لا الفرافير ولا العصافير

الأحد، 14 فبراير 2016 04:45 م
لا الفرافير ولا العصافير
عبد الحليم قنديل يكتب


حسنا ، أن اعترف الرئيس السيسى علنا بفشل إدارته فى التواصل مع الشباب ، فالاعتراف بوجود مشكلة هو نصف الطريق للحل ، لكن الحل لا يتحقق بدون الفهم الصائب للمشكلة ودواعيها .


وليس الشباب مجرد فئة ، يقدرها البعض احصائيا بنحو ربع السكان المصريين ، ولا سنا محصورة بين 18 و28 سنة من العمر ، ولا بين 18 سنة و35 سنة فى قول آخر ، فالمجتمع المصرى شاب فى تكوينه السكانى الغالب ، وعدد المصريين تحت سن الأربعين ، يكاد يجاوز نسبة السبعين فى المئة من إجمالى السكان ، والمجتمع المصرى غاضب بقدر ماهو شاب ، وبقدر ما تبدو الطرق مسدودة إلى مستقبل أفضل ، يهتدى بقيم الحرية والعدالة والكرامة والعلم والإنتاج وتكافؤ الفرص .


إذن ، فالأزمة أكبر من أن تكون أزمة فئة ، إنها أزمة مجتمع بكامله ، والغضب الذى يسمونه غضب الشباب هو غضب مجتمع ، تماما كما كانت الثورة هى ثورة الشعب المصرى ، وليست مجرد "ثورة شباب" كما روج البعض بالعمد أو بالغفلة ، فكل الثورات فى التاريخ الإنسانى غلب عليها وجود الشباب ، وكل الثورات فى التاريخ المصرى كذلك ، إذ تتقدم الفئات الأقدر على الحركة ، وعلى اكتساب وعى مغاير للمألوف الراكد ، خاصة مع التطور الهائل فى وسائل الاتصال ، والمقدرة المتزايدة على تكوين رأى عام ناقد وغاضب ، ومستعد لاقتحام حواجز الخوف ، وتحطيم قوانين "أهل الكهف" ، وبهذا الفهم وحده ، قد يصح معنى "شبابية" الثورة المصرية ، بفصولها المتوالية المأزومة إلى الآن ، وبما يكشف عوار وقصور تسمية الثورة بثورة الشباب ، وكأنها أنفاس غضب كأنفاس الشيشة ، محصورة فى فئة بعينها ، تقدم عروضا عنيفة تنفيسا عن طاقة حبيسة فى الصدور ، أو تترقى إلى مظاهرات سلمية ، وعروض غضب حضارية ، تنزع عن الثورة معنى الانحياز فيها لأغلبية الشعب من الفقراء والطبقات الوسطى ، وتحولها إلى "ثورة بارتى" ، يكون فيها الغضب للغضب ، كما الفن للفن ، وفى عمل استعراضى ، تكون الميادين مسارحه ، أو فى "فيلم أكشن" ، تتوالى فيه مشاهد الخناقات والاشتباكات مع الشرطة ، وعلى النحو الذى روجت وتروج له منابر وإعلام الثورة المضادة ، بما يعزل حوادث الثورة عن مصالح أهلها ، ويسهل عزلها والإجهاز عليها ، وهو ما يلقى هوى ـ للأسف ـ لدى بعض شباب الوعى العابر على "الفيس بوك" ، بانطباعاته الخفيفة المستخفة فى أكثر الأحوال ، وبشتائمه ومدائحه و"هاشتاجاته" ، التى قد تخطف الوعى ولا تبنى عليه ، وتزور فهم الناس للحقيقة ، تماما كما تزور معنى الثورة ، وتسهل مهمة الرجعية على اختلاف ألوانها وراياتها ، وتعين قوى الثورة المضادة على تسخيف قضية الثورة ، وتعميق الشروخ فى علاقتها بالمجتمع المنهك .


الثورة ـ إذن ـ ثورة مجتمع شاب بطبعه التكوينى ، والغضب غضب مجتمع شاب ، وليس غضبا محصورا بفئة دون غيرها ، وإن وجدت فئات أقدر فى التعبير عن الغضب ، أحيانا بصور عفوية خاطئة وملتبسة ، وأحيانا أخرى بصور صحيحة تماما ، ودواعى الغضب منظورة ، فثمة إحساس عام بإنسداد أو افتقاد الطرق ، والثورة بسنواتها الخمس لا تزال يتيمة ، والثوريون ـ شبابا وغير شباب ـ فى دروب التيه ، يفعلون أى شئ أو كل شئ إلا واجب الوقت ، ويضيعون فى إحباط ، لا يلتفتون غالبا إلى سببه ، وهو عجز الثورة عن التقدم لافتقارها إلى أداة التقدم ، فلم يقم للثورة إلى الآن حزبها السياسى الوطنى الاجتماعى الديمقراطى الجامع ، لم يقم حزب المجتمع الشاب الذى ينصف ثورته ، وينهى حالة اليتم التى لاتزال الثورة عليها ، ويخرجها من أحوال التيه بإحباطاته ووساوسه ، ويصل بالثورة إلى مقعدها فى السلطة ، وهو ما لم يحدث إلى الآن ، فقد قامت الثورة لتحكم سلطة الثورة المضادة بعدها ، خلعت الثورة رءوسا ورؤساء ، لكنها لم تخلع النظام بعد خلع الرأس ، فلا ينتهى نظام دون وجود نظام آخر جاهز للحلول محله ، ولا ينتهى نظام بالخلع دون زرع البديل ، ولا ينتهى النظام بمجرد إبداء أمنيات ، ولا تنتصر ثورة بالمراسلة ولا بالوكالة ، وتلك أزمة واقعة فى تونس كما فى مصر مع خلافات التفاصيل ، فليس لغضب الشباب عنوان بريد سياسى ، أى أنه ليس لغضب المجتمع الشاب عنوان وصول ولا حزب سياسى ثورى .


أى أن القصة أكبر كثيرا من علاقة الرئيس السيسى بالشباب ، ومن العجزالمعترف به عن التواصل مع الشباب ، فثمة أطراف كثيرة متداخلة ، يتحمل الثوريون ـ شبابا وغير شباب ـ قسطا وافرا فيها ، فالثورة لا تنجح ولا تنتصر بغير مسئولية الأصلاء فيها ، لا الوكلاء ولا الدخلاء ، وهذه قصة قد تطول لسنوات ، حتى لو عرف الناس وعملوا على طريق الحق فيها ، ودون إخلاء لطرف ، ولا تفريط فى واجبات الوقت ، فبناء حزب للثورة اليتيمة هو واجب الوقت الأول ، وضغط الرأى العام هو واجب الوقت المستعجل ، فثمة سلطة رأى عام فى مصر الآن ، رأى عام "مشوش" نعم ، لكنه ضاغط ومؤثر بشدة ، لايجعل الأكاذيب تعيش طويلا ، ولا يجدى معه ـ أى مع هذا الرأى العام ـ قمع ولا منع ، خاصة أن ملايين إثر ملايين من المصريين تغير طبعها ، ونفد صبرها الموروث ، وصارت ميالة للنقد والسخط التلقائى ، مع وجود سلطة منشقة ومنقسمة على نفسها ، فيها رئيس جديد يحكم بالنظام القديم ذاته ، وفيها "رأسمالية جيش" نامية تتناقض فى مصالحها وطريقتها مع "رأسمالية المحاسيب" الموروثة ، وفيها من أحوال الفوضى أكثر من أحوال الرسوخ ، وهو ما يجعل سلطة الرأى العام أكثر تأثيرا برغم تفرقها وتشوشها ، وبما يدفع الرئيس للاعتراف بدواعى الخلل دون إصلاحه ، وعلى طريقة اعترافه الأخير بفشل التواصل مع الشباب ، وبعد أسابيع قليلة على إعلانه 2016 عاما للشباب .


واعتراف الرئيس فرصة للتذكير بأصل الخلل ، فليست القصة فى أزمة فئة من عمر معين ، وكأن الفئات الأخرى فى بحبوحة وراحة بال ، والمعنى الذى نقصده هنا ظاهر بلا التباس ، فغضب الشباب علامة على غضب مجتمع ، وطبيعى أن يكون الشباب ـ بالمعنى العمرى ـ أعلى صوتا وصخبا وصراخا ، فأزمات الفقر والبطالة والمرض والقمع وانسداد الأفق محنة مجتمع ، لكنها تحط فوق رءوس الشباب أكثر وأكثر ، فقد توجد قطاعات ناجية فى الفئات الأكبرعمرا ، لكن الشباب ـ ذكورا وإناثا ـ هم المطحونون بدواعى ومضاعفات المحنة الداهسة ، وقد لا يجدى ولا يصح الالتفات إلى الظواهر وترك الجواهر ، فإعلان 2016 عاما للشباب ، قد لا يكون أكثر من مجرد عنوان فارغ من مضمونه ، ومنح قروض بفوائد مخففة للشباب ، أو تخصيص نسبة من الإسكان الاجتماعى ، أو بدء برامج تأهيل ، كل ذلك قد لايعنى شيئا كثيرا ولا قليلا فى بلد التسعين مليون نسمة ، فالبيروقراطية الفاسدة الحاكمة كفيلة بالتعويق ، وبرامج تأهيل الشباب المطروحة أقرب إلى معنى "البيزنس" منها إلى معنى السياسة ، وقد تعنى اصطفاء قلة مختارة وشرائح محظوظة ، واعتبارها معبرة عن الشباب بغير مقتضى مقبول ولا معقول ، فالانفتاح على الشباب مهمة مختلفة ، وأكبر من مجرد إحاطة الرئيس بالشباب "المزوق" المنمق ، وأكبر من مظاهر التقاط صور "السيلفى" ، وقد لا يتعب المرء كثيرا فى البحث من أصول وهوية الشباب المقرب من الرئيس ، على منصات الاحتفالات العامة ، أو فى كواليس برامج التأهيل والعناية إياها ، فهم خليط ظاهر من الفرافير والعصافير مع استثناءات أخرى أقل حضورا ، فرافير من شباب الجامعة الأمريكية غالبا ، وعصافير من موارد الأجهزة الأمنية غالبا ، وليس للشباب المصرى الغاضب من علاقة نسب تجمعه مع العصافير والفرافير ، وهم فئات لا تصلح ـ بطبائع الأحوال المرئية ـ كمفتاح للتعامل مع الشباب ، بل هم أقرب للأقفال لا المفاتيح ، وهم أقرب لقطع الديكور ، أو للعب دور "شباب الزينة" ، فهم كعصافير الزينة ، لاتؤكل ولا تطير، وتوضع فى "الفاترينات" ، أو من وراء زجاج الأقفاص ، أو فى ردهات العلاقات العامة ، وقد تعب المعاونون للرئيس فى جمع أكبر عدد من شباب الزينة ، ودون أن ينفتح طريق الرئيس إلى قلوب وعقول الشباب بعامة ، والسبب ببساطة فى عطب خيال الأجهزة الأمنية الموردة للشباب "البلاستيك" ، وفى بؤس مستشارى الرئيس المفضلين من خريجى الجامعة الأمريكية ، والذين تحولوا إلى "لوبى" مؤثر جدا فى يوميات قصر الرئاسة .


وبالطبع ، لا نقترح على الرئيس استبدال "شباب الزينة" ، فهذه لعبة كراسى موسيقية بائسة بطبعها ، بل نقترح عليه انفتاحا على المجتمع إن أراد الانفتاح على شبابه ، نقترح عليه البدء بحملة تطهير شاملة ، تجتث الفساد المسيطر، وتستعيد مئات المليارات المنهوبة ، ونقترح عليه حملة تصنيع كبرى بالاكتتاب العام لامتصاص فوائض البطالة المتفاقمة ، ونقترح عليه الإقرار بالعدالة وتكافؤ الفرص فى تولى الوظائف العامة بدلا من توريثها ، ونقترح عليه ـ من قبل ومن بعد ـ تفكيك الاحتقان السياسى الخطر ، واستعمال صلاحياته فى إخلاء سبيل عشرات الآلاف من الشباب المحتجزين فى غير تهم العنف والإرهاب المباشر ، فالناس ـ والشباب ـ يريدون العدالة أولا ، وقرار واحد عادل أفضل من ألف خطاب ومناشدة للشباب اليائس .

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق