حمدي عبد الرحيم يكتب: لماذا نستورد الأمثلة؟

السبت، 18 مارس 2023 06:00 م
حمدي عبد الرحيم يكتب: لماذا نستورد الأمثلة؟

- مصر كانت سباقة إلى الاحتفال بيوم للمرأة تكريمًا لها بعد مشاركتها العظيمة والجليلة في أحداث ثورة الشعب في العام 1919
 
كانت المرأة على مستوى العالم تحتج مطالبة بحقوقها الحياتية والسياسية، وقد بدأت الاحتجاجات تكبر وتتعاظم بداية من القرن التاسع عشر، وتواصلت حتى بلغت ذروتها في اليوم الثامن من مارس من العام 1908 ففي ذلك اليوم تدفقت إلى شوارع مدينة نيويورك الأميركية حشود نسائية قدر عددها بخمسة عشر ألف عاملة، طفن الشوارع وهن يطالبن بتخفيض ساعات العمل ورفع قيمة المعاش والحصول على حق المشاركة في العمليات الانتخابية ورفع شعارًا رئيسيًا كان "نريد خبزًا ووردًا".
 
ذلك اليوم أصبح عيدًا عالميًا للمرأة، وكانت مصر سباقة إلى الاحتفال بيوم للمرأة تكريمًا لها بعد مشاركتها العظيمة والجليلة في أحداث ثورة الشعب في العام 1919.
 
الاحتفال والاحتفاء بالمرأة أمر طيب بل فرض عين، فلا ينكر فضل المرأة إلا جاحد لا تعرف المحبة والود طريقهما إلى قلبه.
 
ولكن مع كل مناسبة عالمية، أجدنا نلجأ إلى استيراد أمثلة طارئة على حياتنا وتاريخنا، فعندما يحتفلون بشجاعة المرأة، نتحدث نحن عن جان دارك الفرنسية، وهي فتاة لا ننكر أنها عظيمة ومقدرة عند قومها، ولكن تاريخنا البعيد والقريب ممتلئ بنماذج باهرة لا تقل إن لم تكن تتقدم على نموذج جان دارك، بل أن أي معيلة مصرية تعبر بأسرتها إلى بر الأمان يجب تكريمها وتقديرها وتقديم أسمى آيات الاحترام لشجاعتها ولمقاومتها لظروف صعبة جدًا يشكو منها العالم أجمع.
إن الأمثلة التي نستوردها، مع كامل احترامنا لها، تعرضت لموقف أو اثنين، أو حتى عشرة مواقف، أما مثالنا نحن فقد تعرضت لاختبار الحديد والنار والدم والدموع على مدار ربع قرن كامل.
 
مثالنا نحن، هو أمنا، أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد عليها السلام والرضوان.
 
بدأ اختبار السيدة خديجة عندما قررت وهى الثرية جدًا الزواج من شاب فقير هو سيدنا محمد، كان رسولنا في الذروة من قومه ولكنه على المستوى المالي لم يكن ثريًا بل حياته لم تكن تبشر بأي ثراء مادي، تجاوزت السيدة خديجة هذا الاختبار بنجاح ساحق، وأمنت بشرف محمد وطهارة يده عندما تاجر لحسابها فجاءها بربح وفير طيب حلال.
 
ثم جاء الاختبار الثاني عندما جاء زوجها بابن عمه سيدنا الإمام علي بن أبي طالب لكي يعيش في بيته أو بالأحرى بيت زوجته، وذلك لأن أحوال أبي طالب المادية قد اضطربت، فخفف عنه ابن أخيه العبء فجاء بعلي لكي يتعيش تحت رعايته، لم تقل صاحبة البيت والمال كلمة واحدة في معارضة زوجها ولم تحدثه بكلمة واحدة عن أعباء الأسرة وعن رعايتها لصبي ليس من طرح بطنها، لقد رحبت وعاملت عليًا كأنها ولدها البكر.
 
وكان الاختبار الثالث بموت أولادها الذكور واحدًا بعد الآخر، لقد صبرت ورضيت بقضاء الله وقدره، وعاشت لزوجها ولبناتها الخمس السيدات (زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة).
 
أما الاختبار الرابع فقد كان قاسيًا غاية القسوة، نحن أمام سيدة ثرية مترفة ليس في حياتها صراعات أو قضايا كبرى اللهم إلا مشاغل التجارة والحياة العادية، ثم فجأة تجد زوجها الشاب الأمي يعتزلها بل يعتزل الناس جميعًا ويقيم منفردًا في غار حراء.
 
ثقتها بشرف زوجها ورجاحة عقله هي التي جعلتها تقبل اعتزاله لها وللناس جميعًا وإقامته في غار ليس به من وسائل الحياة شيء.
 
هي التي كانت تعينه على الإقامة وتمده بوسائل الحياة، وبعض المؤرخين يقولون إنها كانت تزوره في الغار، بعد أن عينت له حراسًا يقومون على أمنه.
الاختبار الرابع لم يكن سوى تمهيدًا لاختبار خامس أصعب وأقسى.
 
كان زوجها الحبيب يتعبد في الغار كعادته وإذ بجبريل عليه السلام ينزل عليه، ويقول له: اقرأ.
 
قال: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال:
اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
 
هرع الزوج إلى أمنا العظيمة مرتجفًا قال لها: «زملوني، زملوني»، فغطّته حتى هدأ وذهب عنه الروع والخوف، وأخبرها بما جرى معه وقال: «لقد خشيت على نفسي».
 
تُرى لو كذبت الزوجة زوجها في موقف كهذا، هل سيكون لديها المبرر؟
 
العظيمة عليها السلام كانت صاحبة بصيرة مضيئة، تعرف من زوجها وتعرف أخلاقه ولم تجرب عليه كذبًا قط فقالت له على الفور: "كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق".
 
لم تقف عن تهدئة زوجها بل ذهبت به إلى عالم عصره، ابن عمها ورقة بن نوفل، وعرضت عليه أن ينصت لزوجها.
 
بعض المؤرخين يقولون: إن السيدة خديجة لم تكن تريد تهدئة زوجها فحسب بل كانت تريد أن يعلن ورقه إيمانه برسالة زوجها.
 
كلام ورقة كان الاختبار السادس، فقد قال لزوجها:هذا الناموس الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله: أو مُخرِجِيَّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا.
 
كلام ورقة واضح أشد الوضح ولا يعني سوى أن القادم أصعب.
 
لقد مر على زواجها بسيد الخلق خمسة عشر عامًا فيها ما فيها من الصعاب ولكن الآن الأمر أصبح أمر حياة أو موت، وقد أعلنت موقفها بكل وضوح، هي أول من أسلم على ظهر الأرض ثم أسلم كلّ من كان في بيتها: علي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وأبناؤها وبناتها، ولتبدأ بهذا الإسلام الجماعي مرحلة المواجهة مع دولة قريش، قريش لم تكن مجرد قبيلة، لقد كانت دولة مكتملة الأركان، تسود العرب جميعًا ولا راد لكلامها ولا معقب على حكمها.
 
عاشت السيدة خديجة مؤمنة صابرة داعمة لزوجها رسول رب العالمين عشر سنوات، وهي في كل يوم تختبر اختبارًا أقسى من سابقه، حتى وصلنا إلى حصار متوحش فرضته قريش على المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم. 
 
ذهبت طائعة مختارة مع زوجها إلى شعب أبي طالب، حيث لا شيء إلا السماء والأرض، كانت قريش متجبرة طاغية حتى أنها منعت عن المسلمين الماء والطعام، وما كان يحصل عليه المسلمون من ماء وطعام كان يهرب إليهم ترهيبًا، وكانت السيدة العظيمة الثرية ثراءً عظيمًا تهب ما تحصل عليه من طعام شحيح لجموع المحاصرين.
 
بعد فك الحصار بقليل فاضت روحها الطاهرة، وقد ذهبت إلى ربها بعد أن ضربت المثل العظيم في الوفاء والإخلاص لزوج حبيب عرفت قدره ومقداره.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق