خطايا أمنية

السبت، 27 فبراير 2016 03:20 م
خطايا أمنية
عبد الحليم قنديل يكتب

هل صحيح أن الحملة على أخطاء وخطايا جهاز الأمن تضعفه ؟ ، أم أن أجهزة الأمن هى التى تضعف نفسها بنفسها ، وتدوس على قداسة دم شهدائها ، حين تدوس كرامات الناس ، وتثير عواصف الغضب الشعبى ، ليس على وزارة الداخلية وحدها ، كما جرى فى انتفاضة الأطباء وأهالى الدرب الأحمر ، بل على النظام السياسى برمته ، وهو ما جعل الرئيس السيسى نفسه يطلب وضع تشريعات عاجلة لضبط جهاز الأمن ، ووقف التجاوزات والجرائم بحق المواطنين .


وقد يقال لك أن ما جرى مجرد تصرفات فردية ، وأنها سلوكيات منفلتة محصورة فى بعض أمناء الشرطة ، وهذا اجتزاء مخل ، وتبسيط وتهوين لا يليق ، فقد يكون أمين شرطة وراء جريمة سحل الأطباء فى مستشفى عام ، وقد يكون أمين ـ أو رقيب ـ شرطة هو الفاعل فى جريمة قتل سائق الدرب الأحمر ، لكن ضباط شرطة سبقوا إلى ارتكاب ماهو أبشع ، وعلى طريقة جرائم التعذيب حتى الموت فى أقسام الشرطة من المطرية إلى الإسماعيلية إلى الأقصر ، وعدد الضباط المحالين فى قضايا حق عام أكبر حتى الآن من عدد الأمناء ، برغم أن عدد الأمناء فى أجهزة الداخلية أكبر بما لايقاس ، ومقابل كل ضابط شرطة يوجد عشرة أمناء ، والأخيرون قوة كاسحة ، تكاد تصل إلى 400 ألف فرد ، ولا تسرى عليهم قواعد حركة التنقلات الدورية كما يجرى للضباط ، ويقومون فى أقسام الشرطة بدور وكلاء الوزارات فى الحكومة، فقد يتغير الضابط كما يتغير الوزير ، لكن أمين الشرطة هو الذى يملك المفاتيح وعدة الشغل ، وإقامته المزمنة تجعله سيد الموقف ، وعلى علاقة جوار وحوار خطرة مع كافة ظواهر الإجرام فى محيطه ، فهو يعرف قوائم "المسجلين خطر" والبلطجية والمطلوبين لتنفيذ الأحكام ، ويقيم معهم شبكة تعايش تبدو مستقرة ، وقد تحول بعض الأمناء إلى مليونيرات وأباطرة ، فى يدهم الحل والعقد وهمزات الوصل مع الضباط ، وتضخم دور أمناء الشرطة فى إدارات المرافق والمواصلات والكهرباء والسياحة والمرور بالذات، وأصبح الكثير منهم فى وضع "الباشا" ، يفرض المعلوم والإتاوات ، ويروض حتى ضباط الشرطة ، وهو ما يؤدى لخلخلة الانضباط ، وتدهور الأداء العام للجهاز الأمنى ، وضعف فاعليته ، وتراكم صور الفساد ، ونزع الثقة فى صحيح القانون .


وقد لايصح لأحد أن ينكر وجود صور بطولة حقيقية فى أداء ضباط أو حتى أمناء شرطة ، ولا وجود ضمائر يقظة ، واستعداد هائل للتضحية فى سبيل حفظ الأمن ، خاصة فى ملاحم المواجهة المتصلة مع جماعات الإرهاب ، وتقديم شهداء نعتز بهم ونجل ونحترم ذكراهم ، وإن كانت البطولة والشهادة لا تحجب وجوه ضعف ظاهرة ، تزيد من الخطر الواقع على حياة رجل الأمن بغير مقتضى صحيح ومعقول ، بينها ضعف التدريب ، وعدم التصرف بسرعة مناسبة وقت الهجوم الإرهابى ، وما من مسوغ لقبول تبريرات من نوع "المفاجآت" الإرهابية ، فالعمل الإرهابى مفاجئ بطبعه ، ولا يتعين على الإرهابيين إخطار الشرطة مسبقا بنوايا الهجوم ، وقد وقع عدد كبير من الضباط والأفراد ضحايا لهجمات مفاجئة على الأكمنة ، ودون أن نلحظ ردا نيرانيا فوريا على الإرهابيين المهاجمين ، ولا إصابات مباشرة وقاتلة بينهم ، اللهم إلا فى حالات محدودة ، أظهرها تصرف الشرطة السريع الكفء فى حادث الهجوم على فندق بالغردقة ، وهو ما يثير أسئلة واجبة عن مستوى اليقظة وكفاءة التدريب والتصويب ، فالحرب ضد الإرهاب ليست حروب حشود ولا مهرجانات أسلحة ، ولا إقامة حواجز وسواتر أسمنت فى كل مكان ، بل هى حرب ذكاء وقوة تخيل فى الأساس ، وتوقع مبكر لأى سيناريوهات مفترضة قد يلجأ إليها الإرهابيون ، وهى حرب معلومات وافية مدققة ، وليست خبط عشواء ، يأخذ العامل بالباطل ، ويقبض على كل سكان الشارع لمجرد اشتباه فى وجود إرهابى محتمل ، خاصة أن العشوائية تجلب العشوائية ، والجهل بالمعلومات يزيد القسوة ، ويورط الشرطة فى تصرفات تدينها ، ولاتشجع على التعاون معها من عموم المواطنين ، وتخل بسلامة وكفاءة التحريات ، وتجعل الفاعلين الحقيقيين فى منأى عن الاكتشاف ، وهو ما يفسر تحول العديد من الجرائم الكبرى ـ كاغتيال النائب العام مثلا ـ إلى ألغاز وفوازير بلا حلول ، ويبقى القضايا معلقة ومثيرة للشبهات ، وعلى طريقة التحريات فى فضيحة اتهام طفل الفيوم (4 سنوات) فى قضية أمن دولة ومحاكمة عسكرية ، أو على طريقة التحريات التى لم تصل لشئ معقول ولا مقبول حتى الآن فى قضية تعذيب وقتل الشاب الإيطالى جوليو ريجينى ، والتى تكاد تدمر علاقات السياسة والاقتصاد النامية مع إيطاليا .


والاعتراف بالنقص والخلل هو أول الطريق لطلب الكمال ، فالأمن حاجة إنسانية طبيعة فطرية ، ولا يوجد مجتمع حديث بدون شرطة وقانون ، وهو ما يعنى ببساطة ، أن الشرطة عليها أولا أن تلتزم بصحيح القانون ، فلا يصح لباب النجار أن يكون "مخلعا" ، والهيبة لا تكتسب بالبلطجة والانفلات الإجرامى ، بل بالكفاءة وحسن التدريب وسلامة الضمائر ونظافة اليد ، وهو ما يعنى أننا بحاجة إلى مراجعة شاملة لأداء الجهاز الأمنى ، وإلى تطهير شامل لصفوفه، وإلى استغناءات واسعة وإحالات للتقاعد ، فنصف القوة الأمنية الحالية يكفى جدا لضمان أمن مصر ، بشرط توافر الحرفية والمعلوماتية ودقة التحريات وتطوير التكنولوجيا الأمنية ، وليس بالتساهل والميل للتخفى بالأخطاء ونواحى القصور ، ولا بتسديد الخانات تغطية لضعف التحريات ، ولا باستخدام كاميرات مريبة عجيبة ، يثبت فى كل مرة أنها عمياء لاتبصر ولاتصور ، ولا بتحويل العمل الشرطى إلى مهنة انتقام وتجبر على المواطنين ، ولا بتفريغ العجز الحرفى فى شحنات تعذيب وحشى وقتل خارج القانون ، فلم يعد بوسع أحد أن يخفى جريمة تعذيب أو قتل نظامى ، وتكنولوجيا المواطن صارت أقوى من تكنولوجيا جهاز الأمن ، وصار بالوسع نقل كل ما يجرى فى المخافر والأقسام والأقبية والشوارع ، وبالصوت والصورة الكاشفة فورا لكل تواطؤ مهما بلغ سلطانه ، فالسلطان اليوم لوعى المصريين الذى تطور ، ولنصوص الدستور التى جعلت التعذيب جريمة لاتسقط بتقادم الزمن .


نعم ، لابد من وقفة ورد اعتبار للناس ، لضحايا تجاوزات الشرطة ، تماما كما لشهداء الشرطة نفسها ، فالحق لا يصادر ولا يصادم بعضه بعضا ، وهذه قضية سياسية بامتياز قبل أن تكون أمنية ، فالعدالة وحدها هى التى تكفل الأمن ، ولا عدالة بدون اجتثاث الفساد من جذوره فى الشرطة وغيرها ، وبدون الاقتصاص للحقوق ، وبدون الانحياز لمصالح وأشواق الفقراء والطبقات الوسطى ، وبدون جعل مهمة جهاز الأمن حفظ أمن الناس ، وليس حراسة أمن المظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية .

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق