فليت الذي بيني وبينك عامر (4): محيي الدين بن عربي: دحل الخلوة جاهلًا وخرج منها إمام راشدًَا

الأحد، 16 أبريل 2023 12:17 ص
فليت الذي بيني وبينك عامر (4): محيي الدين بن عربي: دحل الخلوة جاهلًا وخرج منها إمام راشدًَا
يكتبها: محمد الشرقاوي

ما من أمنية أعظم من العمار، بينك وبين ربك، وبينك وبين المحبين، وبينك وبين ذلك الخل الوفي، وبين ذلك السارح الممسك بمسبحته، يستغفر ويحمد ويدعو الله، عساه يريح ذلك القلب المجهد والروح التائهة.

الشوق أحد منازل العمار، إن لم يكن جُله، والهيام، والشعر، والموسيقى أيضًا.. لن يهم أحد الوسيلة بل الأهم غايتك في الرحلة، وتجمل روحك وراحك، وتدرك بذلك ماهية الحب غير المشروط ، أن تحب، بلا توجس، وبلا انتظار، وبلا سبب، كل ما عليك أن تجود بالوصل، أو تدين بالحب، ولله در الإمام محي الدين بن عربي: "أدين بدين الحب أنَّى توجهتْ ركائبه.. فالحب ديني وإيماني".

ومما كتب في الوصل، ما قاله الإمام أبو الحسن التستري، أحد شعراء الأندلس: "كلما قلتُ بقربي تنطفي نيرانُ قلبي.. زادني الوصلُ لهيبًا هكذا حالْ المحبِ.. لا بوصلي أتسلى لا ولا بالهجر أنسى.. ليس للعشق دواءٌ فاحتسبْ عَقلا ونفسا.. إِنني أسلمتُ أمري في الهوى معنى وحسّا..  ما بقي إِلا التفاني حبذا في الحب نحبي".

ويريد أن يقول: "إنه لا يمكن للعارف أن يقول إنه وصل أو شَرِبَ وارتوى لأن الحب شُربٌ بلا ري، وهو تجلي إلهي على عباده الصالحين والعارفين ومن لم يذقه شرباً ما عرفه، لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها".

على مدار شهر رمضان الكريم، نطرق أبواب المحبين علنا نصل، وعلّ نيران الشوق تنطفئ، ولهيبها يُخمد، نجول في عقلوهم، ونخطو على مهل نحو العمار، ساعين في الوصال والحب والإمدادات الروحانية، نجول بتلك الرحلة مع العارفين، نتذوق معهم معنى العشق الإلهي، لنرى بعيونهم، ونشعر بوجدانهم، ما ذاقوا خلال رحلاتهم، وإن كانت مختلفة، فهي متشابهة للبحث عن الذات، عن روح الله التي بثها في نفوسنا.

 

الحلقة الرابعة

محيي الدين بن عربي: دحل الخلوة جاهلًا وخرج منها إمام راشدًَا

عطايا الله حسنة فما وافق هواك جعلته خيرا وما خالفه جعلته شرا قل كل من عند الله

 

أضناني الحب، وأجهدني الشوق، وصرت أكتب في رسائل؛ علها تصل، حاولت مهما حاولت، وطرقت الباب، بحثًا عن من يخلص جسدي من دواء أعياني، لكن كل موجود أخذ حقه، ونال حظه، فكلٌ ميسر لما خلق له.

تعبت من الفكر، في رحلة البحث عن الراحة، ولا راحة دون دليل، فرافقت جميل القلب، وخاطبت روحه، فخاطرني بقوله: "ومن تعب من الفكر وقف حيث تعب، فمنهم من وقف في التعطيل، ومنهم من وقف في القول بالعلل، ومنهم من وقف في التشبيه، ومنهم من وقف في الحيرة فقال لا أدري"، هذا كلام "الشيخ الأكبر".

كنت أتغزل بكلام "الشيخ" في صاحبة "الشال الأخضر"، وأقول: "إذا تمشت على صرح الزجاج ترى.. أمسا على فلك في حجر إدريسا، تحيي إذا قتلت باللحظ منطقها.. كأنها عندما تحيي به عيسى".

يصل نسب "الشيخ الأكبر" من قبيلة طيِّئ، مهد النبوغ والتفوق العقلي في جاهليتها وإسلامها، وهو محمد بن عبد الله، تعددت ألقابه، فكني :"أبا بكر"، ولقب بـ"محيي الدين"، تعددت مسمياته في الأمصار، فعرف بـ"الحاتمي" وبـ "ابن عربي" لدى أهل المشرق، و"ابن العربي" لدى المغاربة، وفي الأندلس "ابن سراقة"، ويصعد به نسب خئولته إلى الأنصار.

سليل العباد وزهرة البلاد

في كتاب "محيي الدين بن عربي"، للكاتب طه عبد الباقي سرور، أحد منقبي التاريخ الصوفي، جاء فيه: "وهبه الله للدنيا في ليلة خالدة في تاريخ الإسلام، ليلة تتجدَّد ذكراها كلما نطق مسلم بكلمة التوحيد وهتاف الإيمان؛ إذ كان مولده في يوم الإثنين سابع عشر من رمضان عام ٥٦٠ﻫ في "مُرْسِية"، أي: في الشهر الذي أُنزل فيه القرآن وهبط وحي السماء، وفي اليوم المماثل ليوم الفتح والنصر، يوم بَدْر الأغر الميمون، وُلد تحت ظلال تلك الذكرى؛ فكان فتحًا ونصرًا". ومرسية بلد في الأندلس في أيام الأمويين، عرفت بكثرة دُور العلم ومساجد الطاعة والعبادة.

قال "ابن سراقة"، عن أبيه في الجزء الأول من "الفتوحات أحوال الأولياء بعد مماتهم": "فَمَنْ كان عبدًا خالصًا لربه في الأولى، كان في الثانية مَلِكًا له جاهُه وسيادتُه، وَمَنْ كان مُعرضًا زاهدًا في مظاهرها؛ فلا يحجبه الموت ولا ينال منه الفناء عند صعود روحه إلى خالقها، فمن صفات صاحب هذا المقام: أن مَنْ نظر في وجهه وهو ميت يقول فيه: حي". يضيف الباحث.

ثم يقول: "ولقد رأيتُ ذلك لوالدي  فَإِنَّا دفناه على شَكٍّ مِمَّا كان عليه في وجهه من صورة الأحياء، وَمَمَّا كان عليه من سكون عروقه وانقطاع نفسه من صورة الأموات، وكان قبل أن يموت بخمسة عشر يومًا أخبرني بموته، وأنه يموت يوم الأربعاء، وكذلك كان... فوجدتُه على حالة يشك الناظر فيه بين الموت والحياة، وعلى تلك الحالة دفناه، وكان له مشهد عظيم؛ فسبحان مَنْ يختص برحمته مَنْ يشاء، فصاحب هذا المقام حياته وموته سواء".

عطايا الله لابن عربي

"عطايا الله حسنة فما وافق هواك جعلته خيرا وما خالفه جعلته شرا قل كل من عند الله".. تضافر استعداده الفطري ونشأته في بيئة دينية وتردده إلى المدارس الرمزية، على إبراز الناحية الروحية عنده في سن مبكرة، ففي عقده الثاني انغمس في أنوار الكشف والإلهام، ولم يشارف العشرين حتى أعلن أنه جُعِل يسير في الطريق الروحاني، وأنه بدأ يطلع على أسرار الحياة الصوفية.

اقرأ أيضًا.. فليت الذي بيني وبينك عامر.. الحلقة الأولى: الحلاج.. وللحب بقية

يحكى أن عدداً من الخفايا الكونية قد تكشفت أمامه وأن حياته سلسلة منالبحث المتواصل عما يحقق الكمال لتلك الاستعدادات الفطرية، وبقي عاكفاً حتى ظفر بأكبر قدر ممكن من الأسرار، وأكثر من ذلك أنه حين كان لا يزال في قرطبة قد تكشف له من أقطاب العصور البائدة من حكماء فارس والإغريق كفيثاغورس وأمبيذوقليس وأفلاطون، وهذا هو سبب شغفه بالاطلاع على جميع الدرجات التنسكية في كل الأديان والمذاهب عن طريق أرواح رجالها الحقيقين بهيئة مباشرة.

وفق كتاب: "محي الدين بن عربي"، أن التاريخ لا يذكر بعد ذلك شيئًا عن شباب محيي الدين، ولا عن شيوخه، ومقدار ما حَصَّلَ من العلوم والفنون. ولكن محيي الدين أَرَّخَ نفسه وجلا حياته، فهو يذكر لنا في الفتوحات: أنه قد أعرض عن العلم والشيوخ، وأنه قد اتجه بروحه إلى محاريب الله، ومهابط إلهامه، إلى التفكر في خلق السموات والأرض، وإلى الذكر الدائم المطهر الملهم.. ثم إلى الجلوة والخلوة، يُطَهِّر خواطره، ويُطَهِّر وِجْدانه، ويزكِّي نفسه لتُلهَم تقواها، حتى تفجَّرتْ في قلبه ينابيع الفيض، وأشرقت في حياته شمس الهبات والعطايا اللدنية.

إن تراث محيي الدين، يشهد بأنه كان في صباه، مرهف الحسِّ والذوق، قويَّ العاطفة، غلَّاب الوجدان، رحب الآفاق في الهمة والتطلع، وأن روحه، كانت أعظم من أن تُطيق ذلك التلقين الرتيب من شيوخه وأساتذته، وأن تلك الروح قد انطلقتْ تَنشُد حبًّا أكبر من تلك العواطف التي تحيط به، وتبغي أفقًا أعظم وأشمل من تلك الألوان من العلوم والمعارف، والهمة — كما يقول — هي أساس الفتح والفيض؛ فإن التجرد يعطي الطهارة والطاعة، أما الكشف والفيض فأساسهما الهمة وعزمات الرجال.

وُهب محيي الدين العلم، يقول: "وأنا أستمد علمي من كلمات الله التي لا تنفد: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله... لو أن علمه كان نتيجة بحث أو فكر لحصر في أقرب فرصة، ولكنهما موارد الحق — تبارك وتعالى — تتوالى على قلب العبد، وأرواح البررة تتنزل عليه من عالم غيبه برحمته التي من عنده، وعلمه الذي من لدنه، والحق — تعالى — وهاب على الدوام، فياض على الاستمرار، والقلب البشري قابل على الدوام للتلقي والترقي".

902
 

 

محيي الدين يتجاوز حجابه لابن رشد

التقى العارف بالله في بداياته بـ "ابن رشد".. "دخلتُ يومًا بقرطبة، على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله عَلَيَّ في خلوتي".. يضيف "ابن عربي": "وكان يُظهر التعجب مما سمع؛ فبعثني والدي إليه، في حاجة قصدًا منه؛ حتى يجتمع بي، فإنه كان من أصدقائه، وأنا صبي ما بَقَلَ وجهي، ولا طرَّ شاربي، فلما دخلتُ عليه قام من مكانه إِلَيَّ؛ محبَّةً وإعظامًا، فعانقني وقال لي: نعم؟ فقلت له: نعم؟ فزاد فرحه بي، لفهمي عنه، ثم استشعرتُ بما أفرحه من ذلك، فقلتُ له: لا؟ فانقبض وتغيَّر لونه، وشكَّ فيما عنده، وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي، هل هو ما أعطاه النظر؟ قلت له: نعم ولا، وبين نعم ولا تطير الأرواح؛ فاصفرَّ لونه، وقعد يحوقل، وعرف ما أشرتُ به إليه".

وفق "سرور" فإن "ابن رشد" كان يهدف في فلسفته إلى التوفيق بين الدين والفلسفة، وله في ذلك محاولات وجولات، وقد نشد في مقابلته لمحيي الدين أن يطمئن، وأن يأخذ اعترافًا من رجل من رجال الدين والكشف، بأن القمَّة التي تصل إليها الفلسفة، هي بعينها غاية الدين وهدفه، وأن العقل يلتقي بالروح في خاتمة المطاف، وأن ما ذهبتْ إليه الفلسفة من شرح للسنن الكونية، وتمثيل لقدرة الله سبحانه وآياته في خلقه، لا تتعارض مع الدين، بل تؤيده وتدعمه.

وقد قال محيي الدين في البداية: نعم، ففرح ابن رشد، ثم استدرك محيي الدين، فقال: لا، فحزن ابن رشد، وأراد توضيحًا، فقال: هل وجدتم الأمر في الكشف والفيض هو ما أعطاه النظر؟ فقال محيي الدين: نعم ولا. نعم؛ لأن العقل قد يهدي إلى الله، ويدرك ويلمس أسرار الكون، ولكن العقل المجرد مع وصوله إلى تلك القمة، ينحدر وينزلق ويضل في المتشابهات، فضلًا عن ابتعاده عن التعبد والتطهر، وتحلله من الكمالات الخلقية والشرعية. والعقل المجرد، ليس له قيد يعصمه، ولا حدٌّ يتفق عليه بين العقول، التي تتطاير حول المعارف مع الريح في شتى الاتجاهات والغايات؛ ولذلك قال له محيي الدين: وبين نعم ولا، تطير الأرواح.

اقرأ أيضًا.. فليت الذي بيني وبينك عامر.. الحلقة الثانية: وقل السلام عليك يا ابن الفارض

ولم يكن هذا الاجتماع فاصلًا بين الرجلين العظيمين، ولا بين المدرستين المتناظرتين؛ فسعى ابن رشد إلى لقاءٍ آخر مع الصبي، الذي كبر بالخلوة، وتعلم في الجلوة، وتفوق وما بقل وجهه ولا طرَّ شاربه.. يقول محيي الدين: وطلب ابن رشد من أبي بعد هذا الاجتماع أن يلتقي بنا ليعرض ما عنده علينا، لنرى هل هو يوافق أم يخالف، فإنه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي، فشكر الله الذي كان في زمانٍ رأى فيه مَنْ دخل خلوته جاهلًا، وخرج مثل هذا الخروج، من غير درس ولا بحث، ولا مطالعة ولا قراءة. وقال: "هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أربابًا؛ فالحمد لله الذي أنا في زمان فيه واحد من أربابها، الفاتحين مغاليق أبوابها، والحمد لله الذي خصني برؤيته". ولم يُسفِر اجتماعهما الثاني عن نتيجة ترضي ابن رشد، ولكن الرجلين أحب كل منهما الآخر وأجلَّه وأكبره.

ولم ينكر ابن رشد على محيي الدين علومه الكشفية، ولا طريقته في المعرفة والتلقي. بل حمد الله الذي مَنَّ عليه؛ فأوجده في زمانٍ فيه مثل محيي الدين، الذي دخل الخلوة جاهلًا وخرج منها إمامًا مرشدًا، ولقد أطمع هذا الإيمان والحب محيي الدين في هداية ابن رشد، وجذبه إلى نطاق المتصوفة الراشدين؛ فأراد أن يجتمع به مرة ثالثة، وأعدَّ عدَّة اللقاء، وَهَيَّأ الجو لما ينشد ويريد، ولكن الله أراد غير ما يريد.

images (1)
images (1)

 

يقول ابن عربي: "ولكن قبل أن ألتقي به أراه الله تعالى لي في منظر قد ضُرب بينه وبيني حجاب رقيق، فكنت أنظر إليه منه ولا يبصرني؛ فعلمتُ أنه غير مراد لما نحن عليه، فما اجتمعت به حتى درج في سنة خمس وتسعين وخمسمائة بمدينة مراكش، ونُقل إلى قرطبة ودُفن بها".

"بين نعم ولا تطير الأرواح، وما أيسر ما بينهما وما أعظمه!".. بحسب محيي الدين، يقول الكاتب: "كان حجاب رقيق، هو الذي يفصل ابن رشد عن محيي الدين. وهذا الحجاب الرقيق هو الفيصل بين الهدى والضلال، والرضا والغضب، والإعراض والاصطفاء، أو كما وتلك فترة دقيقة حاسمة في حياة محيي الدين، فهو صريح كل الصراحة في أنه دخل الخلوة صغيرًا لم يطر شاربه، دخلها بدون قراءة ولا مطالعة، إلا أيسر ما تكون القراءة والمطالعة؛ فرَشد وأُلهِم، وتعلم من لدن ربه الوهاب علمًا أخذ يزداد مع أنفاسه، ويترقَّى مع تسبيحاته، حتى بلغ من علم ربه ما قُدِّرَ له، وحتى تمَّتْ له الزعامة التي لا تُطاول ولا تُغالب في علوم الإيمان وفيوضات القلب".نهل "العارف بالله" من العلم المصفى ما أذهل به ابن رشد، وما حَيَّرَ به أئمة عصره، ولكن التربية غير العلم، والطبيب غير المعلم، خرج ينشد الدليل والقائد، وحامل المصباح.

ما الدليل على حلاوة العسل؟!
 

"إذا طالبك أحد بالدليل والبرهان على علوم الأسرار الإلهية، فقل له: ما الدليل على حلاوة العسل!؟ فلا بد أن يقول لك: هذا علم لا يحصل إلا بالذوق، فقل له: هذا مثل ذاك".. ذاق الشيخ الأكبر لذة العسل في حلو الطريق، فبلغ مكانة عالية، أنار منها العتمة، فعلم مريديه مراقبة القلب والخواطر والواردات.

يقول محيي الدين: يعرف من مريده موارد حركاته ومصادرها، وعلوم الخواطر مذمومها ومحمودها، ويعرف الأنفاس والنظرة، ويعرف ما لهما وما يحتويان عليه من الخير الذي يرضي الله، ومن الشر الذي يُسخط الله، ويعرف العلل والأدوية، ويعرف الأزمنة والألسن، والأمكنة والأغذية، وما يصلح المزاج وما يفسده، والفرق بين الكشف الحقيقي والكشف الخيالي، ويعلم التجلي الإلهي، ويعلم التربية وانتقال المريدين من الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة، ويعلم متى يترك التحكم في طبيعة المريد، ويحكم في عقله، ومتى يصدق المريد خواطره، ويعلم ما للنفس من الأحكام، وما للشيطان من الأحكام، ويعلم الحجب التي تعصم الإنسان من إلقاء الشيطان في قلبه، ويعلم ما تُكِنُّه نفس المريد مما لا يشعر به المريد، ويفرق للمريد إذا فُتح عليه في باطنه بين الفتح الروحاني وبين الفتح الإلهي، ويعلم بالشم أهل الطريق الذين يصلحون له من الذين لا يصلحون، ويعلم التحلية التي يحلِّي بها نفوس المريدين الذين هم عرائس الحق.

في كتاب "الفتوحات المكية"، يتحدث محيي الدين عن آداب الحضرة وحرمتها: "فهم أدباء الله العالمون بآداب الحضرة وما تستحقه من الحرمة، والجامع لمقامهم. إن الشيخ عبارة عَمَّنْ جمع جميع ما يحتاج إليه المريد السالك في حال تربيته وكشفه، إلى أن ينتهي إلى الأهلية للشيخوخة، وجميع ما يحتاج إليه المريد إذا مرض خاطره وقلبه بشبهة وقعت له لا يعرف صحتها من سقمها، وحرمة الحق في حرمة الشيخ، وعقوقه في عقوقه.

"ذلك هو جماع ما يمكن أن يقال عن مكانة الشيوخ في طريق الله؛ فهم أساتذة تلك الجامعة الربانية وأطباؤها، ولا بد للمريد السائر على الصراط الأعظم من أن يلجأ إليهم حتى تعصمه حكمتهم من الزلل، فطريق التصوف ليس طريقًا سلطانيًّا هينًا سهلًا، إنه لطريق المزالق والشِّبَاك، والمحن والمهالك، والصبر والمجاهدة المرة، التي لا يقدر عليها إلا أهل الفتوة والقوة، والمناعة الروحية، والعظمة القلبية والعقلية، وفوق هذا وذاك: الاجتباء، والاصطفاء، والمحبة، والرضاء".

الحب عند ابن عربي
إن الحب هو روح التصوف، وهو شِعاره ودِثاره، والحال المشترك بين المتصوفة جميعًا، هو بداية البداية، بداية بلا نهاية، وكأس المحبة تكمن فيها كل الأسرار والأنوار، يقول: "عبدالباقي سرور": لقد استمدَّ المتصوفة أصول هذا الحب من نور القرآن الكريم؛ فالقرآن لِمَنْ يتدبره هتاف حارٌّ بالمحبة الإلهية، ودعوة صريحة إلى بذل كل طيبات الحياة، في سبيل الفوز بمحبة الله.

 
أرى أن من أنكر الحب آثم قلبه، أما فطن ولو لمرة واحدة مناجاة الرسول صلوات الله عليه لربه يسأله الحب، ويسأله أن تكون قرَّة عينه في الصلاة؛ وهي أسمى مراتب الوصال والمحبة: "اللهم اجعل حبَّك أحبَّ الأشياء إِلَيَّ، وخشيتَك أخوفَ الأشياء عندي، واقطعْ عني حاجات الدنيا بالشوق إلى لقائك، وإذا أقررتَ أعينَ أهل الدنيا من دنياهم، فأقرِرْ عيني في عبادتك". 
 
فكل الأنوار والتجليات منه وله فكما يقول العارفين "الحمد لله علي الحمد لله" فلا ينسبون فضل الحمد لأنفسهم فيروا كل شيء منبعه من عند الله فهو الذي ألهمهم الحمد ليحمدوه واجرى كلمات الاستغفار علي لسانهم ليغفر لهم
 
يقول محيي الدين: "جرتْ مسألة المحبة بمكة أيام الموسم، فتكلَّم فيها الشيوخ، وكان الجنيد أصغرهم سِنًّا، فقالوا له: هاتِ ما عندك يا عراقي، فأطرق برأسه ودمعتْ عيناه، ثم قال: عبدٌ ذاهبٌ عن نفسه، متصلٌ بذكر ربه، قائمٌ بأداء حقوقه، ناظرٌ إليه بقلبه، أحرق قلبَه أنوارُ هَيْبته، وصفا شربه من كأس وُدِّه، وانكشف له الجبار من أستار غيبه؛ فإن تكلم فبالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرَّك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله".
 
الحب عند ابن عربي سبب وجود العالم، به يجد الإنسان الكنز، وبه نصل إلى قلب "شمس"، فما الموجودات عند محيي الدين إلا محب ومحبوب؛ حتى السالب والموجب وهما قوام الوجود، حتى ذرات الطبيعة، إنما يمسكها الحب أن تزول أو تحول، ولولا تعشُّق النفس للجسم ما تَمَّ وجودهما، ولولا حب المعاني للكلمات ما امتزجا ولا عُرفا.
 
 
ويقول محيي المتوفي في دمشق عام 638هـ / 1240م، والمدفون في سفح جبل قاسيون: "واعلم أنه كلما ازدادتِ المشاهدة ازداد الحب؛ لأن الاشتياق يهيج باللقاء، ومن علامات المحب أنه يستقل الكثير من نفسه، ويستكثر القليل من محبوبه؛ لأن المحبوب غني، فقليله كثير، والمحب فقير فكثيره قليل، ومِن نعْته أيضًا: أنه يعانق طاعة محبوبه ويجانب مخالفته، ومن علاماته الكبرى: أنه خارج عن نفسه بالكلية، وموافق لمحاب محبوبه، هائم القلب بهواه.. خيالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب؟
 
لقد كانت حياته مليئة بالمعارف والعلوم، مليئة بالعلوم والفلسفة والشعر، شاعر جرئ، جليل ساحر، مسحور بالحب، وإن كانت تفسيرات أشعاره لفظًا للبعض كفر، ففي باطنها حق وعرفان، فتكون تلك المعاني الغامضة في إشارة للمعاني الباطنة، ولا تظهر هذه المعاني إلا لأهل النور، وأرباب السلوك، فمن لم يذق لن يعرف.. ففي صلاح العقل وهدى الوجدان ترى انعكاس روح الله في كل صور المخلوقات.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق