مفارقات أمير الشعراء

السبت، 22 أكتوبر 2022 08:50 م
مفارقات أمير الشعراء
حمدي عبد الرحيم يكتب:

شهر ميلاد أحمد شوقى هو ذاته شهر وفاته في مفارقة ستطبع حياة الشاعر الأشهر.. وأهم مفارقاته حرص والده على جمع أشعاره ونثره
 
غاظني قديمًا أن إحداهن قالت في حواري أجري معها: "أحب من الشعراء المتنبي ومن الفنانين سيد درويش، أما أحمد شوقي وعبد الوهاب فهما نجاران لا فنانان".
 
الحكم الطائش الذي أصدرته السيدة المتحدثة هو في حقيقته رجع الصدى لرطانة رطنها مراهقو ومدعو الثقافة، الذين لم يروا في فن شوقي وعبد الوهاب إلا ظلالًا لملكية بادت وغاب عنهم فن الرجلين الذي ظل يناطح الزمان .
 
وغاظني حديثًا أن دوائر ثقافية مصرية لم تهب للاحتفال كما يجب بالذكرى التسعين على رحيل أمير شعراء العربية أحمد شوقي.
 
ولد أمير الشعراء بحي الحنفي بالقاهرة فى 16 أكتوبر 1868، وتوفى فى 14 أكتوبر من سنة 1932، فشهر ميلاده هو ذاته شهر وفاته، ويومان فقط يفصلان بين المناسبتين، في مفارقة ستطبع حياة الشاعر الأشهر.
 
لعل أولى المفارقات التي تكشف عن الفناء الخلفي لحياة شوقي، هي حرص والده على جمع أشعاره ونثره، وذلك لأن الأب كأن يتنبأ بمستقبل مشرق لولده.
ينقل أمير البيان شكيب أرسلان في كتابه "شوقي صداقة أربعين سنة" عن شوقي قوله: "كانت وفاة والدي من نحو ثلاث سنوات، فكان لي عجبًا أن وجدت بين أوراقه شيئًا كثيرًا من مُشتَّت منظومي ومنثوري ما نُشر منهما وما لم يُنشر، قد كُتب بعضه بالحبر والبعض الآخر بالرصاص، والكلُّ خط يد المرحوم، وقد لفَّه في ورقةٍ كُتِبَت عليها هذه العبارة: «هذا ما تيسَّر لي جمعه من أقوال ولدي أحمد وهو يطلب العلم في أوروبا؛ فكنت كأنِّي أراه، وأني آمره أن يجمعه ثم ينشره للناس؛ لأنه لا يجد بعدي مَنْ يعتني بشئونه، وربما لم يُوجَد بعده مَنْ يُعنَى بالشعر والآداب»، فبينما أنا ذات يوم تَعِبٌ بهذه الأوراق حَيْران لوصيَّة الوالد كيف أجريها زارني صديقي مصطفى بك رفعت، فحدَّثته حديثي فسألني أن أُعِيرَه الأوراق أيامًا ثم يعيدها إليَّ ففعلت، ثم لم يمضِ شهرٌ حتى بعث بها إليَّ وإذا هي قد نُسِخَت بقلمٍ مليحٍ يؤيِّده ذوقٌ صحيح؛ بحيث لم يبقَ إلَّا أن تُدفَع إلى المطابع، فأخذتها وبودِّي لو وفَّيتُ صديقي المشار إليه حقَّه من شُكْرِ الصنيع، وأنا أقول في نفسي: لئن صدق أبي في الأولى لقد ظُلم في الثانية؛ فإن الخير لا يزال في الناس".
 
أما ابن شوقي، حسين أحمد شوقي فقد سجل في كتابه "أبي شوقي" تفاصيل كثيرة ومهمة تلقي المزيد من الأضواء على شخصية شاعر العربية الأشهر.
يكشف حسين أن شوقي الأب كان يجمع بين النقيضين ، غاية الأنانية ومنتهي الرقة!
 
كان شوقي يغضب كما الأطفال إن لم ينتظره أولاده علي مائدة الطعام، ويغضب لو وجد طعامًا لم يأمر بصنعه، ويغضب إن لم يكن الطعام مألوفًا لديه، ويغضب إن لم يكن محور أسرته والمحيطين به!
 
ثم يرضي فيسرف في احتضان وتقبيل الجميع حتي "كلبة" الأسرة كان يقبلها ويدللها .
 
يرق حتي أنه يستجيب لطفله علي ويجلب له تمساحًا يصنع من أجله حوضًا في حديقة البيت!
 
ومن مفارقات شوقي أنه كان مدركًا لطبيعة علاقته بالأسرة الحاكمة وقد عد وفائه لهم جميعًا من باب المروءة والأمانة، وهو القائل: "أأخون إسماعيل في أبنائه وقد ولدت بباب إسماعيلا"، إلا أن التاريخ يسجل واقعة هروبه من الحج مع الخديوى عباس حلمي الثاني بن محمد توفيق بن إسماعيل.
 
يقول حسين شوقي: "ألم يكن أبي أنانيًّا عندما تخلّى عن الخديوي حين سافرَ سموّه إلى الحجاز ليؤدّي فريضةَ الحجّ؛ ذلك العاهل الذي كان هو شاعر بلاطه، والذي كان يحبّه ويعطف عليه كلّ العطف؟
 
وكان أبي كلّما روى هذا الحادث فيما بعد يضحك ملء شدقيه، يقول: إنّه أقنع سموّه بأنّه ذاهب معه إلى الحجّ ولكن لمّا بلغ ركب الخديوي بَنهَا، اختفى منه أبي، فجعل سموّه يبحث عنه ولكن دون جدوى، ويقول أبي: إنّه اختبأ إذ ذاك في منزل أحد أصدقائه، ولمّا عاد سموّه من الحجاز وأخذ يلوم أبي على فعلته، اعتذر هذا قائلًا: كلّ شيء إلّا ركوب ظهر الجمال يا أفندينا.
 
ولكي يعوّض سموّه عن هذا التّقصير نظم له قصيدة ترحيب وتهنئة بالحج!
 
وعندما نفي شوقي مع أسرته إلى إسبانيا سجل واحدة من مفارقاته .
 
يقول حسين: إنه كان في مرة في الأتوبيس مع والده، فشاهدا ثريًا عملاقًا دميم الملامح يغط في نوم عميق، وشاهدا شابًا وسيمًا فقيرًا ينتهز نوم الثري ويسرق منه سلسلة صدره الذهبية، كاد حسين أن يفضح الشاب السارق، لكن شوقي تؤطأ مع السارق حتى أنهي مهمته، وغادر الأتوبيس ظافرًا بالسلسلة، وعندما عاتب الولد أباه علي سكوته عن السرقة، رد شوقي بجدية سائلًا ابنه: "شيء عجيب يا بني، لو كنت مقسمًا الحظوظ، فلمن كنت تعطي السلسلة الذهبية؟ أكنت تعطيها عملاقًا دميمًا أم شابًا وسيمًا؟".
 
رد الابن: "كنت أعطيها الشاب الوسيم".
 
فرد شوقي: "وها هو قد أخذها!
 
وبعد فليت دوائر الأدب المصرية والعربية تنتهز مثل تلك المناسبات فتنظر في فنون عظماء الأمة، وشوقي على رأس القائمة.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق