المجتمع وقضية هناء

السبت، 08 يوليو 2023 10:23 م
المجتمع وقضية هناء

عندما قرأت خبر قتل سيدة في محافظة الشرقية لابنها وتقطيعه وطهي أجزاء منه وتناولها، اعتقدت أن الخبر مفبرك او أنه يتكلم عن فيلم يتم التحضير له، لكن للأسف كان الخبر حقيقى والواقعة حدثت في قرية أبو شلبي بالشرقية عندما قامت هناء ذات السبعة وثلاثون عاما بقتل ابنها سعد وعمره خمس سنوات، حيث ضربته بيد الفأس على رأسه ثلاث مرات وعندما لاحظت أنه ما زال حيا فصلت رأسه عن جسده ثم قطعته وطهت بعض هذه القطع وقامت بأكلها، وتوارت داخل منزلها حتى اكتشف عمها الجريمة وقام بإبلاغ الشرطة!
 
وقصة هناء حزينة وغريبة جدا فهي سيدة متعلمة مطلقة منذ اربع سنوات وتعيش مع طفلها وحيدة في منزل مهجور قام عمها ببناء غرفتين فيه والباقي لا يصلح للمعيشة، كانت هناء تستيقظ صباحا لتذهب للعمل في الحقول او أحد المصانع لتكسب قوت يومها وتصطحب طفلها سعد، فهي ترفض تماما أن يقترب أي شخص منه أو يلعب معه، وبحسب أقوال الشهود كانت متعلقة به وتحبه إلى حد الجنون وتنفق عليه لوحدها، فالجيران يؤكدون أنهم لم يشاهدوا زوجها على مدار الأربع سنوات الماضية ولا أحد يتحدث معها الا عمها الذي يطمئن على حالها على فترات متباعدة، لكن بعض الجيران يقولون أنها كانت تصاب بنوبات جنون وتقوم بالصراخ وتقطيع شعرها فهل كانت هناء مجنونة؟ ولماذا لم يحاول جيرانها أو اقاربها علاجها أو مساعدتها بالمال أو إمدادها بالطعام؟
 
وفقا لعلم النفس قبل أن يصل الأم أو الأب إلى درجة الإقدام على ارتكاب جريمة قتل أبنائهم دائما يكون هناك مؤشرات ودلالات على المرض النفسي أو الاختلال العقلي، ومن تلك الأمراض الذهان والفصام بأنواعه وهي أمراض وراثية تظهر مع الضغوط الكبيرة مثل الفقر أو الفقد والموت واحيانا يفقد الاب او الام عقله بسبب تعاطي المخدرات، وقد تصاب الأم باكتئاب مع بعد الولادة وقد تقوم بقتل وليدها، ويقول الدكتور إبراهيم حسين، أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس، إن "ظاهرة قتل الآباء لأطفالهم من الممكن أن تكون نتيجة لعدة أسباب أبرزها الرغبة في التخلص من الأطفال ظناً أنهم بذلك سيرحمونه من حياة تعيسة، وكذلك الظروف الاقتصادية الصعبة، وانتشار العنف الأسري في كثير من العائلات المصرية، فضلاً عن معاناة الأب والأم أحياناً من بعض الأمراض النفسية كالانفصال البرانوري والاكتئاب العنيف والوسواس القهري، و الإدمان وتعاطي للمخدرات بأنواعها المختلفة وبكثرة".
 
لكن المتتبع لقصة هناء يجد بعد أخر من القصة غريب على مجتمعنا في مصر، فهي إمرأة مطلقة عاشت في منزل مهجور غير مجهز للمعيشة تلتقط معيشتها بصعوبة وتعزل نفسها عن العالم هي وطفلها لا يسأل عليها إلا عمها، وحتى طفلها نساه أبوه تماما وتركه لها لتتعلق به كما يتعلق الغريق بقشة، ولا تذهب إلى أي مكان بدونه، وإذا أصابتها النوبة لا يشعر أحد بها تنتهي فقط يبقى صراخها دليل على ما أصابها، واستمرت الحياة هكذا بهناء حتى جاء اليوم الذي أصابها خوف شديد من أن ياخذ احد ابنها سعد فقتلته وقطعته واكلته ليعود في أحشائها مرة أخرى ولا يستطيع أحد أن يأخذه منها.
 
هل كانت هناء مريضة نفسيا على مدار سنوات واهملها المجتمع وأعطاها ظهره ليتركها بلا علاج وبلا رعاية وكأنها ولدت لتكون أثرا بعد عين وكأنها قد ضاعت وسط زحام البشر بمرضها وفقرها تعمل احيانا وتظل احيانا بلا عمل فتذهب إلى الغيط تلتقط طعامها!
 
ولأن الموضوع مؤلم ويستحق الدراسة سألت الدكتور علي عبد الراضي، استشاري العلاج والتاهيل النفسي متي يصل الأب والأم إلى درجة أن يقتل طفله، ويجيب "أنه مشهد مروع وصورة مفزعة تشيب لها الرؤوس وتنفطر لأجلها القلوب؛ عندما تتحول كل معاني الرحمة والحنان إلى أبشع معاني والعنف والقتل.
أين الرحمة!؟
أين الحنان!؟
أين الأمومة!؟
أين الإنسانية!؟
 
مما لا شك فيه أن هذه المعاني الطاهرة النقية الفطرية قد ذهبت عندما استجابت الأم او الاب للهواجس النفسية والافكار الخاطئة و ضلالة العقل وفقد القدره على الحكم، وذلك يسمى أضطرابات العقل المعروف بسم الفصام او الذهان وهو عبارة عن هلاوس وضلالة في طبيعة التفكير ليخرج منها مشاعر غضب وعنف موجه لسلوك عدواني اتجاه الآخرين او حتي المقربين منه الذين يتصورهم و يخيل له انهم أعداء له لذلك يرغب في التخلص منهم، وهذا نوع من مجموع للفصام وقد يكون اصوات من عقلة تشجعه علي معاداة الآخرين والمحيطين به.
 
وهناك اسباب نفسيه و بيولوجي و بيئية و اجتماعية تشكل عبئا على العقل، وفي غياب القدوة الحقيقة للأم، والبعد عن الدين أيا كان هذا الدين فالأديان كلها ترفض هذا، بل أي إنسان لديه ضمير يقظ وقلب واع ينكر هذا ويتأذى منه؛ بل تتأجج نار الغيظ والغضب عنده تجاه من فعل هذا، وكيف لا وعندما أراد رسول الله ﷺ أن يمثل لنا رحمة الله بنا قال عن امرأة ترحم طفلا رضيعا (أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قال الصحابة لا والله، لا تطرحه قال نبي الرحمة والسلام (لله أرحم بهذه من ولدها).
 
قمة الرحمة عند الأم، منتهى الحنان لدى الأم، غاية الاحتواء مع الأم، فكيف حدث ما حدث، فالرحمة فطرة في الأمهات جميعا حتى الحيوانات العجماوات، وإذا كانت الرحمة متوفرة عند الحيوان فكيف بالإنسان الذي وهبه الله عقلا يميز به ويترقى في المستويات التعليمية بفضله!
 
قد يقول قائل: إن الانحطاط في التفكير والتدهور في الوضع النفسي والتدني في عاطفة الأمومة أدخلها في نوبة نفسية حتى زينت لها نفسها الحسن قبيحا والقبيح حسنا، فتمتعت بقتل ضحاياها وتلذذت بطبخهم ومن ثم تناولهم كوجبة أشهى ما تكون.
دعوني أتوجه باللوم إلى هذا المحيط الذي تعيش فيه هذه الحالة وأشركهم في هذه الجريمة، ألا تعلموا أنها مريضة فتصحبوها إلى مستشفى أو تضعوها في مصحة أو يأخذ واحد منكم طفلها حتى يتربى بعيدا عن هذه الغلظة والقسوة.
 
إن الاستسلام للانفعالات السلبية الخبيثة، وعدم السيطرة على الغضب؛ والانقياد وراء التراهات و الوساوس يورد الإنسان موارد الهلكة وبعد ذلك يحدث ما لا تحمد عقباه، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
 
ماذا تفعل هذه الأم بحياتها بعد اليوم!؟ وكيف تنظر لنفسها فضلا عن نظرة المجتمع إليها!؟ وماذا لتقول لربها عندما يسألها ما ذنب الطفل المسكين؟ وماذا نقول نحن؟
 
لقد نهت الديانات السماوية كلها وحذرت من العنف والقتل تحذيرا شديدا، وعندما جاء الإسلام ووجد بعض العرب تقتل بناتها ذم هذا الفعل ونهى عنه (وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُئِلَتۡ بِأَيِّ ذَنۢبٖ قُتِلَتۡ) إذا كان المقتول سيسأل فكيف بالقاتل!
 
قال نبي الرحمة والسلام ﷺ (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق)
 
وقال ﷺ (الإنسان بنيان الله ملعون من هدمه).
 
وإذا كانت الديانات السماوية قد نهت عن السب والشتم وقبيح الألفاظ فكيف بالقتل؟ وليس أي قتل بل قتل في أبشع صوره
 
إن الرفق الذي هو ضد العنف هو مطلب من مطالب الديانات بل مطلب الإنسانية كلها، وعندما تطالع أول آية في القرآن الكريم تجد أن الله وصف نفسه بالرحمن وبالرحيم ويقول نبي الرفق والرحمة ﷺ (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف).
علينا أن نجاهد أنفسنا عندما يأتينا طائف من الشيطان، وأن نرجع لله وأن نتذكر الآخرة، وأن الدنيا دار ممر وليست دار مقر، ومن استسلم لهواه؛ خسر دينه ودنياه.
 
من يصدق ان المجتمع يحمل بين طياته هذا النموذج البائس وأين منظمات المجتمع المدني التي تملأ شاشات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي بإعلاناتها وكيف أنها استطاعت أن تحسن حياة الفقير في كل مكان وأن تصل إلى البعيد قبل القريب.
 
لكن على مايبدو أن هناء لم تدخل في قواعد بيانات تلك المنظمات ولم تصلها يد العطاء والمساعدات التي شملت غيرها، وحتى جيرانها وزوجها السابق لم يهتموا لوجودها ولم يعرف أحد بوجودها إلا بعد أن ارتكابها الجريمة لتتحول قصتها إلى عار في جبين المجتمع الذي أدار لها ظهرها والآن يحاكمها بتهمة يتحمل وزرها الجميع.

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق