يوسف أيوب يكتب: الثلاثية الحاكمة لسياسات مصر الخارجية

السبت، 13 أغسطس 2022 07:29 م
يوسف أيوب يكتب: الثلاثية الحاكمة لسياسات مصر الخارجية

الحفاظ على الأمن القومى المصرى.. ضمان وحدة وسلامة واستقرار الدول.. إحلال السلام والاستقرار في العالم بالمسارات الدبلوماسية وتجنب الصدام العسكرى

جهود القاهرة الأخيرة لاحتواء الموقف الميداني المتوتر بغزة جاء ضمن استراتيجية شاملة تدعم الحق الفلسطيني وتسعى لتحسين الوضع المعيشي بالقطاع

 

يوم 18 مايو 2021 وخلال مشاركته فى القمة الثلاثية بشأن تطورات الأوضاع فى الأراضي الفلسطينية، والتى كانت تعقد وقتها بقصر الإليزيه فى باريس بمشاركة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والملك الأردني عبد الله الثاني بن الحسين، أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي عن تقديم مصر مبلغ 500 مليون دولار كمبادرة مصرية تخصص لصالح عملية إعادة الإعمار فى قطاع غزة نتيجة الأحداث التي كانت تشهدها وقتها من عدوان إسرائيلي على القطاع، وأكد الرئيس السيسى أن الشركات المصرية المتخصصة ستشترك فى تنفيذ عملية إعادة الإعمار.

هذا الإعلان جاء في وقت كانت فيه الاتصالات جارية في محاولة التوصل إلى هدنة مؤقتة، تتوقف خلالها إسرائيل عن قصف القطاع، وأن توقف الفصائل الفلسطينية إطلاق صواريخها تجاه المدن الإسرائيلية الملاصقة للقطاع، وكان لإعلان الرئيس السيسى هذه الحزمة من مجموعة من الدلالات والإشارات، بل الرسائل التي كانت تعرف طريقها، أهمها على الإطلاق أن مصر حينما قررت في وقت سابق للتصعيد العسكرى بالقطاع، أن تتدخل بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني فأنها على يقين بأن جهودها ستؤتى ثمارها، لذلك فالمطلوب أن يتجاوز الجميع لغة الحديث عن الهدنة أو التفاوض، والانتقال إلى مرحلة ما بعد تثبيت الهدنة، والمقصود بالطبع هو إعادة إعمار القطاع.

بالفعل تلقى أصحاب المصلحة الرسالة المصرية جيداً، وبدأ كل طرف إقليمى أو دولي في ترتيب نفسه للمرحلة المقبلة، بعدما تيقن الجميع أن الإعلان المصرى عن ملف إعادة الإعمار يؤكد نجاح مصر في التوصل إلى هدنة ليست مؤقتة وإنما تحمل في طياتها اتفاق على ملفات أخرى كانت عالقة، والا ما أعلنت مصر عن خريطة طريق لإعادة إعمار القطاع، وهو الملف شديد التعقيد والذى ظل يراوح مكانه لسنوات طويلة، لخلافات سابقة بشأن التفاصيل المرتبطة بأنواع معينة من المواد المستخدمة في الإعمار، وأخرى مرتبطة بمن يملك القرار وتوجيه الإعمار وغيرها من الأمور التي لم يسبق حسمها، لكن جاء الإعلان المصري ليؤكد أن كثير من هذه التفاصيل حسمت، والمطلوب الآن التركيز على المستقبل وليس الحديث عن الماضي ومراراته.

تذكرت هذا الأمر حينما كنت أتابع تطورات الأحداث الجديدة في القطاع، الأسبوع الماضى، من تصعيد عسكرى في غزة، تدخلت الدولة المصرية على أثره بتوجيهات من الرئيس السيسى، لإجراء اتصالات مكثفة بُغية احتواء الوضع في غزة والعمل على التهدئة والحفاظ على الارواح والممتلكات، والحقيقة التي كانت ماثلة أمام الجميع، أن التحرك المصرى لم يأتي نتيجة للتصعيد العسكرى، وإنما استبقه بأيام حينما استشعرت مصر وجود مؤشرات على الأرض تقود إلى تصعيد عسكرى، لذلك بادرت محذرة كافة الاطراف المعنية من مغبة الاستمرار في هذا التصعيد، لما له من أضرار سلبية على الجميع، خاصة المواطنين الأبرياء.

وبالفعل، مساء الأحد الماضى، قال مصدر مصري مسئول أنه "في إطار حرص مصر على إنهاء حالة التوتر الحالية في قطاع غزة، كثفت مصر اتصالاتها مع كافة الأطراف لاحتواء التصعيد الحالي وفي ضوء تلك الاتصالات تدعو مصر إلى وقف إطلاق النار بشكل شامل ومتبادل اعتبارا من ساعة 23:30 مساء يوم 7/ 8 / 2022 (بتوقيت فلسطين)، وتبذل مصر جهودها بالعمل للإفراج عن الأسير خليل العواودة ونقله للعلاج وكذا العمل على الإفراج عن الأسير بسام السعدي في أقرب وقت ممكن".

ومساء الثلاثاء الماضى تلقى الرئيس السيسى اتصالاً هاتفياً من رئيس الوزراء الاسرائيلى يائير لابيد الذى عبر عن بالغ التقدير لدور الوساطة الناجحة التى قامت بها مصر خلال الايام الماضية بقيادة الرئيس السيسي للتوصل لوقف سريع لإطلاق النار، وتثبيت وإعادة الهدوء في قطاع غزة، وهو ما يرسخ دور مصر كركيزة اساسية لاستقرار منطقة الشرق الأوسط.

وخلال الاتصال أشار الرئيس السيسى إلى أن مصر قامت بجهود ومساعى حثيثة ومركزة لاحتواء الموقف الميداني وللحيلولة دون امتداد نطاق المواجهة وزيادة الأعمال العسكرية، ومن ثم هناك أهمية بالغة للبناء على التهدئة الحالية وقطع الطريق على أي محاولة لتوتر الأوضاع سواء بالضفة الغربية أو بقطاع غزة، واتخاذ خطوات فورية لتحسين الوضع المعيشي في القطاع للتخفيف من الظروف المتدهورة به والإسراع في تحسين العلاقات الاقتصادية مع السلطة الفلسطينية، ودعم الرئيس الفلسطيني محمود عباس، كما أكد الرئيس أن مصر تتطلع لتجديد الأمل لدى الشعب الفلسطيني فى تحقيق السلام المنشود والحصول على حقوقه المشروعة وفق المرجعيات الدولية، وهو ما يفرض حتمية انهاء دائرة العنف والتصعيد المتكرر سعياً لفتح الباب امام فرص وجهود التسوية وتحقيق الاستقرار والهدوء تمهيداً لإطلاق عملية السلام بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، التى من شأنها تغيير واقع المنطقة بأسرها.

ومن خلال تتبع مسار التحركات المصرية مع الحكومة الاسرائيلية بشقيها الأمني والسياسي ومع الاشقاء الفلسطينيين سواء السلطة بقيادة الرئيس محمود عباس ابو مازن او مع قيادات الفصائل وتحديدا المتواجدين فى قطاع غزة، فقد كانت هناك اهداف محددة تسعى مصر إلى تحقيقها تتمثل في:

اولاً: تثبيت اتفاق 2021 وما يتبعه من اجراءات على الارض مرتبطة باتفاق التهدئة وعودة مسار اعادة اعمار القطاع.

ثانيا: العمل على إزالة الأسباب التي أدت إلى حدوث التوترات الأخيرة في القطاع، لأن الهدف ليس فقط التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وإنما أن يعود الاستقرار إلى القطاع بشكل دائم.

ثالثا: الحديث عن آليات محددة لبلورة اتفاق لتبادل الاسرى والسجناء بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

رابعا: أن يكون هناك ضغط دولى على الجانين الفلسطيني والإسرائيلي لتسريع وتيرة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية بما يؤدى الى تحقيق الهدف النهائى والمتمثل فى اقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، مع وضع حلول واقعية لمشاكل اللاجئين وغيرها.

كان هذا هو مسار التحركات المصرية، والتي كانت تسير وفق هدف اسمى وهو الحفاظ على ارواح الاشقاء الفلسطينيين وتجنيب المنطقة اى تصعيد جديد، قد يلقى بظلاله السلبية على كل مشروعات التسوية المقترحة من جانب اطراف دولية واقليمية، وربما قد تؤثر ايضا على ملفات اخرى لها ارتباط وثيق بالقضية الفلسطينية، وغير بعيد عن ذلك أن هناك مفاوضات غير مباشرة بين إسرائيل ولبنان بوساطة امريكية حول عملية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، فهذه المفاوضات بالتأكيد ستكون عرضة فى اى وقت لشظايا قد تأتيها من التصعيد القائم الآن فى القطاع.

ويلاحظ ايضا ان هناك التحركات المصرية سواء مع الأطراف الدولية والأقليمية المعنية، ومع الأشقاء الفلسطينيين، متواصلة منذ فترة، بهدف بناء جدار دولى سميك يستهدف وضع حد للتصعيدات العسكرية المتكررة فى غزة، وأن تكون هناك ضوابط وحدود لأية تحركات مستقبلية، واتفاق على ان تكون القضية الفلسطينية بعيدة تماما عن التقلبات السياسة المسيطرة فى الوقت الراهن على الوضع الاسرائيلى الداخلى، وكذلك الدعوة إلى اقرار مصالحة فلسطينية داخلية باعتبارها قضية الساعة التى بدونها سيكون من الصعب الحديث عن أفق لحلول مستقبلية.

ومن متابعة ردود الأفعال الدولية والفلسطينية على التحركات المصرية الأخيرة تجاه توترات الأوضاع في غزة، أن هناك تقدير دولى كبير لما تقوم به مصر لإقرار الأمن والاستقرار في فلسطين وكافة دول المنطقة، وإذا كنا نتحدث عن غزة تحديداً، فإن التحركات الأخيرة هي إعادة تأكيد للدور المصري الذى سوف يظل فعالًا وإيجابيًا ليس فقط في عمليات التهدئة، لكن في التحرك من أجل حل القضية الفلسطينية طبقًا لمقررات الشرعية الدولية، حتى يتم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية علي خطوط العام 1967 في إطار مبدأ حل الدولتين.

فالقضية الفلسطينية، هى قضية العرب الأولى كما سبق وأشار إليها الرئيس السيسى خلال قمة جدة للأمن والتنمية الشهر الماضى في السعودية، والمؤكد هنا أن الموقف المصرى واضح ولم ولن يتغير، قائم على أن أي جهود دولية لحل أزمات المنطقة بكافة أشكالها وأنواعها لا يمكن أن يكتب لها النجاح إلا من خلال التوصل إلى تسوية عادلة وشاملة ونهائية لقضية العرب الأولى، تضمن للشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، وتعيش في أمن وسلام جنبًا إلى جنب مع دولة إسرائيل، على نحو يحقق أمن الشعبين ويوفر واقعًا جديدًا لشعوب المنطقة يمكن قبوله والتعايش معه، ويقطع الطريق أمام السياسات الإقصائية، ويعضد من قيم العيش المشترك والسلام وما تفتحه من آفاق وتجسده من آمال، وهو ما يتطلب تكثيف الجهود الدولية ليس فقط لإحياء مسار عملية السلام، بل للوصول إلى حل نهائي لا رجعة فيه، ليكون بذلك قوة الدفع التي تستند عليها مساعي السلام في المنطقة، وانطلاقا من هذه السياسة، فإن مصر دوماً تعمل مع شركائها من أجل استعادة السلام والاستقرار بقطاع غزة، ولمنع خروج الأوضاع عن السيطرة.

وبعيداً عن الأحداث الأخيرة، فإن القيادة السياسية المصرية تتحرك بقوة للعمل على استئناف المفاوضات بين إسرائيل وفلسطين في أقرب فرصة ممكنة، أخذاً في الاعتبار أن أهم ما يميز دور مصر أنها تتمتع بعلاقات متميزة مع جميع الأطراف وهو ما يجعل دورها مطلوبًا ومقبولًا.

هذا الدور يقودنا إلى أمر مهم، مرتبط بكيف تدير مصر سياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية، ورغم أن هذا الموضوع هو مثار حديث وتأكيدات يومية، لكن ما يجرى اليوم في بؤر توتر متعددة، بعضها قريب منا بواقع الجغرافيا، وكثير منها بعيد جغرافيا لكنه قريب في تأثيراته الاستراتيجية علينا، كل هذا يستدعى إعادة التأكيد مرة أخرى على ملامح من سياسة مصر الخارجية.

ولن أجد شرحاً أو توضيحاً لهذه السياسة أكثر مما قاله الرئيس السيسى السبت الماضى، خلال لقائه مع السبت الماضى مع طلبة الكلية الحربية ضمن جولته التفقدية بالكلية الحربية، حينما أكد أن "السياسة الخارجية لمصر ثابتة لا تتغير.. مصر حريصة على دعم الاستقرار والسلام الإقليمي والدولي، من منطلق اقتناعنا بأن استقرار العالم يصب في صالحنا".

وفى حديث الرئيس السيسى عن بعض بؤر التوتر الدولية، تظهر لنا مواقف مصر الواضحة.

أن سياسة مصر تقوم على ثلاثة مبادئ أساسية:

المبدأ الأول، يتعلق بالحفاظ على الأمن القومى المصرى بكافة مقوماته وعناصره.

المبدأ الثانى، الحفاظ على وحدة وسلامة واستقرار الدول، فالسياسات المصرية قائمة على الاعتدال والتوازن وعدم التدخل في شئون الآخرين، وهنا يمكن فهم الموقف المصرى تجاه الوضع في تايوان، والذى يقوم على دعم سياسة "الصين الواحدة".

المبدأ الثالث، يعتمد على السعي الدائم لإيجاد حلول سياسية لأى أزمة، وتجنب أي صدام عسكرى، أو حتى مجرد التهديد به، حيث تسعى الدولة المصرية دائما إلى إحلال السلام والاستقرار في العالم عبر المسارات الدبلوماسية، وهو نفس الموقف الذى تتبناه القاهرة تجاه الأزمة الروسية الأوكرانية.

وربما يكون من المفيد هنا الإشارة إلى المغزى المصرى من اعتماد هذه السياسة أو الاستراتيجية، ولتكن الأمور واضحة ننظر على سبيل المثال للأزمة الروسية الأوكرانية، وتأثيراتها العابرة لحدود الدولتين، والتي من نتائجها ارتفاع أسعار العديد من السلع دولياً، وقلة المعروض من سلع كثيرة، وغيرها من الأزمات الاقتصادية التي طلت علينا جميعاً دون استثناء، منها تعثر سلاسل الإمداد وقلة المعروض وارتفاع تكلفة الشحن التي أثرت على أسعار السلع الأساسية عالميا، فالسياسة المصرية التي تقوم على أهمية نزع فتيل أي أزمة، لأن الاستقرار والسلام هو المسار الآمن للجميع، لو أخذت بها الدول لما وصلنا إلى هذا الشكل من الصراعات التي تخطت في تأثيراتها الأطراف المعنية، وأصابت شظاياها كل دول العالم.

 

 

 

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق