الشيخ محمد صديق المنشاوي.. من نجوع الصعيد إلى العالمية

السبت، 08 يوليو 2023 07:06 م
 الشيخ محمد صديق المنشاوي.. من نجوع الصعيد إلى العالمية
حمدي عبد الرحيم

قبل أسبوعين مرت ذكرى رحيل فضيلة الشيخ محمد صديق المنشاوي الذي ولد بمدينة المنشأة بمحافظة سوهاج في يناير من العام 1920، ورحل بالقاهرة في العشرين من يونيو من العام 1969، تلك الحياة القصيرة "تسع وأربعون سنة" تكشف عن حالة من حالات الإنجاز الكبرى.
 
ولد الشيخ لأسرة قرآنية فالأب والعم والجد من أكابر قراء القرآن.
 
حفظ المنشاوي القرآن وهو دون العاشرة، وقد وجدتُ تسجيلًا لفضيلته تحدث فيه قبيل رحيله لإذاعة الشعب المصرية عن حياته وبداية شهرته، وعن ذلك التسجيل أنقل.
في العام 1927 ترك المنشاوي سوهاج وجاء للإقامة في القاهرة مع عمه قارئ القرآن فضيلة الشيخ أحمد السيد، وحفظ ربع القرآن الكريم في القاهرة، ثم عاد إلى بلدته المنشأة فأتم حفظ القرآن الكريم على أيدي المشايخ محمد النمكي ومحمد أبو العلا ورشوان أبو مسلم الذي كان لا يتقاضى أجرًا على التعليم.
في الزمن الذي يفصل بين الثورتين 1919ويوليو 1952 كان الفنانين يطوفون القرى والكفور والنجوع عارضين فنهم على جماهير المستمعين، وليس أعظم ولا أرقى من فن تلاوة القرآن الكريم.
الطواف بالقرى كان قاعدة لم يخرج عنها فنان واحد، وعلى ذلك عرف المنشاوي في طفولته قرى ومدن سوهاج وقنا، فقد كان ملازمًا لوالده فضيلة الشيخ صديق المنشاوي ملازمة الظل للأصل.
في العام 1931 بدأت الشهرة تطرق باب الشيخ فقد قرأ في حفل عام أمام جمهور عريض في قرية من قرى سوهاج وحصل على أول أجر له وكان عشرة قروش مصرية.
بدأ الشيخ المنشاوي يكتسب جماهيرية تتزايد عامًا بعد الآخر حتى وصل صيته إلى القاهرة أو بالأحرى إلى مصر المحروسة التي إن نلت أعجابها فسيرتفع اسمك إلى عنان السماء.
أحد أصدقاء الشيخ كان قريبًا من الأستاذ أمين حماد مدير الإذاعة المصرية، وتحدث أمامه عن صوت الشيخ المنشاوي وعن تفرده، فطلب منه الأستاذ حماد إبلاغ الشيخ بالحضور إلى القاهرة لكي يمتحن أمام الإذاعة، على أن يكون الحضور في غضون أيام قلائل.
سارع الصديق بزف البشرى للمنشاوي، العجيب أن الشيخ رفض السفر إلى القاهرة، وكانت حجته أنه لا يحب السفر في رمضان خاصة وهو مرتبط بإحياء الليالي الرمضانية في الصعيد.
هنا لنا وقفة مع الأستاذ حماد، فواحد غيره كان سيقول صارخًا شاتمًا: مَنْ هذا المنشاوي، هل يظن نفسه رفعت في عزه، هو لن يدخل باب الإذاعة لو هبطت السماء على الأرض.
معظم أصحاب النفوذ والسلطة يفعلون هذا ويضيق صدرهم لو رفض لهم أحد أمرًا، ولكن كان ربك رحيمًا بنا وبالمنشاوي، فالأستاذ حماد لم يضق صدره ولم يرد على رفض المنشاوي بأن ينفض يديه من الأمر كله، من حسن حظنا وحظ فن التلاوة أن الأستاذ حماد قد تفهم الأمر وأرسل مشكورًا فريقًا إذاعيًا لتسجيل حفلات الشيخ التي كان يقيمها في مدينة إسنا التابعة لمحافظة الأقصر.
حضر الفريق الإذاعي حفلات للشيخ وقام بتسجيلها، وعند عرضها على لجنة اعتماد القراء بالإذاعة، وافقت اللجنة فور سماعها لتلاوة الشيخ المنشاوي على ضمه للإذاعة، وكان ذلك في العام 1953.
بانضمام المنشاوي للإذاعة انتهت فترة ما بين الثورتين، مع ثورة 23 يوليو أصبحنا في زمن جديد، وداعًا فيه للطواف بالقرى والنجوع، ويكفي الفنان أن ينطلق صوته من ميكرفون الإذاعة ولو مرة كل شهر، ليصبح من نجوم المجتمع.
من العام 1953 وحتى رحيله في العام 1969 تربع الشيخ على عرش التلاوة بجوار أكابر القراء وعظماء التلاوة.
هذه رحلة جد قصيرة "ثلاث عشرة سنة فقط"، تأمل معي أي رجل كان المنشاوي، لقد زار كبريات الدول الإسلامية مثل العراق واندونيسيا وسوريا والكويت وليبيا وفلسطين والمملكة العربية السعودية. وقرأ القرآن الكريم في أعظم مساجد الإسلام، لقد رتل في الحرم المكي وفي المسجد النبوي وفي المسجد الأقصى وفي المسجد الأموي إضافة إلى أعظم مساجد مصر.
حصل الشيخ على أوسمة من على أوسمة عدة من دول مختلفة، كإندونيسيا وسوريا ولبنان وباكستان.
من المفارقات التي تذكر في حياة الشيخ أن الرجل قد بدأ بأجر هو عشرة قروش في الليلة، ثم وصل أجره إلى اثنى عشر جنيهًا مقابل تلاوة نصف ساعة في الإذاعة، وقبيل رحيله حصل على خمسة وعشرين جنيهًا من الإذاعة مقابل التلاوة لنصف ساعة!
أما المفارقة الكبرى في حياة فضيلة الشيخ فقد حكاها للإذاعة فقال: بنيت بيتًا لي ولأولادي "بيت الشيخ معروف في شارع مصر والسودان بالقاهرة"، وخطط مهندس البيت لأن يكون الدور الأرضي كراج للسيارات، ثم عدل المهندس عن رأيه لأن الكراج سيجلب الضجيج ولن يخلو الأمر من مشاكل، فعرضت أنا مساحة الطابق على هيئة البريد وعلى بنك بورسعيد لكي يستخدماه، وبالفعل وقعت عقدًا مع هيئة البريد وقمت بتنفيذ الترتيبات التي طلبتها الهيئة والبنك، وفجأة حدثتني نفسي قائلة: أنت تهتم بالدنيا فأين الأخرة؟
لماذا لم تجعل من الطابق مسجدًا؟
كان هذا حديث نفسي لي لم يطلع عليه أحد ولم أذكره لأحد.
وفي صباح يوم من الأيام زارني جار مسيحي وقال لي: يا شيخ محمد هذا الطابق سيكون مسجدًا.
قلت لجاري: لقد تعاقدت مع هيئة البريد.
قال جاري: اجعل الطابق مسجدًا.
يكمل الشيخ المنشاوي فيقول: حدث أن تأخرت الهيئة في استلام الطابق، فعقدت العزم على جعل الطابق مسجدًا، فذهبت إلى الهيئة، لكي أفسخ التعاقد، وبعد أخذ ورد فسخوا العقد، وأصبح الطابق مسجدًا كما حدثتني نفسي وكما أشار جاري المسيحي.
فجأة رحل الشيخ وهو في التاسعة والأربعين من عمره وقد ترك لنا تراثًا خالدًا من فن تلاوة القرآن الكريم، رحمه الله وبارك مصرنا الولود.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة