، هو دائمًا بجوار صديقه الرجل الأول يتشرب منه الإيمان والقيادة.

ثم مرض النبي مرض الموت، وكان في خاطر أبي بكر أن الرسول سيعمر حتى يدفن أصحابه.

ولكن مات الرسول، فإن كان حزن المسلمون قراطًا فحزن الصديق قراريط كثيرة.

لقد مات الصديق والصاحب والرسول والحبيب والمعلم والقائد والرجل الأول.

كانت الدولة تتعثر في مهدها فجزيرة العرب سادرة في غيها، وتناصب الإسلام العداء، وهناك القوى العظمى الفرس والروم، وبغياب الرجل الأول ستجتمع كل قوى البغي على الدولة الوليدة فتسحقها.

مَنْ يكون الرجل الأول ويتولى القيادة؟

الطبيعي أن يتقدم أبو بكر، ولكنه لم يفعلها، لأنه لم يكن يسعى خلف دنيا يصيبها، نحن نتحدث عن صفوة الصفوة وعن حلقات ذهبية في سلسلة ماسية، هؤلاء باعوا أرواحهم لله وحده، فكيف كانت الدنيا بمناصبها وزخروفها وزينتها ستهاجمهم.

لقد جاء ميعاد ثالث أخطر قرار في تاريخ الإسلام، إنه قرار الانتقال السلمي للسلطة.

كان أكابر الصحابة ومعهم آل البيت الشريف مشغلون بجنازة النبي والحبيب، وكان سادة الإسلام أعني الأنصار الكرام يفكرون في أمر الدولة، ولذا سارعوا بعقد اجتماع حاشد في سقيفة بني ساعدة وقد عرف رجل من المهاجرين بالخبر، فأسرع إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بداخله آنذاك أبو بكر، وعمر، نادى الرجل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: اخرج إليَّ يا ابن الخطاب. قال عمر رضي الله عنه: إليك عني فإنا عنك مشاغيل. لكن الرجل أصر على عمر، فخرج له، فقال الرجل: إنه قد حدث أمر لا بد منك فيه، إن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، فأدركوهم قبل أن يحدثوا أمرًا. هنا أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطورة الموقف، فأسرع إلى الصديق أبي بكر، وأخبره بالأمر وقال له: انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار. فانطلق هو وأبو بكر رضي الله عنهما. وفي الطريق لقيا رجلين صالحيْن من الأنصار القدامى، ممن شهدوا بيعة العقبة الثانية، وشهدوا كل معارك رسول الله صلى الله عليه وسلم، هما عوين بن ساعدة رضي الله عنه، ومعن بن عدي رضي الله عنه، فلما رأيا أن الصديق وعمر ذاهبان إلى السقيفة نصحوهما بألا يقربا السقيفة، وليقضوا أمرهم -أي المهاجرين- فيما بينهم، ويبدو أنهما خشيا من حدوث فتنة بين المهاجرين والأنصار فأرادا أن يصرفاهما، لكن الصديق وعمر رضي الله عنهما أصرا على الذهاب إلى السقيفة، ثم في الطريق إلى هناك لقيا أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه.

ثلاثة من المهاجرين فقط بين حشد من الأنصار، ولكن الرجل الثاني كان حكيمًا وها هو يصمد لأقسى لحظة، إنها لحظة اختيار الرجل الأول.

تكلم واحد من الأنصار وراح يفتخر بماضي الأنصار وحاضرهم في خدمة الإسلام وفي تأسيس دولته.

غير الصديق كان سيقول للمفتخر: كف، فالنبي نفسه منا.

ولكن الصديق فلم يترك شيئاً أنزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله من شأنهم إلا وذكره، وقال: ولقد علمتم أن رسول الله قال: «لو سلك الناس واديًا وسلكت الأنصار واديًا سلكت وادي الأنصار»، ولقد علمت يا سعد أن رسول الله قال وأنت قاعد: «قريش ولاة هذا الأمر، فَبَرُّ الناس تبع لبرهم، وفاجر الناس تبع لفاجرهم»، فقال له سعد: صدقت، نحن الوزراء وأنتم الأمراء.

سعد الذي كلمه أبو بكر هو سيد الأنصار سعد بن عبادة عليه الرضوان.

الصديق لم يكن يطلبها لنفسه، لأن عمر بن الخطاب قال، قال أبو بكر: وقد رضيت لكم هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم -فأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا- فلم أكره مما قال غيرها، والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إليَّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر، اللهم إلا أن تسول إليَّ نفسي عند الموت شيئاً لا أجده الآن. فقال قائل من الأنصار: أنا جُذيلها المحكك، وعذيقها المرجَّب، منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فكثر اللغط، وارتفعت الأصوات، حتى فرقت من الاختلاف فقلت: ابسط يدك، فبايعته وبايعه المهاجرين، ثم بايعته الأنصار.

بعد مبايعة الأنصار بايعت الأمة كلها ولم يتخلف رجل واحد، ولكن الدولة لم تعرف الهدوء، فقد هاجت الجزيرة وماجت وأعلنت عن ردتها، وما تمسك بالإسلام من المدن الكبرى سوى مكة المكرمة والمدينة المنورة.

ماذا سيفعل الرجل الثاني الذي أصبح أولًا؟

المواجهة الآن صفرية، كل شيء أو لا شيء، ثم المواجهة ليست مع قريش أو خزاعة إنها مع معظم العرب وبعضهم كان يزعم النبوة في زمن الرسول نفسه.

القرار خطير جدًا، إن سكت أبو بكر عن المرتدين فسيدخلون عليه العاصمة المدينة المنورة وإن حاربهم فسيدفع الثمن كاملًا غير منقوص من حياة خيرة رجال الدولة.

كان القرار بالمواجهة المسلحة لقد شكل أحد عشر جيشًا، لقتال المرتدين، تسعة جيوش حققت انتصارات حاسمة ومني جيشان بهزائم فادحة، ولكن كان لا بد من مواصلة الجهاد حتى لا تكون فتنة وحتى لا تذهب الدولة التي أسسها الرجل الأول.

تم النصر المبين الواضح الحاسم وعاد الإسلام ليتمركز في جزيرة العرب لا ينافسه منافس، ولكن كان لا بد من إحصاء الخسائر.

أكبر خسارة خسرها الإسلام كانت يوم معركة الحديقة مع المرتدين لقد قتل مهظم حافظي القرآن، بعض المؤرخين يقول إن عدد الشهداء من الحافظين بلغ أربعمئة وخمسين شهيدًا، وبعضهم يصعد بالرقم إلى خمسمئة شهيد.

هنا ذهب الرجل الثاني الذي هو عمر بن الخطاب إلى الرجل الأول أبي بكر الصديق وقال له: لا بد من جمع القرآن فقد مات معظم الحفظة.

تردد أبو بكر لأن الرسول لم يفعلها، ولكن عمر تكلم كثيرًا حتى شرح الله صدر الصديق للأمر.

روى البخاري عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: «أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرَّ -أي اشتد وكثر- يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، إلا إن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، قال أبو بكر: قلت لعمر كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله صدري، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد: وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتَتَبع القرآن فاجمعه. فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعُسب وصدور الرجال".

يعلق ابن حجر العسقلاني على تلك الواقعة فيقول: "وإذا تأمل المنصف ما فعله أبو بكر من ذلك جزم بأنه يُعدُّ في فضائله، ويُنوِّه بعظيم منقبته، لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة) رواه مسلم. ثم قال: فما جمع أحد بعده إلا كان له مثل أجره إلى يوم القيامة".

والمعنى واضح، للصديق أجر، مع كل من يمسك مصحفًا، فلو مصحف الصديق لكان ما كان.

وعندما مرض الصديق مرض موته قرر أن يختار الرجل الذي سيصبح أولًا، وتلك قصة نقصها الأسبوع المقبل بإذنه تعالى.

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق