مستقبل اتفاق غزة.. بين واقعية مصرية ورؤية أمريكية لشرق أوسط جديد

الثلاثاء، 14 أكتوبر 2025 04:06 م
مستقبل اتفاق غزة.. بين واقعية مصرية ورؤية أمريكية لشرق أوسط جديد
طلال رسلان

تدخل القضية الفلسطينية، ومعها مجمل معادلة الشرق الأوسط، مرحلة مفصلية جديدة مع انطلاق مفاوضات المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، التي وُقّعت في قمة شرم الشيخ للسلام برعاية مصرية أمريكية، وبمشاركة قطر وتركيا.
 
هذه المرحلة تمثل الاختبار الأصعب، إذ تتناول قضايا جوهرية تتعلق بـ أمن غزة، وسلاح حماس، والانسحاب الإسرائيلي، وشكل الحكم في القطاع بعد حربٍ وُصفت بأنها الأطول والأعنف في تاريخ الصراع.
 
شرم الشيخ.. عودة مصر إلى قلب الدبلوماسية الدولية
 
من جديد، تؤكد مصر أنها ليست مجرد وسيط تقليدي، بل فاعل رئيسي وصانع معادلات في الإقليم. قمة شرم الشيخ لم تكن مجرد احتفالية بتوقيع اتفاق، بل كانت إعادة تموضع لمصر كـ "الحارس الأمين" للقضية الفلسطينية، كما وصفها ممثلو العشائر في غزة.
 
لقد استطاعت القاهرة أن تجمع على طاولة واحدة أطرافًا متناقضة المصالح – واشنطن، الدوحة، أنقرة – لتثبت أنها الوحيدة القادرة على إدارة التوازنات في ملفٍ بالغ التعقيد.
 
كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي جاءت حاسمة حين رفض التهجير القسري وطرح رؤية شاملة للسلام العادل، تربط بين أمن الفلسطينيين وأمن المنطقة بأكملها، ما أعاد البوصلة إلى مسار الدولة الفلسطينية المستقلة باعتبارها أساس الاستقرار الحقيقي.
 
ترامب يعود بمشروع "سلام جديد"
 
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي عاد إلى المشهد الدولي من بوابة الشرق الأوسط، يسعى عبر هذا الاتفاق إلى صياغة نسخة محدثة من مشروعه القديم للسلام، ولكن هذه المرة بثوب أكثر براغماتية.
إعلانه عن تشكيل "مجلس السلام" لإدارة غزة بعد الحرب – برئاسته وعضوية توني بلير – يعكس رغبة أمريكية في الإمساك بالملف الفلسطيني ضمن إطار دولي يخدم إعادة رسم موازين القوى في المنطقة، ويفتح الباب أمام تحالفات أمنية واقتصادية جديدة تتجاوز الصراع التقليدي بين إسرائيل والفصائل.
 
لكن هذا التصور لا يخلو من الجدل، إذ يُنظر إليه من جانب القوى الفلسطينية باعتباره وصاية جديدة على القرار الفلسطيني، ما يتطلب موقفًا عربيًا موحدًا يضمن ألا تتحول غزة إلى منطقة انتداب دولي باسم السلام.
 
الفلسطينيون بين السلام ومعركة البقاء
 
في الداخل الفلسطيني، تبدو التحديات هائلة. فالمشهد في غزة مأساوي بعد دمارٍ غير مسبوق، إذ دُمرت أكثر من 85% من المعدات والمرافق الحيوية بحسب بلدية غزة، في وقتٍ تحاول فيه السلطات المحلية – بإمكانات شبه منعدمة – إعادة فتح الطرق وتأهيل البنية التحتية.
وفي الضفة والقدس، تتواصل انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي واقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، في تصعيد يهدد بنسف الجهود الدبلوماسية إذا لم يتم كبح جماح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية.
 
ورغم ذلك، تحاول القوى الوطنية والإسلامية توحيد الموقف الداخلي، مؤكدة على وحدة الأراضي الفلسطينية ورفض أي محاولة لفصل غزة عن الضفة، في إشارة واضحة إلى أن السلام الحقيقي لن يتحقق إلا باستعادة الوحدة الوطنية وتفعيل دور منظمة التحرير الفلسطينية.
 
الاقتصاد كأداة للضغط السياسي
 
الملف الاقتصادي يظهر بوضوح كوجه آخر للأزمة. فبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، انخفض مؤشر الأسعار في غزة بنسبة 13% نتيجة لتقلبات حادة في حركة التجارة والمعابر، وهو انخفاض لا يعكس تحسنًا اقتصاديًا بل ركودًا خانقًا ناجمًا عن توقف الحياة والإنتاج.
 
وهنا يبرز البعد الأخطر: أن الاقتصاد أصبح سلاحًا سياسيًا في يد القوى الإقليمية والدولية، تُستخدم المساعدات والإعمار كأدوات ضغط لتوجيه مخرجات المرحلة المقبلة في القطاع.
 
بين السلام والإدارة الدولية.. أي مستقبل لغزة؟
 
المرحلة الثانية من الاتفاق ليست مجرد مفاوضات على الورق، بل معركة على شكل اليوم التالي للحرب: من يدير غزة؟ من يضمن الأمن؟ من يعيد الإعمار؟
الولايات المتحدة تطرح مجلسًا دوليًا، بينما ترى مصر أن الحل يجب أن يبقى عربيًّا خالصًا، يستند إلى الشرعية الفلسطينية.
 
الفارق هنا جوهري: واشنطن تبحث عن "استقرار إداري"، فيما تسعى القاهرة إلى "سلام حقيقي" يحمي الحقوق قبل أن يرمم الأنقاض.
 
مصر.. من الوساطة إلى القيادة
 
في ختام المشهد، يمكن القول إن مصر استعادت دورها القيادي في الشرق الأوسط من خلال إدارة هذا الملف بحكمة وصرامة في آنٍ واحد.
 
فمنذ اندلاع الحرب، كانت القاهرة الضامن والراعي والمبادر، وها هي اليوم تضع خطوط المرحلة التالية: لا تهجير، لا وصاية، لا تقسيم.
 
ومع تصاعد الاعتراف الدولي بدورها في قمة شرم الشيخ، يبدو أن مصر قد نجحت في تحويل الأزمة إلى فرصة لإعادة بناء منظومة السلام الإقليمي على أسس واقعية تحفظ مصالح الشعوب لا الأطراف المتصارعة فقط.
 
مفاوضات غزة لم تعد مجرد ملف فلسطيني – إسرائيلي، بل عنوان لصراع إرادات دولية وإقليمية على شكل الشرق الأوسط المقبل.
 
وفي قلب هذا الصراع، تقف مصر بثبات، لتثبت أن السلام لا يُفرض من الخارج، بل يُصنع من أرضٍ تعرف معنى الحرب وتدرك قيمة الاستقرار.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق