أكاليل الغار وأكاليل العار

الإثنين، 18 يوليو 2016 04:20 م
أكاليل الغار وأكاليل العار
عبد الحليم قنديل يكتب

لا نريد أن نحمل الوزر كله لسامح شكرى وزير الخارجية المصرى، ولا أن نضرب الذيل ونترك الرأس، فشكرى مجرد موظف يتلقى الأوامر، والجريمة التى ارتكبها لا تخصه وحده، بل هى جريمة الذين أرسلوه من قبله ومن بعده، وكل "تطبيع" مع كيان الاغتصاب الإسرائيلى "جريمة" حتى لانقول أكثر، اللهم ما كان مضطرا إليه على طريقة أكل الميتة ولحم الخنزير، ومصر لم تكن مضطرة إلى إرسال سامح شكرى للقاء رأس الاحتلال ومجرم الحرب بنيامين نيتنياهو، وليست من مصلحة مصريه كبيرة أو صغيرة فى ارتكاب الجرم المشهود، وذهاب شكرى إلى مهمة لقاء دافئ مع نتنياهو، توجته الدعاية الإسرائيلية بنشر صور صداقة عائلية حميمة بين شكرى ونتنياهو، وهما يشاهدان معا مباراة فرنسا والبرتغال فى نهائى "يورو 2016"، بينما كان المستوطنون اليهود يقتحمون المسجد الأقصى المبارك فى ذات اليوم، وهو ما لم يجرؤ سامح شكرى على الإشارة إليه ولا إدانته بحرف فى المؤتمر الصحفى الذى جمعه مع نتنياهو، واكتفى بإدانة "الإرهاب العربى" على الطريقة التى تريح أعصاب صديقه نتنياهو، وهو ما يتفق بالضبط مع وجهة نظر كيان الاغتصاب والإرهاب الإسرائيلى، فهذه "الإسرائيل" تصف المقاومة والكفاح الفلسطينى بالإرهاب، وكما كانت مشاهدة مباراة كروية علامة دبلوماسية على دفء صناعى فى علاقات القاهرة وتل أبيب، فقد كانت إدانة شكرى لما أسماه "الإرهاب" تحية عظيمة لإسرائيل، وإشادة ضمنية بقهرها لكفاح الشعب الفلسطينى، ودوسا على قداسة دم مئة ألف شهيد وجريح مصرى فى الحروب مع كيان الاغتصاب الإسرائيلى، وإلى حد بدت معه القصة كلها "هلفطة" و"جليطة" دبلوماسية مخزية، تستبقى لنا أكاليل العار، بينما تمنح الإرهابى نتنياهو أكاليل الغار، فلم يتصرف شكرى أبدا كمصرى ولا كعربى، وفضل الحديث باللغة الإنجليزية فى مؤتمره الصحفى مع رئيس الوزراء الإسرائيلى، فيما تحدث نتنياهو باللغة العبرية برغم إجادته الفائقة للحديث بالإنجليزية، كان نتنياهو صادقا مع نفسه وكيانه العدوانى الاغتصابى، بينما كان شكرى كذوبا مدعيا مهدرا لقيمة البلد العظيم الذى يتحدث باسمه، فاللغة الرسميه لمصر – بنص دستورها – هى العربية الفصحى، وقد هرب شكرى إلى الانجليزية لسبب مشهور غاية فى بساطته، فالرجل لا يجيد لغة مصر الوطنية، ولا يستطيع النطق بجمله عربية واحدة سليمة نحويا، وهذه مصيبة كبار المسئولين عندنا هذه الأيام، والقاسم المشترك الأعظم بينهم، فهم لا يكتفون بركاكة السياسة، بل يضيفون إليها ركاكة اللغة، وبصورة تقزم مكانة مصر، التى تظل "عربية" رغم أنوفهم جميعا، وتظل رافضة لأى تطبيع أهلى أو رسمى، والشعب المصرى هو الذى أحرق سفارة إسرائيل فى مشهد عنفوان وطنى لا ينسى.

وعبثا تحاول أن تفهم سرا أو سببا مشروعا للزيارة المريبة، ودواعى التحضير لمؤتمر محتمل فى "شرم الشيخ"، يجمع الرئيس المصرى وملك الأردن والرئيس الفلسطينى فى لقاء سلام مع نتنياهو، وهو ما يذكرك بما جرى مرارا من قبل فى عهد المخلوع مبارك، فقد لوثوا سمعة "شرم الشيخ"، وغطوا جرائمهم بإطلاق صفة "مدينة السلام" على المنتجع السياحى بالغ الروعة، وفى العشر سنوات الأخيرة قبل سقوطه بثورة الشعب المصرى، كان مبارك يجعل من شرم الشيخ محلا لإقامته المفضلة، وكما كانت دائما موئلا للقاءات متكررة من أواسط التسعينيات، تجمع الأطراف ذاتها المدعوة فى المرة المخطط لها الآن، مضافا إليها حضور الرعاة الأمريكيين والأوروبيين من أصدقاء إسرائيل، وكانت العناوين هى ذاتها تقريبا، كلام تافه ركيك عن تنشيط المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وحملات مشتركة ضد ما أسموه بالإرهاب، وكان يقصد به وقتها معنى صريحا مباشرا، ينصرف إلى لصق صفة الإرهاب بالمقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، فلم يكن إرهاب "داعش" قد ظهر بعد، وهم يريدون هذه المرة خلط الأوراق، وجعل المقاومة الفلسطينية فرعا من إرهاب " داعش"، ودعم مزاعم نتنياهو عن "الإرهاب الإسلامى" ذى الوجوه المتعددة، وعن قيادة إسرئيل للحرب ضد الإرهاب، والذى يضاف إليه هذه المرة – فوق العادة – دور المنظمات الشيعية التى تدعمها إيران، وعلى رأسها "حزب الله" أكبر قوة مخيفة لإسرائيل فى المشرق العربى المحطم، وكل ذلك مما يفسر غبطة نتنياهو وترحيبه الغامر بالمساعى المصرية الراهنة، والتى تأتى مترافقة مع توحش نفوذ جماعة مبارك الاقتصادية والأمنية فى الداخل المصرى، وتحظى بتعاطف صامت ودعم مالى من دول خليجية كبرى، تريد أن تورط السياسة المصرية فى الإثم العلنى، وأن تجعل لها مهمة إقامة جسور الوصل والمحبة مع إسرائيل، وفى سياق بناء "تحالف سنى" ضد إيران الشيعية، وكأن إسرائيل اليهودية تحولت فجأة إلى دولة سنية، وكأن نتنياهو صار زعيما للسنة العرب (!)، يقود الأطراف المفترض تحالفها، من أنقرة إلى القاهرة وعواصم الخليج، وهو ما لا توافق عليه السياسة المصرية الرسمية الراهنة يقينا، وإن كانت تتورط فى بعض أدواره الفرعية، وبفوائض مضافة من السذاجة والأمية السياسية، وتتصور أنها تبحث لمصر عن دور، وعن اختراق جديد فيما يسمى عملية السلام، وعن تعريب أو تعميم لما يسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وكأننا بصدد "سادات جديد"، ومع بؤس الغاية المرجوة، فإن الوسائل أكثر بؤسا وأعظم ضلالا، ولا تقرأ ما جرى فى تقلبات الدور المصرى، فقد خلقت مصر – بالتاريخ والجغرافيا والثقافة – لدور قيادة طبيعى فى أمتها العربية، ولم تخلق أبدا لأدواروساطة وسمسرة سياسية، انتهت بها إلى قاع القاع، وهو ما جرى بالضبط عبر أربعين سنة من الانحطاط التاريخى، أعقبت عقد معاهدة العار المعروفة باسم اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، والتى لم تحرر سيناء إلا على نحو صورى، يحارب جيش مصر العظيم الآن لتحويله إلى حقيقة، ويحرر سيناء بالدم فى الحرب ضد جماعات التكفير والقتل والتفجير، والتى لم يكن لها أن تستوطن شرق سيناء، لولا قيود نزع السلاح المفروضة بمقتضى المعاهدة هذه المشئومة، وهو الدرس الظاهر فى معناه، فليس من إمكانية لاستعادة دور مصر بدون التحرر التدريجى من قيود المعاهدة المعروفة إعلاميا باسم "كامب ديفيد"، وبدون فك قيود نظام "المعونة الامريكية" الضامنة لمعاهدة العار، فلم تحدث الطفرة فى تسليح وتعظيم قوة الجيش المصرى، وتطوير صناعاته الحربية، لم تحدث الطفرة الكبرى إلا بعد تفكيك الاحتكار الأمريكى لتسليح الجيش المصرى، وحرص واشنطن على إضعاف جيشنا، مقابل تأكيد التفوق العسكرى والتكنولوجى للجيش الإسرائيلى، ولم تعد مصر إلى فتح ملف المشروع النووى السلمى، إلا بعد تقليص التبعية الموروثة للأمريكيين، وكانت تلك كلها – مع غيرها – أمارات على التحرك فى الاتجاه الصحيح، وأيا كانت الوسائل "البراجماتية" المتبعة لتحقيقها، وهو ما يتعارض بالجملة مع العودة لاستنساخ العار الذى ذهب بمبارك إلى مزبلة التاريخ، واستنساخ أدوار "وساطة" مبارك بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وكأن مصر بلد من كوكب آخر، وليست طرفا مباشرا فى قصة الصراع التى بدأت باحتلال فلسطين، والتى جعلت قضية فلسطين فى صميم القضية الوطنية المصرية، وقد لا نكون الآن فى وارد الكلام عن حرب مصرية جديدة مع إسرائيل، ولسبب بسيط جدا، هو أن مصر تخوض الحرب بالفعل لاستكمال عملية تحرير سيناء فعليا لا صوريا، ونشر قوات الجيش المصرى حتى حافة الحدود التاريخية مع فلسطين المحتلة، والمقاومة الفلسطينية هى خط دفاع أمامى عن العمق المصرى، والصراع على الأرض المقدسة لن ينتهى الآن، ولا فى المدى المنظور، ولا حتى بإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية كما تقول الدعاية البائسة، ثم أن نتنياهو وأشباهه، لا مانع عندهم من استئناف التفاوض لمجرد كسب الوقت، ولكنهم لا يقبلون حتى بإقامة هذه الدويلة الهزيلة، برغم أن توسيع معاهدة السلام إياها جرى مرارا بالفعل، وولدت معاهدة العار أشباهها، من "وادى عربة" الأردنية إلى "أوسلو" الفلسطينية، والتى توالت بعدها جولات مفاوضات ثنائية فلسطينية إسرائيلية، وعلى مدى أكثر من عشرين سنة، ودون نتيجة تذكر غير تهويد القدس واستيطان الضفة الغربية، ولن تؤدى ما يسمونه المبادرة المصرية الجديدة، إلا إلى ضياع جديد يضاف إلى الضياع القديم المتصل، فهى أشبه بالتحرك والمشى فى الحذاء القديم نفسه، يكسب منها نتنياهو المزيد من "أكاليل الغار" المنتصر فى غزوات التطبيع، ولا تستبقى لنا سوى أكاليل العار.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق