نص كلمة المفتي أمام مجلس العموم البريطاني: الإسلام ليس دين عنف وأعمال المتطرفين لا تمت للدين بصلة

الثلاثاء، 17 مايو 2022 12:28 م
نص كلمة المفتي أمام مجلس العموم البريطاني: الإسلام ليس دين عنف وأعمال المتطرفين لا تمت للدين بصلة
منال القاضي

حصلت "صوت الأمة" على نص كلمة الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية، أمام مجلسي العموم واللورادات البريطاني.

وتضمن نص كلمة الدكتور شوقي علام:

أحيِّيكم بتحيَّةِ الإسلام، وتحيَّةُ الإسلامِ السلامُ، فالسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته.

في البداية اسمحوا لي أن أُعرِبَ عن خالص شكري لكلٍّ من السادة: جونثان لورد، رئيس المجموعة البريطانية المصرية بمجلس العموم البريطاني، والسيد سمير تكلا، مستشار المجموعة البريطانية المصرية بالبرلمان البريطاني وأمينها العام، على دعوتهما الكريمة التي أتاحت لي الفرصة للحديث معكم حول دَور القيم الدينية المشتركة بيننا في تعزيز السلام العالمي.

يرى الكثيرون أن ما يسمَّى بـ"صراع الحضارات" هو السمة الأبرز لواقعنا المعاصر فيما يبدو، وقد استدلَّ أصحاب نظرية الصراع على ذلك من زيادة مؤشر مشاعر العداء والكراهية بين المناطق الثقافية، لا سيما بين العالمَيْنِ الإسلامي والغربي، التي ميَّزت الرُّبع الأخير من القرن العشرين والعقدين الأوَّلَيْنِ من القرن الحادي والعشرين.

وفي رأيي أنه مهما كان التشاؤمُ مخيِّمًا على المشهد، فإنَّ علينا ألَّا نسمح لأنفسنا بالتسليم بحتمية وجود مسار ينتهي بــ" صراع الحضارات". ومن واجبنا أيضًا أن نتفاعل مع توتُّرات العالم تفاعلًا استباقيًّا من خلال العمل الدءوب والمنهجيِّ على نزع فتيلها؛ حتى يحلَّ الاستقرارُ محلَّ الاضطراب، والوُدُّ محلَّ العداءِ؛ لأنَّنا نقدِّم المبادئَ الإنسانية العليا التي يجب أن نلتفَّ حولها جميعًا، والتي تتمثَّل في حفظ النفس البشرية والعمل على حماية وجودها وعقلها وحريتها. في هذا الصدد، اسمحوا لي أن أتوقَّف لحظةً للاعتراف بالجهود التي تبذلها البرلمانات الوطنية، مثل البرلمان البريطاني الموقَّر، وكذا المنتديات العالمية والمؤسسات العلمية، التي أشرف بالانتماء للكثير منها، على مدى العقود القليلة الماضية في دعوة كافَّة أطياف البشر للجلوس على الطاولة والدخول في حوار حقيقي بين الثقافات؛ فالتزامها بتعزيز التفاهم بين الثقافات أمر جدير بالإشادة حقيقةً.

والمطلوب لتحقيق هذه الغايات -من المنظور الإسلامي- هو تقديمُ فَهْمٍ مناسبٍ لطبيعة الحوار مع الآخر والغرض منه، وبذلُ جهدٍ واعٍ لإعادةِ بناء الثقة بين الأطراف المختلفة، واكتشاف القواسم المشتركة بينها. هذه الأهداف هي جزء لا يتجزَّأ من فلسفةٍ كُبرى للحوار، قائمةٍ على التعاليم الإسلامية الصحيحة؛ من أجل مستقبلٍ أفضلَ للعالم الذي يجمع بين كلِّ الثقافات والحضارات في وئام.

لقد أقام الإسلامُ حضارةً إنسانية أخلاقية، وَسِعَتْ كلَّ الملل والفلسفات والحضارات، وشاركت في بنائها كلُّ الأمم والثقافات. ونحن -المسلمين- نرى أنَّنا استوعبنا تعددية الحضارات، فقد استوعبنا حضارات فارس والهند والصين واليونان، وضممناها لحياتنا الثقافية والفكرية، وأفدنا منها جميعًا كما أضفنا إليها. وتضع الحضارة الإسلامية الناسَ والعبادَ فوق أماكن العبادة. هذا المنظور الإنسانيُّ والعالميُّ لا يسمح لنا باعتبار أنفسنا فوق ما عدانا من الخلق. نعم، إننا فخورون بحضارتنا، لكنَّنا لا نتنكَّر للحضارات الأخرى، فكلُّ مَن يعمل على التنمية البنَّاءة في العالم هم شركاءُ لنا.

وما تعلَّمناه هو أنَّ الإسلامَ الصحيح منبعُه النصُّ والفَهم الواضحُ للدِّين، وليس ما يدَّعيه بعضُ الأشخاص ممَّن نصبوا أنفسهم قادةً دينيِّين، بالرغم من افتقارهم إلى المؤهلات العلمية التي تؤهِّلهم لإصدار تأويلات صحيحة للنصِّ الشرعيِّ والأخلاق، فالمسلمون يعتقدون أنِّ الإسلامَ هو رسالةٌ للسلام حول العالم، وبناءً عليه فهي رسالة للناس كافَّة.

وعليه، فإنَّ الإسلامَ الحقَّ هو نَسق مفتوح على العالم، ولا يسعى إلى إقامة حواجز بين المسلمين وغيرهم، بل يجب على المسلمين الاقترابُ من الآخر بقلوب مفتوحة من أجل توضيح الأمور، وليس بهدف مهاجمة كلِّ مَن يختلف معهم، حيث إنَّ فكرة الهجوم تهدم الهدف من الحوار وبناء جسور التفاهم.

يجب أن يكون دافعُ المسلمين هو مبدأَ العيشِ المشترك، والعيشِ معًا في وئام، لا أن يكون تحويلَ غير المسلمين إلى الإسلام، فالله تعالى يقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256].

ليس حتمًا أن ينتهيَ الحوارُ الثقافيُّ بغالبٍ ومغلوبٍ، ولا ينبغي أن يكون الغرضُ من الحوار إدخالَ الآخرين إلى الإسلام، وإنما مشاركتهم قيمه ومبادئه، فالحوار الجادُّ هو ذاك الذي يَقِي روابط الإيمان ويهدم الحواجز، يقول تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]؛ مما يؤكِّد حقيقةً مهمة، وهي أن هذه الأمور موكولة لقدرة الله وليس للبشر فيها من الأمر شيء.

ولو عاد المسلمون إلى كتاب ربهم وسنَّة نبيهم لوجدوا أنَّ واجبَهم هو الحوار لا التناحر؛ فالأول محاولة لاستكشاف الآخر، والتعرُّف على طرق تفكيره حتى نصحِّح ما علق بأذهاننا من تصورات مغلوطة عنه، ونصل معه إلى الأرضية المشتركة التي تكون أساسًا للتعاون المتبادل.

وممَّا يجب التأكيد عليه في أيِّ حوار مع الآخر، هو ضرورة أن يبدأ المرء بنفسه، وأنا باعتباري أحد قيادات المجتمع الإسلامي، أجدني ملتزمًا بهذا المبدأ المهم، وأرى أنَّ على المسلمين أن يفتشوا بداخلهم تفتيشًا جادًّا وأمينًا إن كانوا صادقين في إصلاح ذواتهم، وأن يؤوبوا إلى ربهم بقلب حيٍّ وضمير صافٍ، وهذه رؤية نابعة من التصوُّر الإسلامي لدَور الإنسان في هذا العالم، فالبدءُ بالنفس إذن أمر ضروري لأيِّ حوار مع الآخر؛ لأنه يوجِّه الطاقات في اتجاه مثمر بنَّاء.

وكما قلت من قبلُ في محافلَ عدَّةٍ، فإنَّ السعيَ لتحقيق التفاهم وبناء الثقة التي تشكِّل أساسَ أيِّ حوارٍ عمليةٌ تتطلَّب شركاء متكافئين في الرغبة من كلا الطرفين، والعالم أحوج ما يكون إلى منتديات تُعين على حوارٍ حقيقيٍّ نابع من الاعتراف بالهويات والخصوصيات، حوارٍ يظلُّ محترَمًا ولا يسعى لتأجيج نيران العداوة والبغضاء، أو فرض الهيمنة على الآخر؛ ذلك الحور القائم على أساس التعددية الدينية والتنوُّع الثقافي، الحوار الذي لا ينقلب أبدًا إلى حديث أحادي، وبالتالي فهو من وجهة نظري ليس سعيًا لإلحاق الهزيمة بالمخالف بقدر ما هو محاولة لفهمه وسبر أغواره، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]. ولطالما قلتُ إنَّ الدخولَ في حوار بنَّاء كهذا ينبغي أن يكون أحد أَولى أولوياتنا.

إنَّ حتميةَ الحوار قائمةٌ على رؤيةٍ للعلاقات بين الثقافات، تشدِّد على التسامح والتفاهم والسعي الحثيث. وبالرغم من محاولات تعكير صفو العلاقات بين الإسلام والغرب، فإنَّ الردَّ المناسب لا يكمن في الهجوم أو الدفاع -وكلاهما ذميم- وإنما في البيان والدعوة إلى التركيز على المشترك، وهذا المسار مؤسَّس على  المبدأ القرآني: {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64].

وقد حاولت في مصر -على سبيل المثال- التركيزَ على القواسم الدينية والجغرافية والتاريخية المشتركة بين المسلمين وإخوانهم الأقباط؛ كي أتمكَّن من تحديد مناطق التواصل المثمر في الماضي، وإمكانية زيادة هذا التواصل في المستقبل، وبالتالي تعميق العلاقات بين المسلمين والمسيحيين.

وقد شاركتُ بطبيعة الحال في عدد من المبادرات العالمية المنظَّمة، وتشمل: الحوار مع الكنيسة الكاثوليكية، ومع رئيس أساقفة كانتربري، بالإضافة إلى قادة دينيين آخرين.

ينبغي أن نعمل معًا للتغلُّب على التحديات الهائلة التي تواجه الإنسانية. وحري بالمسلمين -على سبيل المثال- أن يتعاونوا مع غيرهم من الأمم للتصدي للأزمات البيئية، وقد ألمح أميرُ ويلز إلى أن الإسلام يحوي بداخله موارد هامة تمكِّننا من الحفاظ على البيئة؛ لأنَّ الإسلام يرى أن البيئة خلقُ الله الذي يجب أن نتفاعل معها بحبٍّ واحترام. هذا التوازن دليل على الطريقة التي يمكن بها توجيه جهود المسلمين، بحيث لا يُنظر إليهم على أنهم مشكلة من مشكلات العالم الحديث، بل إنهم جزء من الحلِّ لهذه المشكلات.

إنَّ من بين المشاكل التي تواجه العالم الحديث الآن هي مشكلة المرجعية؛ ففي الإسلام وغيره من الديانات نشهد ظاهرة تصدِّي غير المتخصصين ممَّن ليس لهم نصيب وافر من التعليم الديني وتنصيب أنفسهم مرجعيات دينية، بالرغم من أنهم يفتقرون إلى المقوِّمات التي تؤهِّلهم للحديث في الشريعة والأخلاق، وقد أدَّى هذا التوجُّه إلى أن فُتح الباب على مصراعيه أمام التفسيرات المتطرفة للإسلام والتي لا أصل لها، وفي واقع الأمر فإن أحدًا من هؤلاء المتطرفين لم يدرس الإسلام في أيٍ من معاهد التعليم الديني الموثوق بها، وإنما هم نتاج بيئات مفعمة بالمشاكل، واعتمدوا على تفسيرات مشوهة ومنحرفة، ويهدفون إلى إشاعة الفوضى لتحقيق أهداف سياسية.

ودورنا بوصفنا قيادات دينية قضت حياتها في دراسة النصوص الدينية هو إعادة المرجعية بإعادة مَن لهم قدم راسخة في العلم. لقد بدأتُ من خلال منصبي الحالي في تقديم صورة للمرجعية الإسلامية من شأنها أن تسهم في فهم الإسلام كما ينبغي، وستساعد على العيش معًا في سلام عادل ودائم، والتعاون فيما بيننا على أساس الشراكة والاحترام المتبادل.

لذا فإننا في دار الإفتاء المصرية -وهي واحدة من أهم المؤسسات الدينية في العالم- نبذل قصارى جهدنا، ونحرص على توفير الوسائل التي تتاح من خلالها العلوم لكلِّ من يطلبها من أجل خلق بيئة علمية تسمح بحب التعلُّم واكتشاف العالم من حولنا

كذلك نصدر الفتاوى الصحيحة التي تؤكِّد حقَّ المرأة في الكرامة والتعليم والعمل وتقلُّد المناصب العليا، وكذلك الفتاوى التي تحرِّم أفعالَ العنف والإرهاب باسم الدين.

كما أننا ندعم الحقَّ في حرية الاعتقاد وحرية الرأي والتعبير في حدود حفظ الكرامة الإنسانية، وندعم كذلك القيمَ الإنسانية المشتركة بين الديانات السماوية والديانات الشرقية، بما يضمن حرية الإنسان، إلَّا أنَّ الطريق ما زال طويلًا أمامنا من أجل تعميق الفهم الصحيح عن الإسلام.

إنَّ بعض المحللين من خارج العالم الإسلامي قد نظر إلى أعمال فئة قليلة لكنها عالية الصوت مثيرة للقلاقل في العالم الإسلامي، واعتبروهم ممثلين لمعتقدات أغلبية المسلمين، زاعمين أن الإسلام دين أساسه العنف، وللأسف ساهمت وسائل الإعلام في تأكيد هذا الرأي من خلال تناولها للإسلام.

اسمحوا لي أن أكون واضحًا بأن أكرِّر لكم أنَّ الإسلام ضد التطرف على طول الخط، لكننا إن لم نفهم العوامل التي تقدم لتبرير العنف، فلن نتمكَّن أبدًا من استئصال هذا الوباء إلا بحلٍّ عادل لهذه القضية. ولا بدَّ من فهم ذلك حتى نبني مستقبلًا أفضل يضع نهايةً لهذا الوضع الذي يؤزِّم العالم.

ختامًا، أودُّ أن أقول: إنَّ مشروع إعادة بناء عالم يسوده الوئام والتعاون يتطلَّب تضافر جهود جميع الأطراف الدينية وغيرها، من أجل التعبير عن ثقتهم بالمسلمين.

إن بناء عالم من قبيل ما أتصوره يحتاج إلى مشاركة قادة المجتمعات الدينية وغيرهم في التعبير عن ثقتهم بنظرائهم من المسلمين، ولن يُحرَزَ تقدُّمٌ ما لم نعمل معًا بإيمان وثقة، وليس من سلاح أقوى في وجه التطرف من التعليم الصحيح.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق