صداع فى "الصحة" اسمه سفر الأطباء والممرضين
السبت، 13 سبتمبر 2025 11:00 م
11 ألف طبيب حصلوا على شهادة حسن السير من النقابة فى عام واحد للعمل فى الخارج.. و30 % من حديثي التخرج بالتمريض يهاجرون
الحكومة تدرس الأزمة وتعلن مضاعفة المقبولين في كليات الطب لإحداث التوزان.. ووزير الصحة: فقدان الكفاءات مؤلم.. ونطبق خطط طويلة المدى لزيادة أعداد الكوادر تدريجيًا
هجرة "البالطو الأبيض" لم تعد توصيفًا مجازيًا، بل تحولت إلى واقع يكشف عمق الأزمة التي يواجهها القطاع الصحي في مصر، فخلال السنوات الأخيرة ارتفعت معدلات سفر الأطباء وأطقم التمريض إلى الخارج بصورة لافتة، فلم يعد الأمر مقتصرًا على حالات فردية تبحث عن فرص أفضل، بل غدا ظاهرة جماعية تهدد البنية الأساسية للمنظومة الصحية، والمستشفيات العامة والجامعية، التي تعتمد بشكل رئيسي على هذه الكوادر، تجد نفسها اليوم أمام نزيف مستمر يترك فراغًا متزايدًا في غرف العمليات وأقسام الطوارئ ووحدات الرعاية.
الأطباء الذين قضوا سنوات طويلة في التعليم والتدريب، والممرضون الذين يتحملون العبء اليومي في متابعة المرضى، نجد الكثير منهم تاركين مواقعهم باحثين عن مستقبل مختلف في بلدان أخرى، ومع تزايد أعداد المرضى والضغط المتصاعد على المستشفيات، تتسع الفجوة يومًا بعد يوم، ويبرز الخطر الداهم الذي يهدد استمرارية وجود خدمة صحية متوازنة وفعالة.
هذه الظاهرة باتت محط أنظار مسئولي الدولة، حيث سبق وأكد الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، في أكثر من مناسبة أن الدولة تتابع عن قرب معدلات سفر الأطباء إلى الخارج، وأن هذه الظاهرة تحمل في طياتها وجهين متناقضين، فمن ناحية، يرى مدبولي أن سفر الأطباء المصريين للعمل في المؤسسات الصحية الكبرى بالخارج يعكس قوة مصر الناعمة ويؤكد جودة التعليم الطبي وخبرة الكوادر الوطنية التي تحظى باعتراف عالمي. ومن ناحية أخرى، يوضح أن هذا الواقع يشكل تحديًا خطيرًا يفرض على الدولة التحرك بجدية لمواجهته.
وأضاف رئيس الوزراء أن الحكومة اتخذت خطوات عملية لمضاعفة أعداد المقبولين في كليات الطب خلال الأعوام الأخيرة. فقد ارتفع عدد الطلاب المقبولين من تسعة آلاف طالب في السابق إلى خمسة عشر ألفًا حاليًا، مع خطط واضحة لزيادة القبول ليصل إلى تسعة وعشرين ألفًا خلال السنوات المقبلة، مشيرا إلى أن الهدف من هذه الزيادة هو سد العجز المتوقع داخل المنظومة الصحية، خصوصًا مع إدراك أن جزءًا من الخريجين سيواصلون اختيار العمل بالخارج.
وأوضح مدبولي أن الحكومة لا تعتبر سفر الأطباء خسارة مطلقة، بل يظل له جانب إيجابي يتمثل في ترسيخ صورة مصر عالميًا، لكنه شدد على أن الحفاظ على التوازن يظل ضروريًا، فوجود أعداد كافية من الأطباء داخل المستشفيات المحلية مسألة لا غنى عنها لضمان استمرار الخدمة الصحية بمستوى مقبول، واعتبر أن هذا التوازن هو التحدي الحقيقي الذي يجب التعامل معه.
من جانبه، تناول الدكتور خالد عبد الغفار، وزير الصحة والسكان، القضية من زاوية إنسانية ومهنية. فقد عبّر عن شعوره بالأسى حيال الأعداد المتزايدة من الأطباء الذين يفضلون الهجرة، لافتًا إلى أن غياب بعض الكفاءات يترك أثرًا ملموسًا في وحدات ومستشفيات الصحة العامة، كما أوضح أن الوزارة تتابع الظاهرة بدقة عبر إدارات متخصصة، وتدرك حجم التحدي الذي تمثله على النظام الصحي بأكمله، مؤكدا أن جزءًا من التعويض يتم عبر التوسع في كليات الطب وزيادة أعداد خريجيها، إلى جانب تطوير برامج التدريب العملي ورفع كفاءة التعليم الطبي، بحيث يظل السوق المحلي قادرًا على استقبال كوادر جديدة باستمرار.
وأشار عبد الغفار إلى أن هناك محاولات مستمرة لتحسين بيئة العمل داخل المستشفيات الحكومية، سواء من خلال تطوير البنية التحتية أو إدخال تكنولوجيا جديدة، بهدف خلق بيئة أكثر جذبًا للأطباء ومنع تسربهم.
واعترف الوزير بأن فقدان الأطباء المتميزين أمر مؤلم، لكنه أكد في الوقت ذاته أن الوزارة لديها خطط طويلة المدى لتخفيف أثر الظاهرة عبر زيادة أعداد الكوادر تدريجيًا، وربط ذلك بتوسيع الطاقة الاستيعابية للمستشفيات والوحدات الصحية.
نقابة الأطباء: الرواتب والاعتداءات أبرز أسباب الهجرة
النقابة العامة للأطباء عبرت بدورها عن قلق بالغ تجاه الظاهرة، وقال الدكتور أسامة عبد الحي نقيب الأطباء، إنّ هجرة الأطباء ظاهرة خطيرة، فمصر لديها نحو 230 ألف طبيب مسجلين في النقابة، ووفقا لآخر تقديرات منظمة الصحة العالمية، فإن مصر بها ما معدله 8.4 طبيب لكل 10 آلاف مواطن، أي نحو 95 ألف طبيب في مصر، مشيراً إلى أن هناك من 60 ألف إلى 70 ألف في السعودية، و10 آلاف تقريبا في بقية دول الخليج، ونحو 20 ألف طبيب مصري في أمريكا وأوروبا.
وأشار عبد الحى إلى أننا "نتحدث عن ظاهرة تنذر بخطر، ويجب أن ننتبه ونتعامل معها بجدية".
من جانبه أكد الدكتور أبو بكر القاضي، عضو مجلس النقابة، أن هجرة الأطباء أصبحت نزيفًا يوميًا يفرغ المستشفيات من كوادرها الأساسية، مشيرًا إلى أن ما يقرب من 20 طبيبًا يتركون مصر يوميًا. وأوضح أن النقابة رصدت أسبابًا رئيسية لهذا النزيف، أبرزها تدني الرواتب التي لا تتناسب مع الجهد المبذول، وغياب الحوافز، فضلًا عن تكرار حوادث الاعتداء على الأطباء داخل المستشفيات، في ظل غياب الحماية القانونية الكافية.
وأضاف القاضي في تصريحات لـ"صوت الأمة"، أن الوجهات الأكثر استقطابًا للأطباء المصريين تتمثل في أوروبا ودول الخليج وأمريكا الشمالية، حيث يجدون بيئة عمل أفضل ومقابلًا ماديًا يفوق عدة أضعاف ما يتقاضونه في الداخل، مشيرا إلى أن النقابة تلقت خلال السنوات الأخيرة آلاف الطلبات لاستخراج شهادات حسن السير والسلوك اللازمة للسفر، وهو ما يعكس حجم الظاهرة وخطورتها، مشيرا إلى تجاوز عدد هذه الشهادات 11 ألف شهادة خلال عام واحد فقط بما يعكس حجم الأزمة.
وقال القاضى إن النقابة العامة للأطباء طالبت بضرورة الإسراع في وضع حلول عملية تشمل تحسين الرواتب، وتوفير بيئة عمل آمنة، وتفعيل القوانين الرادعة للاعتداءات على الأطباء، بجانب توفير فرص تدريب وتطوير مهني حقيقية داخل المستشفيات المصرية، حتى يشعر الطبيب أن له مستقبلًا داخل وطنه،
وحذّر عضو مجلس نقابة الأطباء من أن استمرار هذا النزيف دون حلول عاجلة سيؤدي إلى "تصحر طبي" داخل المستشفيات الحكومية والجامعية، مشددًا على ضرورة تبني استراتيجية واضحة لتحسين أوضاع الكوادر الطبية، وتوفير بيئة عمل مشجعة، وضمان الأمان الوظيفي لهم، مؤكدا أن النقابة طالبت مرارًا بزيادة الرواتب والحوافز، وربطها بتكاليف المعيشة، حتى لا يجد الطبيب نفسه مضطرًا لترك وطنه والبحث عن حياة أفضل في الخارج.
نقابة التمريض: 30% من حديثي التخرج يهاجرون
النقابة العامة للتمريض لم تكن أقل قلقًا من هذه الظاهرة، حيث أكدت النقيبة الدكتورة كوثر محمود أن أكثر من 30% من حديثي التخرج والمكلفين الجدد في التمريض يتركون العمل في الداخل ويتجهون بسرعة إلى الخارج، مؤكدة أن ألمانيا وإيطاليا وغيرهما من الدول الأوروبية فتحت أبوابها بعد جائحة كورونا، وقدمت تسهيلات واضحة لجذب الكوادر التمريضية المصرية، شريطة تعلم اللغة المحلية.
وأشارت كوثر إلى أن هذه الظاهرة تعود بالأساس إلى ضعف الرواتب التي لا تتجاوز في المتوسط ستة أو سبعة آلاف جنيه شهريًا، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية متطلبات المعيشة، فضلًا عن ساعات العمل الطويلة والضغط النفسي الناتج عن نقص الكوادر،وأوضحت أن هذا الوضع يرهق من يبقون في المستشفيات، حيث يضطر كثير منهم إلى العمل في أكثر من مكان لتعويض الفارق المالي، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على جودة الرعاية المقدمة للمرضى.
وأضافت أن التمريض يمثل العمود الفقري للخدمة الطبية، وأن غيابه أو نقصه لا يقل خطورة عن نقص الأطباء، بل ربما يفوقه، لأن الممرضين هم الأكثر التصاقًا بالمرضى والأكثر تواجدًا معهم على مدار الساعة، موضحة أن النقابة تتابع بقلق بيانات الهجرة وتداعياتها على المستشفيات المصرية، مشيرة إلى أن تسرب الممرضين يضاعف الأعباء على من يبقون داخل المنظومة الصحية ويزيد من احتمالات الإرهاق والأخطاء الطبية.
وكشفت البيانات الرسمية وتقارير النقابات المهنية إلى تزايد الأعداد عامًا بعد آخر بشكل يلفت الانتباه، فوفقًا لأحدث إحصاءات نقابة الأطباء، تجاوز عدد من تقدموا بطلبات للهجرة أو استخراج شهادات حسن السير والسلوك للعمل بالخارج أكثر من 11 ألف طبيب خلال عام واحد فقط، كما أن آلاف العناصر المدربة غادرت بالفعل، الأمر الذي يترك أثرًا واضحًا على الخدمات الصحية داخل الوحدات والمستشفيات الحكومية، في وقت تتصاعد فيه شكاوى المرضى من نقص الأطباء وطول فترات الانتظار، وفي ظل تكرار التحذيرات من خطورة تفاقم الظاهرة، تتواصل المطالبات بوقفها عبر تحسين الأجور، وتوفير بيئة عمل آمنة، وإقرار حوافز مادية ومعنوية تكفل الحد الأدنى من الاستقرار داخل المنظومة الصحية، بما يحافظ على توازنها ويمنع وصولها إلى مرحلة أكثر تعقيدًا.