عن حسام فخر ووردته الغائبة

السبت، 28 مايو 2022 06:21 م
عن حسام فخر ووردته الغائبة

- الكاتب يعلن عن هوية مجموعته "بالصدفة والمواعيد" مستعينًا بكلمة للكاتب الأمريكي بول أوستر "القصص لا تحدث إلا لمن يعرف كيف يحكها

لا ينشر القصاص الكبير الأستاذ حسام فخر إلا إذا فاضت كأسه ولم يعد بها متسع لقطرة إضافية، وظني أنه يدرك "وإن لم يصرح أو حتى يلمح" أن كتاباته مثل عصا موسي، عندما تنزل إلى ساحة التحدي ستلقف مَا يَأْفِكُونَ.

حسام ليس مشغولًا بتهليل ناقد أو بالسعي المحموم خلف جائزة، هو مشغول دائمًا بالقبض على جملة واحدة صادقة، ومنها ينطلق ليحكي ويقص نبأ الأحياء والراحلين.

حسام مؤمن جدًا بتلك النصيحة الخالدة "اكتب عما تعرف"، وهو يعرف الكثير ولذا لا ترى عرقه وهو يحفر الصخر بأظافره بحثًا عن فكرة.

لكلٍ وجهة هو موليها، ووجهة حسام هي الصرامة، هو يحدد بدقة زمان ومكان قصته، ويشحن هواء القصة بعبق معانيها العميقة البعيدة، ثم لا ينسى الظل والنور، ولا يغفل عن الربى والقيعان، تقرأ القصة من قصصه فتقبض بيديك الاثنتين على معنى الكتابة الخالصة لوجه الفن وتعرف الفرق بينها وبين الشعوذة التي يحتال بها بعضهم بها على جماهير القراء تساندهم في شعوذتهم طائفة من النقاد الذين لا يرقبون في قارئ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً.

في مجموعته الجديدة "بالصدفة والمواعيد" الصادرة عن دار العين، يؤكد حسام على خلود بيت المتنبي “لِكُلِّ اِمرِئٍ مِن دَهرِهِ ما تَعَوَّدا". فعادات حسام لم تتبدل ولم تتحول، إنه يكتب عما يعرف ولذا فهو يكتب عن عالمه الخاص، ولكنه بقدرة الفن الحقيقي يورط قارئه في دهاليز هذا العالم، فلا يتأفف القارئ من كاتب يكتب عن عالمه الخاص، بل يجد لذة المشاركة في الوجع الإنساني وفي حرقة الفقد ومرارة الهجران، فنصبح كلنا حسام فخر أو كأنه صوتنا الصارخ في البرية.

منذ ضربة البداية يعلن الكاتب الكبير عن هوية مجموعته مستعينًا بكلمة للكاتب الأمريكي بول أوستر: "القصص لا تحدث إلا لمن يعرف كيف يحكها".

هل الأمر كما قال السيد أوستر؟

كلنا تحدث لنا القصص وكلنا تقع القصص على قلوبهم، ولكن لسنا في الحكاية سواء، فليت السيد أوستر قال: "الذين يعرفون كيف يحكون هم فقط الذين تحدث لهم القصص".

قصص حسام مرت علينا جميعًا، فلماذا لم نكتبها؟

لأننا ببساطة لا نعرف كيف نحكي الحكاية.

حسام يعرف كيف يحكي الحكاية ولذا يجعل من حادثة عابرة قصة تهز أعماقك وتنبهك إلى حقيقة الحياة التي هي "الوعد والمكتوب" و "المقدر والنصيب" أو بالصدفة والمواعيد، ففي قصة عربية التين الشوكي مفتاح سحري نلج بفضله إلى أعماق المجموعة ومعناها البعيد.

في قصة التين الشوكي، نعيش لحظات مع أسرة، من أب وأم وولدين، لا يشترون الخبز الفينو إلا من مخبز بعينه يقع في ضاحية مصر الجديدة، هنا تبز موهبة حسام في تقديم تفاصيل جد صغيرة ولكنها مؤثرة، فلا يفوته وصف رائحة الفينو الخارج توًا من نيران الفرن، وكيف كان بطل القصة وشقيقه يسارعان بالتهام أكبر عدد ممكن من أصابع الفينو، وفي ذات ليلة لم يذهب إلى المخبز سوى بطل القصة ووالده، فرح بطل القصة لأنه سيلتهم بمفرده نصيبه ونصيب شقيقه من أرغفة الفينو، فجأة وقعت عين الأب على بائع تين شوكي يقف مع طفله ليبيعا ثمار التين للعابرين، أوقف الأب سيارته وتوجه نحو بائع التين، وعندما عاد كانت أنفاسه متهدجة وصوته مختنقًا، ثم بنبرة أسى قال لولده: الليلة لن نذهب إلى المخبز.

كانت مفاجأة تعيسة للصبي، وعندما سأل أباه عن السبب، قال الأب: لقد قدمت لبائع التين كل ما معي من نقود!

زكاة عن الصدفة وضربة الحظ.

كان من الوارد أن أكون أنا مكان البائع وتكون أنت مكان ولده، ولكنها الصدفة.

من باب الصدفة يمكننا الدخول إلى المجموعة ومعايشة كل قصصها، فتلك الصدفة وتلك المواعيد هي الخيط الذي يربط حبات المجموعة، ويلملم أجزاءها فتصبح كيانًا واحدًا وإن تعددت وجوهه.

الصدفة نفسها ستلعب دورًا محوريًا في قصة" مع الضوء المشع"

كان بطل القصة (الذي هو الكاتب نفسه) مع والده والأسرة يعيشون في الاتحاد السوفيتي، ولأن الوالد هو اللواء أحمد فخر أسطورة سلاح المدفعية المصري، والأم هي شقيقة شاعر الشعب صلاح جاهين، فقد تعامل السوفييت مع الأسرة تعاملًا متميزًا.

زار الأسرة شاعر روسيا الأكبر "يفجيني يوفتيشنكو"، أنشد الشاعر تلبية لطلب الأب، شيئًا من شعره، وكان بطل القصة يعامل الضيف الكبير معاملة رسمية إلا أن الشاعر طلب منه أن يناديه بدياديا يفجيني، أي عمي يفجيني.

ثم مرت السنون، ومات الأب والأم وتفرقت الأسرة، ومات شاعر السوفييت في مستشفى أمريكي!

وعرف البطل بموت الشاعر من جريدة أمريكية، فتذكر ما كان بينه وبين الشاعر فقرر إرسال وردًا تعبيرًا عن مواساته، ولكنه اصطدم بتقليد روسي راسخ، يقضي بأن يكون عدد الأزهار المقدمة فى المناسبات السعيدة فرديًا وعدد أزهار الحزن زوجيا.

قال البطل:" اخترت أن أبعث بأربع وردات حمراء قضيت وقتا طويلا ومُضنيًا أملي على عاملة تلقّي الطلبات رسالة مطولة تكتب على البطاقة المرفقة: دياديا يفجيني، إليك فى رحلتك الأخيرة أربع وردات.

 واحدة لذكري لقائنا الوحيد.

  وواحدة لتربيتك الحنون على كتفي.

 وواحدة للنور الساطع المٌشع منم وجهك الوسيم.

والأخيرة للشعر الجميل الذي كان يمكنك أن تكتبه".

وللحق فقد خان حسام منهجه في تلك القصة، فقد كان يجب عليه كسر التقليد الروسي بأن يرسل خمس أزهار، ولتكون الخامسة هدية زكاة عن الصدفة والمواعيد التي جمعته بشاعر كبير، كما فعلها أبوه من قبل.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة