إمبراطورية المال الحرام.. الإخوان الإرهابية تستخدم شبكات "اقتصاد الظل" في أوروبا لتمويل الحملات ضد الدولة المصرية
الأحد، 02 نوفمبر 2025 04:50 م
محمد الشرقاوى
لندن "المصرف المركزي" للجماعة.. والشبكة المالية تعمل تحت غطاء جمعيات حقوقية ومراكز ومؤسسات إعلامية
أسامه فريد عبد الخالق يتولى إدارة الأموال بعد وفاة يوسف ندا.. والتلاعب الإخوانى بالتشريعات البريطانية مكنهم من بناء شبكة منظمة وصعبة التتبع
أسامه فريد عبد الخالق يتولى إدارة الأموال بعد وفاة يوسف ندا.. والتلاعب الإخوانى بالتشريعات البريطانية مكنهم من بناء شبكة منظمة وصعبة التتبع
منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية عام 1928، أدرك مؤسسها حسن البنا أن الدعوة وحدها لا تصمد بلا تمويل، وأن التنظيم الذي يملك المال يملك القرار والمستقبل. لذلك أسّس مبكرًا لما عُرف داخل الجماعة بـ«الاقتصاد الدعوي»، وهو مزيج بين النشاط الديني والتمويل الذاتي، يقوم على بناء صناديق تبرعات واشتراكات تضمن للجماعة الاستقلال عن أي رقابة رسمية. هذا الإدراك المبكر جعل الإخوان ينظرون إلى المال ليس كوسيلة دعم، بل كركيزة بقاء، فارتبطت الدعوة لديهم دومًا بميزانية، والولاء بقدرة الإنفاق.
ومع اتساع التنظيم خارج مصر منذ خمسينيات القرن الماضي، عقب الصدامات الأولى مع الدولة، بدأ المال الإخواني يهاجر مع كوادره. ومع هجرة آلاف القيادات إلى أوروبا والخليج، وُلد ما يمكن وصفه بـ«البذرة الأولى للاقتصاد الموازي»، إذ جرى تأسيس جمعيات ومراكز إسلامية في لندن وجنيف وميونيخ حملت الطابع الخيري ظاهريًا، لكنها في الجوهر كانت واجهات مالية لإدارة أموال التنظيم الدولي. وفي التسعينيات، ومع صعود يوسف ندا – الذي يُعد العقل المالي الأشهر في تاريخ الجماعة – تشكّلت ملامح المنظومة البنكية للإخوان عبر شركات واجهة في سويسرا وليختنشتاين، كانت تعمل على تدوير الأموال واستثمارها في أنشطة مشروعة قانونًا لكنها موجّهة لخدمة أجندة التنظيم.
غير أن التحول الأكبر جاء بعد سقوط الجماعة في مصر عام 2013. حينها، لجأت قيادات التنظيم إلى أوروبا كملاذ مالي آمن، مستفيدة من القوانين التي تمنح الجمعيات غير الربحية حصانة ضريبية ورقابية واسعة. هناك، أعاد الإخوان بناء شبكتهم المالية تحت عناوين جديدة: جمعيات حقوقية، منظمات إنسانية، مراكز أبحاث، وحتى مؤسسات إعلامية تعمل ظاهريًا في مجال الحريات، لكنها في الحقيقة تؤدي وظيفة سياسية دقيقة هي تمويل الحملات المعادية للدولة المصرية والترويج لرواية التنظيم في الخارج.
بهذا الانتقال، لم يعد المال الإخواني أداة دعم داخلي، بل أصبح سلاحًا جيوسياسيًا يُدار من أوروبا ضد مصر. فبينما فقدت الجماعة سلطتها السياسية، رسّخت لنفسها نفوذًا اقتصاديًا يضمن بقاءها حاضرة في المشهد من وراء الستار.
وبات واضحًا أن سقوط الإخوان في القاهرة لم يكن نهاية مشروعهم، بل بداية تحوّل أخطر: من حركة تسعى إلى الحكم إلى إمبراطورية مالية عابرة للقارات، تُموّل إعلامًا وتحرك منظمات وتشتري تأثيرًا، في ما يمكن تسميته بـ«اقتصاد الظل الإخواني» - اقتصاد يختبئ خلف الشعارات الإنسانية بينما يموّل أجندة التخريب.
شبكة عنكبوتية معقدة
منذ سقوط جماعة الإخوان الإرهابية سياسيًا عام 2013، بدا أن التنظيم يبدّل جلده بهدوء؛ فبينما انكشفت أذرعه داخل مصر، كانت أذرعه الأخرى تشق طريقها في أوروبا حيث وجدت البيئة المثالية لتأسيس اقتصاد موازٍ، يُدار من وراء واجهات تبدو خيرية أو ثقافية لكنها تخفي داخلها واحدة من أعقد شبكات التمويل السياسي العابرة للقارات.
وهناك، في قلب العواصم الغربية، نسجت الجماعة ما يشبه النظام المالي البديل، يحاكي في هيكله التنظيمي صرامة الجهاز السري القديم، لكن بأدوات مصرفية وقانونية تتقن التحرك داخل المساحات الرمادية للمنظومات الأوروبية.
بريطانيا كانت البوابة الأولى، فمنذ مطلع الألفية، تحولت لندن إلى ما يشبه "المصرف المركزي" للجماعة، عبر مؤسسات تحمل أسماء فكرية أو إنسانية مثل "مؤسسة قرطبة" و"مركز المقريزي" و"المنتدى الأوروبي للإخوان"، وهذه الكيانات تعمل تحت مظلة الجمعيات المسجلة قانونًا، تجمع التبرعات من الجاليات، وتستثمر جزءً منها في عقارات وشركات محدودة، لتبدو كأنها مؤسسات بحثية أو خيرية، بينما تُستخدم حساباتها لتدوير السيولة وتمويل أنشطة الجماعة الدعوية والسياسية في الخارج.
ومنح انفتاح التشريعات البريطانية على حرية التنظيم والتمويل الخيري تلك الواجهات حصانة شبه قانونية، وأتاح لها بناء شبكة مالية متصلة بالمراكز الإخوانية في تركيا وماليزيا عبر تحويلات منظمة وصعبة التتبع.
أما سويسرا فكانت ولا تزال الملاذ الآمن للأموال القديمة، فمنذ سبعينيات القرن الماضي، احتفظ يوسف ندا، القيادي الأشهر في التنظيم الدولي، بحسابات ومراكز مالية في لوغانو، شكلت النواة الأولى لما سُمّي لاحقًا بـ«الخزانة السويسرية» للجماعة.
ومع مرور الوقت، تحولت الحسابات الفردية إلى محافظ مؤسسية تدار عبر شركات استثمارية صغيرة تمتلك أسهماً في مؤسسات إعلامية وتجارية، بعضها لا يحمل اسم الإخوان بشكل مباشر لكنه يعمل لخدمتهم، حتى بعد تراجع الدور العلني ليوسف ندا، استمر النموذج ذاته تحت إدارة قيادات مالية جديدة تستخدم الكيانات السويسرية كحائط صد ضد أي ملاحقة أو تجميد محتمل للأصول.
اللواء محسن الفحام، نائب رئيس جهاز مباحث أمن الدولة الأسبق، قال في تصريحات صحفية نشرتها "العربية نت" بتاريخ 23 ديسمبر 2024، إنه بعد وفاة يوسف ندا في 22 ديسمبر من نفس الشهر، إن هناك من يؤدي مهام مؤسس إمبراطورية الإخوان المالية حتى من قبل وفاته؛ لكن بشكل غير معلن، وهو القيادي الإخواني، أسامة فريد عبد الخالق، المقيم في لندن، الذي يعتبر المسؤول عن إدارة أموال الجماعة وخزائنها في أوروبا، وكافة أنشطتها الاقتصادية هناك.
وأضاف الفحام: "يعتبر الدور الذي يقوم به أسامة فريد امتداداً لدور والده فريد عبد الخالق الذي كان وراء فكرة إنشاء كيانات اقتصادية للجماعة في الخارج وتحديداً أوروبا وأمريكا، حيث شارك ندا في هذا المجال، ومع تقدم فريد عبد الخالق في العمر وغيابه عن الجماعة لفترات طويلة، أسندت الملفات التي كان مسؤولا عنها لاثنين من أبنائه وهما: أحمد وأسامة، دون أن يكون لهما دور تنظيمي داخل الإخوان، وأسامة فريد ظهر بشكل علني في مصر خلال فترة حكم الإخوان عندما تم تأسيس الجمعية المصرية لرجال الأعمال عام 2012 وكان من أبرز أعضائها بجانب حسن مالك وعبد الرحمن سعودي وسمير النجار وعصام الحداد، حيث كان هدفها الرئيسي استثمار أموال الجماعة وإدارتها في مصر وخارجها، وكان نشاطها يشمل مجالات تجميع السيارات والعقارات والأدوية والبرمجيات، ثم ظهر بشكل أكثر وضوحاً وتأثيراً عندما استولت جماعة الإخوان على الحكم وتم تعيين محمد مرسي رئيساً للبلاد، حيث تولى رئاسة مجلس الأعمال المصري وتم تعيينه أيضاً مستشاراً للرئيس المعزول".
وفي ألمانيا والنمسا، أخذت الشبكة طابعًا اجتماعيًا أكثر التباسًا، وهناك تنتشر الجمعيات الإسلامية ذات الصبغة الثقافية مثل "المجلس الإسلامي في ألمانيا" و"منظمة المجتمع المسلم"، التي تمثل الواجهة الأحدث للتمويل الإخواني.
وهذه الجمعيات تجمع التبرعات بحجة دعم أنشطة تعليمية وخيرية للجاليات المسلمة، لكنها تودع الأموال في حسابات متصلة بمراكز بحثية ومؤسسات إعلامية مرتبطة بالمنفى الإخواني، ويتيح هذا النظام القانوني في البلدين درجة عالية من الاستقلال المالي للجمعيات الأهلية، ما سمح بتأسيس شبكات متداخلة من التمويل الذاتي يصعب تتبعها أو إثبات تبعيتها السياسية.
كلك فرنسا وبلجيكا تمثلان الجيل الجديد من اقتصاد الإخوان في أوروبا؛ نموذج أكثر انفتاحًا واحترافية في استخدام أدوات "الاقتصاد المدني"، فالجمعيات هناك لم تعد تكتفي بالتبرعات الفردية، بل دخلت مجال التمويل الأوروبي الرسمي، عبر التقدم لمشروعات تعليمية وثقافية تحصل بموجبها على منح حكومية، لتُحوَّل لاحقًا إلى دعم أنشطة ضغط وإعلام.
في بروكسل تحديدًا، حيث المؤسسات الأوروبية والمنظمات الحقوقية، استثمرت الجماعة في مكاتب استشارات ومنصات بحثية تعمل على "تدوير الخطاب"، أي تحويل التمويل السياسي إلى نشاط قانوني ناعم لا يمكن اتهامه مباشرة.
ما يجمع هذه الكيانات، رغم تنوع واجهاتها، هو نمط العمل شبه الموحد: جمع التبرعات من الجاليات، تدويرها في مشروعات صغيرة أو استثمارات آمنة، ثم توجيه الأرباح إلى دعم أنشطة التنظيم السياسي والإعلامي، وهذه الحلقة المغلقة أنتجت اقتصادًا مستقلًا عن أي دعم مباشر من الداخل المصري أو العربي، وخلقت شبكة تمويل ذاتية تُمكّن الجماعة من البقاء حتى في أحلك الظروف، فالخسارة السياسية في القاهرة عُوّضت بأرباح مالية في لندن وجنيف وبرلين.
ويقف خلف هذا كله هيكل قيادة مالية يعمل في الظل، يضم عددًا محدودًا من الوجوه القديمة والجديدة التي تتحكم في الحسابات المركزية وتوجّه التحويلات بحسب الأولويات: من الإعلام إلى المحامين، ومن اللجان الإلكترونية إلى الحملات الحقوقية، وبعض هذه الشخصيات لا تحمل صفة تنظيمية معلنة، لكنها تمثل عقل الجماعة المالي الجديد الذي أدرك أن "المال هو التنظيم الحقيقي"، وأن النفوذ لم يعد يُبنى بالانتخابات أو المظاهرات، بل بالقدرة على تمويل الكلمة والصورة والرأي داخل العواصم الغربية.
تلك الشبكات ليست مجرد واجهات خيرية، بل مشروع استراتيجي لإعادة إنتاج التنظيم في صيغة مالية قانونية يصعب المساس بها، فأوروبا، التي وفّرت حرية التنظيم وحماية الجمعيات، تحولت دون قصد إلى ساحة آمنة لتراكم رأس المال الإخواني وإعادة تدويره، بينما تستفيد الجماعة من كل ثغرة قانونية لتبقى حيّة، بلا لافتة سياسية، ولكن بمحفظة مصرفية تنبض بالدولارات واليورو.
مسارات المال الإخواني لتخريب مصر
منذ أن حوّلت جماعة الإخوان الإرهابية مسارها من الاحتكاك السياسي المباشر إلى العمل من المنفى، صار المال لدى التنظيم ليس مجرد وقود بل أداة تنفيذية قادرة على تحويل القضية السياسية إلى مشروع تأثير طويل الأمد.
الأموال التي تُجمَع في أوروبا لا تتكدّس كفائض؛ بل تُعاد صياغتها بعنايةٍ لتعمل في أربعة مسارات متكاملة تستهدف إضعاف الدولة المصرية داخليًا وخارجيًا: صناعة الخطاب، تمويل المجموعات والوجوه المعارضة، بناء أدوات ضغط قانوني ودولي، واستدامة بنية إعلامية ومنصات رقمية تعمل بلا انقطاع، ويشرح الفهم العملي لهذه الآليات يشرح لماذا تظلّ الأموال أهم سلاح للإخوان بعد خسارة الأرض.
أول مسار هو صناعة الخطاب عبر إعلام الشتات، حيث يُحوّل جزء كبير من العائدات لتمويل قنوات فضائية ومواقع إلكترونية وصفحات رقمية تكرّس نفسها لتشويه صورة مصر ومؤسساتها، وهذه الوسائل لا تبدو دائمًا مباشرة الربط بالجماعة؛ هي تستخدم أسماء وشخصيات مفصولة قانونيًا عن الشبكة الأم، وتوظف باحثين وصحفيين معارِضين أو متعاونين بصيغ مدفوعة الأجر.
ويشمل تمويل هذه الآلات رواتب طاقم عمل، وعقود استضافة ومكاتب، وحملات ترويجية مدفوعة على منصات التواصل، بل يصل أحيانًا لشراء نصوص وتقارير تُقدّم لدوائر التأثير في أوروبا باسم مستقليّن، فيحدث نوع من "تبييض الخطاب" الذي يقنع جهات غربية بوجود مشكلة حقوقية أو ديمقراطية في مصر، بينما تكون النتيجة تسليحًا دعائيًا يعمل لصالح أهداف تنظيمية.
ويتجلّى المسار الثاني في دعم شبكات المعارضة والمنظمات الحقوقية الموالية أو المتجاوبة، وتُوزَّع أموال تُقدَّم على شكل منح للأفراد والمؤسسات الصغيرة التي تقوم بدور الوسيط؛ محامون يفتحون ملفات قضائية ضد شخصيات مصرية، ومنظمات حقوقية ترفع شكاوى في مؤسسات أوروبية، ومنصات استشارية تنظّم مؤتمرات وتدريبات، وكلها تُموّل جزئياً من خزينة الشبكة.
هذا التمويل لا يُعلن عادةً كمساعدة تنظيمية مباشرة بل يُغلف بتمويل مشروعات "بحثية" أو "توعوية"، ما يجعل من الصعب إثبات علاقة السببية بين المنح وعمليات الضغط السياسية.
بينما المسار الثالث هو استثمار النفوذ الاقتصادي في خلق قواعد ضغط مادي، من خلال استثمارات في عقارات وشركات صغيرة في أوروبا لا تقتصر غايتها على الربح؛ بل تُستخدم كشبكة علاقات اقتصادية توصل التنظيم برجال أعمال وعناصر فاعلة في الشتات، وتُستخدم علاقات الأعمال هذه لاحقًا في حملات دعم مالي وسياسي.
وأصحاب المشاريع الذين تربطهم مصالح تجارية مع مؤسسات تمويلية مرتبطة بالشبكة يُطلب منهم في أوقات الأزمات تقديم دعم مالي مُنسق أو فتح أبواب علاقات ضغط تؤثر في قرارات محلية أو في منظمات مانحة.
وأخيراً المسار الرابع يتعلق باللجوء إلى أدوات الضغط القانوني والدبلوماسي، عبر تمويل مكاتب محاماة ودعاوى قانونية في أوروبا تُختبر الأدوات التي يمكن أن تُقضّ مضامين سياسات مصر في المحافل الدولية: شكاوى عن انتهاكات، طلبات لافتتاح تحقيقات دولية، أو حملات ضغط على صُنّاع قرار ومؤسسات مانحة لوقف التعاون المؤسسي مع القاهرة، فليست كل قضايا حقوقية غير مبررة، لكن المنهجية المتبعة تكمن في اختيار القضايا التي يمكن تسييسها لتوليد ضغوط خارجية أو لخلق حالة تضخيم إعلامية تؤثر على سمعة الدولة.
كل هذه المسارات تتقاطع في أداة أخرى حاسمة: شبكة التمويل المموهة التي تُمكّن التحويلات المتكررة والصغيرة بحيث لا تثير اهتمام الرقابة المصرفية التقليدية، أو عبر تحويل العوائد من استثمارات مولِّدة للدخل إلى حسابات تمنح لاحقًا دعمًا سخياً لمشروعات محددة.
وتضمن هيكلة هذه الحلقات المالية "تماسك الأداء" حتى حال تعرض جزء من الشبكة للملاحقة؛ إذ أن وجود كيانات متعددة ومملوكة قانونيًا لأطراف مختلفة يصعّب مهمة الجهات الرقابية في تتبع سلاسل الملكية الحقيقية.
النتيجة أن المال يُوظف كأداة مزدوجة: يؤمّن بقاء البنية التنظيمية اقتصادياً ويجعلها فاعلة سياسيًا عبر تأمين موارد لوجستية وإعلامية وقانونية. ما يجعل هذا أكثر خطورة هو سرية القيادة المالية؛ عدد محدود من الأسماء المُتَفَق عليها في قلب الشبكة يقرر أين تذهب السيولة ومتى، ويستحث الدور المحلي لواجهات قانونية تعمل كمسؤول نفاذ تبرعات.
وهذا الأسلوب يعطى الغذاء المستمر لحملة تشويه، ويُمهّد الأرض داخليًا لتشجيع تحركات سياسية صغيرة، أو لتمويل مبادرات احتجاجية، أو لفتح قنوات جديدة للضغط الدولي.
وفي ضوء ذلك، تظهر الحاجة إلى استراتيجية مضادة ليست أمنية فحسب، بل اقتصادية وقانونية: تتبع أصول الواجهات، مراقبة منح وطلبات التمويل المحلي في أوروبا، كشف الشبكات الحقيقية وراء الجمعيات المسجلة، ورفع مستوى التعاون الاستخباراتي والمالي مع أجهزة العواصم الأوروبية؛ لأن المواجهة مع "اقتصاد الظل" هذا ليست عبر الرصاص أو الشارع، بل عبر دفتر حسابات: إن أردنا خنق الخيوط، فعلينا تعقب مصدرها وقطع تدفقاتها، وليس فقط تضييق هامش الخطاب.
منظومة التعقّب المتكاملة
لم تكن مواجهة الدولة المصرية مع جماعة الإخوان الإرهابية بعد عام 2013 مجرّد حملة أمنية أو سياسية محدودة، بل تحوّلت إلى مسار مؤسسي شامل أعاد تعريف مفهوم الردع الوطني ضد التنظيمات ذات الامتدادات العابرة للحدود، ففي الوقت الذي تراجع فيه حضور الجماعة على الأرض عقب سقوط حكمها، كانت القاهرة تفتح جبهة جديدة في معركة المال، باعتبارها «الذراع الخفية» التي ما زالت تحاول إنعاش التنظيم وتمويل أذرعه في الداخل والخارج.
وبدأت الملاحقة المالية بمنهج واضح يقوم على تتبّع الشبكات الاقتصادية الموازية التي بنتها الجماعة طوال عقود تحت لافتات الجمعيات الخيرية والمشروعات الاستثمارية الصغيرة، وصولًا إلى تأسيس لجنة التحفظ وإدارة أموال الجماعات الإرهابية في 2014، التي مثّلت نقطة التحول في سياسة الردع، واستطاعت عبر التعاون مع جهات سيادية ومصرفية، كشف مسارات تمويل معقدة اعتمدت على واجهات مدنية وشخصيات غير مصنّفة تنظيميًا.
ومع مرور الوقت، تطورت الرؤية المصرية لتشمل أدوات تشريعية وتنظيمية أكثر صرامة. ففي 2018، جرى نقل تبعية اللجنة إلى جهات قضائية تحت إشراف وزارة العدل والبنك المركزي بموجب القانون رقم 22، بما منحها صلاحيات أوسع في التجميد والمصادرة، ودمجها ضمن الإطار الوطني لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب.
ومع تعديل التشريعات ذات الصلة في 2020، تحولت القوانين إلى سلاح دقيق موجه نحو مصادر التمويل، وألزمت المؤسسات المالية والبنوك بمراجعة الحسابات ذات الطابع الخيري المزدوج التي طالما استخدمها التنظيم كغطاء لحركة الأموال.
ورغم أن التنظيم حاول بعد 2013 الالتفاف على القرارات المصرية عبر إنشاء واجهات مالية في أوروبا تحت أسماء مدنية لا تمتّ له ظاهريًا بصلة، فإن المنظومة الرقابية المصرية استطاعت عبر التعاون مع وحدات الاستخبارات المالية تتبع خيوط التحويلات الممتدة من الداخل إلى الخارج، فخلال الأعوام 2015 - 2022، رصدت الأجهزة أكثر من 800 كيان تجاري وخيري ارتبط بصورة مباشرة أو غير مباشرة بشبكة تمويل الجماعة، وتنوّعت بين شركات عقارية في لندن ومكاتب استيراد وتصدير في النمسا وسويسرا، وهذا التحليل المالي لم يكن مجرد عملية فنية، بل تحوّل إلى آلية لتفكيك البنية الاقتصادية للتنظيم الدولي، بعدما تبيّن أن جزءً من الأرباح كان يُعاد تدويره لتمويل أنشطة إعلامية معادية للدولة المصرية.
في المقابل، رسخت القاهرة منظومة وطنية متكاملة تقوم على مبدأ الردع المالي الوقائي. فبجانب التشريعات، جرى تأسيس قاعدة بيانات موحدة تضم كل الكيانات والأشخاص المرتبطين بتمويل الجماعات الإرهابية، وأُدرجت أسماء عدة على قوائم تجميد الأصول بالتنسيق مع البنك المركزي ووحدة التحريات المالية، ومع حلول عام 2023، أصبح الملف المالي للإخوان تحت متابعة دقيقة، ليس فقط داخل مصر بل أيضًا في إطار تنسيق دوري مع شركاء أوروبيين، في مقدمتهم وحدات التحريات في برلين ولندن.
بالتوازي، عززت القاهرة قنوات التعاون مع مؤسسات مالية أوروبية، خصوصًا منذ 2021، لكشف الحسابات والتحويلات المرتبطة بعناصر الجماعة المقيمة في لندن وجنيف وبعض العواصم الأوروبية الأخرى، في إطار مقاربة تقوم على مبدأ التجفيف لا المواجهة، كما امتد التعاون إلى مستوى وحدات الاستخبارات المالية الدولية، عبر تنسيق مباشر مع شبكات مصرفية دولية لمشاركة المعلومات بشأن الحسابات المشبوهة، ما جعل مصر شريكًا فاعلًا في جهود مكافحة تمويل الإرهاب عالميًا.
وبهذا الشكل، لم تعد الحرب على الإخوان معركة ميدانية أو إعلامية، بل تحوّلت إلى معادلة ردع مالية استخباراتية متكاملة تستهدف شرايين التمويل التي تحاول إنعاش التنظيم بعد سقوطه السياسي، فالجماعة، وإن فقدت قدرتها على الحشد والوجود العلني منذ 2013، ما زالت تمتلك خزائن ممتدة في العواصم الأوروبية.