نجوم فى القلوب عالقة.. محمد طه ملك الموال الشعبى والارتجال

الأحد، 24 سبتمبر 2023 12:52 م
نجوم فى القلوب عالقة.. محمد طه ملك الموال الشعبى والارتجال
محمد طه ملك الموال الشعبى والارتجال
محمد الشرقاوى


• تسلل إلى آذان المصريين.. فألفته قلوبهم وأحبته أعينهم.. ورسخ للتراث المصرى

بلا نوتة موسيقية، ونغمات تراقص الحجر، يقف ممشوقا يتغنى، ينطق الحكمة، ويبسطها، لا يحتاج لوسيط ليصل للقلب، بل كل ما عليك فعله أن تكتب فى محركات البحث اسمه.

عالق فى القلوب كما «الدر»، يزداد بريقه كلما مضى الزمن، فجلبابه يربطك بهويتك، كل ما فيه جميل، حتى غمزاته وتعبيرات وجهه المصرى الأصيل، فصان لسانه وعاش «منصان»، فيجبر على «الأصل دور»، فصوته ليس «عواء» كما وصفه عاشور (فريد شوقى) فى الزوج العازب، ولن تستطيع أنت إسكاته حتى تنسى همومك.

فـ«كفاية واحدة عليك يا عاشور»، هى موجة من التهكم الجميل، تمنعك عن الالتفات لخناقة عاشور والمعلم سيد (محمود المليجى)فأذنك مع محمد طه، وعينك تبحث عنه وسط «الخناق».

فى مكانة متقدمة لم يصل لها رواد الفن الشعبى المصرى، وقف المولود «الصييت» بعيدا يشاهد القادمين خلفه إلى أين سيصلوا؟ وجميعهم لا يقترب من هذه المكانة التى لابن مدينة طهطا بمحافظة سوهاج.

موهبة ربانية لا تعرف النوتة الموسيقية

ليست رحلة غناء، بقدر ما هى رحلة توثيق للميراث الشعبى، بلغت فى بعض التقديرات نحو 10 آلاف موال، ارتجلها، وغناها، ولحنها، بموهبة استثنائية، بدأت نوابغها من قرية سندبيس بالقناطر الخيرية، حيث استقر هو وإخوته بصحة الحاج طه، وتحديدا حين عمل فى أحد مصانع النسيج بشبرا، حيث تعرف بمصطفى مرسى «رئيس الزجالين».

اهتم «الزجال» بموهبة الفتى الصعيدى، فسقاه فن الارتجال، حتى امتلأ، ولم يضاهه أحد من عصره ولا الذى يليه، بداية من مشوار فنى بدأه فى موالد السيدة زينب والحسين، حتى اكتشفه الإذاعى القدير طاهر أبوزيد، وطلبه لاختبارات الإذاعة، فنال الاستحسان، واجتاز الاختبارات، ومنح القبول، فسجل العديد من المواويل للإذاعة المصرية وضمه زكريا الحجاوى إلى «فرقة الفلاحين للفنون الشعبية»، بعدها كون فرقته الموسيقية الخاصة «الفرقة الذهبية للفنون الشعبية» وضم إليها أخاه «شعبان طه».

قبول محمد طه لم يكن لدى لجنة تحكيم الإذاعة المصرية، فهو اجتاز الاختبار الأصعب، ونجح فى مدرسة الشعب، فألفه المستمعون، حتى رأوه فى السينما مطربا شعبيا له رونق خاص، فى «دعاء الكروان»  أول أعماله.

بدأ طه كبيرا، فظهر بجوار سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة فى «دعاء الكروان»، ومغنيا مع السندريلا فى «حسن ونعيمة»، بشخصية الرواى، وكان أول أفلام سعاد حسنى على الشاشة المصرية.

واستمرت الرحلة، حتى وصلت إلى 40 فيلما، كان آخرها فى عام 1991 فيلم «نص دستة مجانين»، ناهيك عن مسلسلين تليفزيونين، شارك فيهما بالغناء أولهما «أرزاق» فى عام 1981 من بطولة نور الشريف، ونورا، كما شارك بشخصيته الحقيقية فى مسلسل «المال والبنون - الجزء الأول» عام 1992، وكانت تلك آخر الأعمال الفنية التى شارك بها.

وشارك فى العديد من الأفلام منها: «ابن الحتة، وبنات بحرى، وأشجع رجل فى العالم، وخلخال حبيبى، وشقاوة رجالة، والسفيرة عزيزة، والزوج العازب، والمراهق الكبير، وملك البترول، وزوجة ليوم واحد، ورحلة العجائب، ودستة مجانين».

ملك الارتجال فى الغناء المصرى

لم يصل أحد من مطربى الغناء الشعبى للدرجة التى وصل لها محمد طه من الارتجال، وهو ما حكته ابنته «كريمة» فى أحد البرامج التليفزيونية، ترفض ذاكرتها نسيان ملك الموال:

«طبعا باعيش فى حياتى القديمة بتاعتى وذكرياتى ووالدى الحمد لله باتشرف به»، بقولها: «أنا والدى معظم حفلاته بتكون ارتجال حتى أصبح ملك الارتجال وهى موهبة من عند ربنا لا عرفنا نتعلمها ولا حد عرف يكون مثله مننا».

فما بين «مصر جميلة» و«لسانك حصانك إن صُنته تعيش متصان» و«عالأصل دور وادى بنتك لولد يكون فى دار يملى عنها اوعى تديها لخنفس لتمايلو عنيها» و«اجرى جرى الوحوش»، تعلق الذاكرة الشعبية للمصريين فى مواويل محمد طه، حتى عميد الأدب العربى أعجب به وبرحلاته بين مسارح الفن الشعبى.

لمحمد طه مدرسة لها عبق خاص، ارتبطت بالشارع، فأغانيه يتغنى بها المصريون، الفلاحون فى أراضيهم، والعمال فى مصانعهم. يرى كتاب «تاريخ الغناء الشعبى من الموال إلى الراب» للباحث د.ياسر ثابت، أن الغناء الشعبى المصرى فى مدرسته القديمة، غناه الناس لاستنهاض الهمة والتغلب على قسوة الحياة، وما هو إلا خليط تشكل فى وعى الفلاح البسيط من الفلاح.

يكمل ياسر ثابت، أن القرية المصرية حظيت بالغناء فى صورة تكاد تكون منتشرة فى معظم الأقاليم المصرية، وهو غناء الموالد الشعبية وحلقات الذكر والاحتفالات التى تعقد حولها من قبل من كانوا يسمون بالغجر والفنانين الشعبيين المتنقلين، ومع انطلاق الإذاعة المصرية فى بدايات ثلاثينيات القرن العشرين، بدأت شهرة بعض المطربين والزجالين تتسع، وتخرج من نطاق الأقاليم بعينها مثل الصعيد والدلتا لتشمل القطر المصرى كله، وبعد رواد يحتاجون لقراءة منفصلة، مثل محمود أبودراع، ومحمد أفندى العربى، وسيد درويش الطنطاوى، وبهية المحلاوية، زينب المنصورية، وسيدة حسن، استمتع المصريون بأغانى محمد عبدالمطلب «ساكن فى حى السيدة»، ومحمد قنديل «يا حلو صبح»، ومحمد العزبى «بهية»، ومحمد رشدى «تحت السجر يا وهيبة»، وكارم محمود «عنابى»، وشفيق جلال «أمونة»، وعمر الجيزاوى «معانا الكحل والنشوق»، وصلاح عبدالحميد أو «الريس حنتيرة» فى «الليلة الكبيرة» الذى غنى «شقلبتلى عقلى علوله.. آه يا غزال»، وبحر أبو جريشة «وأخاف لتتوه يا قلبى وتقول الظروف»، وحفنى أحمد حسن «وقالى أنت مين؟ أنا مش عارفك»، وعبدالعزيز محمود «حب العزيز.. الربع بقرش»، وعبدالغنى السيد «ولا يا ولا»، وعزيز عثمان «بلاليكة» الأغنية الساخرة. وهى حالة انطبقت على محمد طه.

يحضر محمد طه فى الحالة الغنائية المصرية بقوة حتى التى ظهرت فى الإذاعة، إلى جانب أصوات مثل: محمد عبدالمطلب ومحمود شكوكو وعبدالعزيز محمود وغيرهم، فبحسب كتاب «تاريخ الغناء الشعبى من الموال» فإن الكاتب زكريا الحجاوى لعب دورا عظيما فى هذا الشأن، فقد زار ربوع مصر والوجه البحرى على وجه التحديد واهتم بإبراز مواهب مثل: محمد طه وخضرة محمد خضر والريس متقال وفاطمة سرحان، وتلك تركيبة كانت عبقرية، مثّلت كل أقاليم مصر، وأصبحت معبرة عن البيئات المصرية بتعددها، فمثلا نجد أغنيات ومواويل طه ارتبطت ببيئة الفلاحين والدلتا، والريس متقال وجهت أغانيه للصعيد بشكل أكبر.

متلازمة عالأصل دور

يقول زياد عساف، الباحث فى الموسيقى ومتخصص بالسينما، فى مقالة نشرتها صحيفة الرأى الأردنية، بعنوان: «المطرب الشعبى محمد طه عالأصل دور.. غنى على مسارح عمان وأربد»، إن محمد طه اشتهر بغناء السيرة الشعبية والتى كانت تقام خاصة فى ليالى رمضان فى القرى والأرياف والمقاهى الشعبية، مستخدما الموال الشعبى وبمصاحبة آلات موسيقية بسيطة.

ومن هذه القصص الشعبية التى غناها واشتهرت لدى المستمعين قصة «حسن ونعيمة» و«ياسين وبهية» و«شلباية»، وكانت هذه القصص لا تخلو من الموعظة الدينية والاجتماعية والحث على القيم النبيلة فى نفوس الناس، والتى لاقت رواجا كبيرا.

يقول عساف، إنه مع بداية السبعينيات حضر محمد طه وفرقته الى عمان وسجل سهره تليفزيونية خاصة للتليفزيون الأردنى وكان فى أوج شهرته وقتها وقدم حفلا غنائيا على مسرح «سينما الأردن»، فى حفل شاركه فيه المنولوجست المعروف عمر الجيزاوى وعاد بعدها بسنوات قليلة وقدم حفلات غنائية على مسرح «سينما البتراء»، وعلى مسرح «سينما فلسطين» وفى نفس الفترة قدم حفلات غنائية على مسرح سينما فى أربد، بمقولته التى لا تُنسى «عالأصل دور».

الرحلة فيها الكثير، ولكن طه طوى صفحتها ومضى تاركا خلفه تركة فنية تحفظ الغناء الشعبى المصرى، فى 12 نوفمبر عام 1996 عن عمر ناهز 94 عاما.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق