اتفاقية السعودية وباكستان: تحوّل استراتيجي يعيد رسم ملامح الأمن الإقليمي

الجمعة، 19 سبتمبر 2025 09:04 م
اتفاقية السعودية وباكستان: تحوّل استراتيجي يعيد رسم ملامح الأمن الإقليمي
هشام السروجي يكتب:

توقيع المملكة العربية السعودية إتفاقية دفاع مشترك مع باكستان يعكس حجم التحوّلات العميقة التي تشهدها المنطقة، في خطوة وُصفت بأنها قد تعيد رسم توازنات القوى في الشرق الأوسط، وتضع حدًّا فاصلاً بين مرحلة من الارتهان للمظلة الأمنية الأمريكية، ومرحلة جديدة تتسم بالبحث عن بدائل أكثر واقعية وصلابة.
 
تأتي هذه الاتفاقية في وقتٍ تتزايد فيه القناعة الخليجية بأن الضمانات الأمريكية لم تعد كافية، خاصة بعد الهجوم الإسرائيلي على الأراضي القطرية، الذي مثّل نقطة فاصلة في إدراك دول الخليج لحدود الالتزامات الأمريكية وقدرتها على ردع الاعتداءات.
 
لسنوات طويلة، ظلّت الولايات المتحدة الحامي التقليدي لحلفائها في الخليج، غير أن الموقف الأمريكي الأخير تجاه الاعتداء الإسرائيلي على قطر كشف حدود هذه الحماية، إذ بدا أن واشنطن ليست مستعدة للتدخل المباشر أو فرض خطوط حمراء حقيقية على إسرائيل، ما عزّز مناخًا من الشكوك في مصداقيتها.
 
وعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كرّر وعوده بالحفاظ على أمن الحلفاء، فإن التجربة العملية أثبتت أن تلك الوعود كانت أقرب إلى الشعارات السياسية منها إلى التزامات استراتيجية، وهنا بدأت الرياض في مراجعة خياراتها، والبحث عن شريك دفاعي يمتلك القدرة والرغبة في تقديم مظلّة ردع حقيقية.
 
اختيار السعودية لباكستان لم يكن صدفة، فالعلاقة بين البلدين ممتدة، والتعاون العسكري قائم منذ عقود، لكن الجديد هو أن الاتفاقية الأخيرة تحمل في طياتها بُعدًا استراتيجيًا غير مسبوق.
 
تصريحات مسؤولين باكستانيين بأن "القدرات النووية الباكستانية قد تُتاح للمملكة إذا اقتضت الضرورة" أضافت بعدًا ردعيًا خطيرًا للاتفاق، جعل المراقبين يرون فيه أكثر من مجرد تفاهم عسكري، فوجود دولة نووية مثل باكستان إلى جانب السعودية، ولو ضمنيًا، يعيد صياغة معادلة الردع في المنطقة، ويبعث برسائل قوية لإسرائيل وإيران على حد سواء.
 
المفارقة الكبرى أن هذه الاتفاقية جاءت بعد أن كانت السعودية قاب قوسين أو أدنى من الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية وتطبيع العلاقات مع إسرائيل، لكن السلوك الإسرائيلي الأخير، لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، غيّر المشهد بالكامل.
 
الهجمات الإسرائيلية العابرة للحدود، وتجاوزها للخطوط الحمراء في تعاملها مع دول الجوار، وانتهاك القانون الدولي، رسّخت قناعة سعودية بأن تل أبيب لا تمثل شريكًا استراتيجيًا يمكن الوثوق به، بل خطرًا محتملاً على أمن المملكة، من هنا، جاء التوجّه إلى توقيع اتفاق دفاع مشترك مع باكستان كرسالة مباشرة بأن الرياض لا تنوي الانتظار حتى تجد نفسها في مواجهة مفاجئة.
 
 
هذه الاتفاقية تحمل في جوهرها إعادة رسم لخريطة النفوذ في المنطقة. فهي لا تُضعف فقط مكانة الولايات المتحدة كضامن وحيد للأمن، بل تفتح الباب أمام نشوء توازنات جديدة، حيث تبحث كل دولة عن مظلة تحميها من تصعيد عسكري متسارع.
 
من جهة أخرى، فإن إدخال البُعد النووي — ولو نظريًا — إلى معادلة الأمن الخليجي، يمثل نقطة تحول خطيرة قد تدفع قوى إقليمية مثل إيران والهند، ودول كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا، إلى إعادة حساباتها.
 
من هنا يفتح الباب مصراعيه أمام عدد كبير من السيناريوهات المطروحة بعد توقيع الاتفاق.
1. ردع ناجح واستقرار نسبي: الاتفاقية قد تردع أي مغامرات إسرائيلية جديدة وتفرض معادلة توازن قوى تمنع الانفجار.
2. سباق تسلّح وتحالفات متشابكة: قد تدفع هذه الخطوة دولاً أخرى إلى البحث عن اتفاقيات مماثلة، ما يعمّق حالة الاستقطاب في المنطقة.
3. تصعيد خطير وانفلات أمني: إدخال البُعد النووي إلى الحسابات قد يقود إلى أخطاء استراتيجية أو مواجهات لا يمكن السيطرة عليها.
 
في جميع الأحوال، يبقى المؤكد أن المنطقة تدخل مرحلة من عدم اليقين، حيث لا يوجد ضامن دولي موثوق، وكل دولة تسعى لتحقيق أمنها بالوسائل المتاحة.
برغم أهميته، يظل الاتفاق رهين عدة عوامل داخلية في باكستان، حيث أن الأزمات الاقتصادية والسياسية قد تحدّ من قدرة إسلام آباد على الالتزام طويل المدى بتعهداتها الدفاعية.
في السعودية، الرهان على مظلة خارجية يجب أن يُوازن مع متطلبات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الداخلي، حتى لا يتحوّل إلى عبء سياسي ومالي.
 
لكن يبقى في الأخير، إن توقيع السعودية اتفاقية دفاع مشترك مع باكستان يعد محطة استراتيجية قد تُحدد مسار المنطقة لعقود مقبلة، فهو يعكس تراجع الثقة في الولايات المتحدة، وتحول إسرائيل من شريك محتمل إلى تهديد استراتيجي، ويفتح الباب أمام توازنات جديدة قد تحمل في طياتها فرصًا للردع، لكنها تحمل أيضًا مخاطر التصعيد.
المرحلة المقبلة ستتوقف على كيفية إدارة الرياض وإسلام آباد لهذه الاتفاقية، وعلى مدى قدرة القوى الدولية والإقليمية على احتواء التوترات ومنعها من الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة. لكن المؤكد أن الشرق الأوسط دخل مرحلة جديدة، حيث لا ضمانة فيه إلا القوة والتحالفات الصلبة.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق