نداء عاجل للرئيس

الإثنين، 20 مارس 2017 12:18 م
نداء عاجل للرئيس
كتب : عبدالحليم قنديل

وقد لا يكون من جديد، إذا قلنا إن أكثر الناس غاضبون، ليس لأن المصريين جبلوا على الغضب، بل على العكس تماما، فالمصرى العادى أقرب إلى الرضا والتسليم، وإيمانه الفطرى يجعله واثقا بقضاء الأقدار، لكن حذار من أن نفهم رضا المصريين على غير الوجه الصحيح، أو أن يسىء أحد تفسير الصمت الظاهر، فهو ليس دائما صمت الرضا، خصوصا فى الظروف التى نعيشها الآن، بل هى فوائض صبر تاريخى، نخشى أن تكون لحظة نفادها اقتربت، فمصر تبدو فى أغلب الأحوال هادئة كصفحة النيل، لكنها فى لحظة عابرة قد تتغير وتتحول، وتنقلب مصر إلى بلد داهس كأقدام الفيل، وهذا ما يصح أن يفهمه ويحذره المعنيون من أولى الأمر، وقد توالت الشواهد والحوادث فى الأسابيع الأخيرة، ناطقة قاطعة فى مغزاها المباشر، وعلى طريقة انتفاضة الخبز المحدودة، ثم فى الإضراب عن الطعام حتى الموت، وقد قامت به مواطنة عادية جدا، ليس لها ميل سياسى على الإطلاق، وقاتلت عن حقها بحياتها، وانتصرت يوم ماتت، ودخلت التاريخ المصرى كأسطورة حية، وفضحت صفاء الكومى - وهذا اسمها - فساد دولة بأكملها، وعبرت عن وعى المصريين الجديد، وزوال خوفهم الموروث من سلطات القمع، وابداعهم التلقائى لطرق الاحتجاج السلمى، وهو الإنجاز الباقى للثورة التى لم تكتمل، ولا وصلت إلى السلطة حتى الآن، وإن كانت تقاوم الهزيمة، حتى لو كان الثمن هو الاستشهاد الطوعى، وعلى نحو ما اختارت «صفاء الكومى» فلاحة المنوفية الباسلة.
 
ولا نريد لأحد أن يخدع نفسه، ولا أن يراوغ فى فهم ما يجرى، ولا أن يبحث عن شماعات عبث جهول، ومن نوع إنكار دواعى ومظاهر غضب ساطع، أو نسبة ما يلحظ منها إلى عفاريت «اللهو الخفى»، فالحقيقة أظهر من أن تنكر، والفجوة تتسع فى اطراد بين الحاكمين والمحكومين، والمصريون شعب غاية فى الذكاء والوفاء، لا ينكرون على مخلص إنجازه، ويقدرون ما يجرى من إنجازات إنشائية كبرى، تجرى غالبا بإشراف وإدارة هيئات الجيش، وللجيش عند المصريين مكانة لا تخطئها عين، قد تكون تأثرت قليلا، لكن شعبية الجيش عند المصريين تظل هى الأعلى عالميا، ليس لأن الجيش جماعة من الملائكة، بل لأنه جماعة من نسيج المصريين، طباعه من طباعهم، وأحواله من أحوالهم، فوق مزايا الانضباط والجدية والكفاءة والفداء فى ساعة الخطر، والمقدرة على التصحيح الذاتى حين تتوافر الإرادة، وهو ما لا يجده المصريون خارج الجيش، فالحكومة والبرلمان والجهاز الإدارى فى واد آخر، والفساد والتخلف وانعدام الكفاءة هى الملامح الغالبة، والفوضى تحكم وتعظ، وتحالف مماليك البيروقراطية ومليارديرات المال الحرام، يقود البلد إلى الهاوية، ويكاد يغل يد الرئيس نفسه، ويهدر قيمة أى إنجاز يتحقق، فالإنجاز مع التسليم به، يبدو يتيما محاصرا ومحروما من تعبئة شعبية، تسنده وتطوره، ولسبب جوهرى ظاهر، هو أن الإنجاز يجرى بلا انحياز لأغلبية المصريين الساحقة من الفقراء والطبقات الوسطى، بل وبتعمد الإعدام المجازى لهؤلاء بالذات، وجعل حياتهم نكدا وهما وطينا، وبغير مقدرة على التوقف والتبين، والتصحيح الذاتى لاختيارات داخلية خاطئة فى السياسة والاقتصاد، نرجو ألا يكون الأوان قد فات على إمكانية تصحيحها، وإجراء جراحة عاجلة بلا بديل، فلا بديل عن حوار وطنى شامل، وتفكيك الاحتقان السياسى، وإطلاق الحريات العامة، وإخلاء سبيل آلاف المحتجزين فى غير تهم العنف والإرهاب، و «جبر ضرر» أسر الضحايا، ولا بديل عن ملاقاة غضب الناس فى منتصف الطريق، وقبل أن نصل إلى خطوط حمراء تندلع عندها نيران النفوس، فلا شىء فى الدنيا يعادل قوة الناس إذا تحركوا، وهى القوة التى لايغلبها غلاب، مهما تعاظمت قوة وتحصينات الحراس.
 
ونتصور أنه لا بد من برنامج تصحيح عاجل، يستمع إلى ما يريده الشعب، ويبنى على جوانب الصحة فى الوضع الراهن، فمكافحة الإرهاب تجرى بوتيرة معقولة، ومصر تواصل تضحياتها البطولية، والإرهاب مهزوم لا محالة فى مصر، ولا أحد عاقل يتعاطف مع جماعات الإرهاب، لا فى الفكر ولا فى السلوك، لكن خطر الإرهاب يظل هو المصيبة الأصغر، ولا تقارن إلى مصيبة أعظم اسمها «الفساد»، والتسمية ذاتها قد تنطوى ضمنا على تواطؤ وتدليل، فما جرى ويجرى فى مصر، لا تفى بوصفه كلمة «الفساد» الهينة المراوغة، بل هو النهب والشفط وابتلاع البلد، وقد قال الرئيس مؤخرا إن خطر الفساد يساوى خطر الإرهاب، وهو إدراك أفضل عن ذى قبل، وإن كان لا يرقى إلى تصور حجم الخطر الحقيقى، فلا شىء أخطر من امبراطورية الفساد والنهب فى مصر، التى نخرت بدن الدولة، وأصابتها بالإيدز القاتل، وبددت الثقة العامة، وانحطت بكفاءة الأداء، وجعلت المشهد كله أقرب إلى حطام وركام، وليس إلى نظام مفهوم، دعك عن أن يكون مقبولا، وقد لا ينكر أحد جهودا تجرى فى الحرب على الفساد، من نوع تكليف «لجنة استرداد أراضى» استعادت بضع مئات من ملايين الجنيهات، وتكليف «جهاز الرقابة الإدارية»، وإطلاق يده فى العمل، وبحيث لم يعد يمر يوم، دون كشف قضية رشوة كبرى، أو خراب ذمم ومعاملات، لا يستثنى جهازا إداريا ولا قضائيا ولا أمنيا، وكل ذلك جهد هائل مقدر، لكنه يضرب فى الأطراف، ولا يوجه الطعنة القاتلة إلى قلب امبراطورية الفساد، فالضربات المتناثرة لا تقتل الفساد، والضربة التى لا تقتل كيانا تقويه، وتدفعه إلى تنويع أساليبه، والمرتشون ليسوا سوى نتوءات ظاهرة من جبل الفساد الغاطس، فالفساد فى مصر نظام ومؤسسة وأسلوب حياة، ويملك نواصى التحكم والتشريع، والفاسدون الكبار يغطون جرائمهم من وراء عبارات فخيمة، ومن نوع اعتبارات حماية الأمن القومى (!)، وهو ما يعنى ببساطة، أن غارات الرقابة الإدارية لا تكفى، والمطلوب إعلان حرب شاملة، تشرك الناس فيها، وتكنس البلد والدولة، وتقرر عقوبة الإعدام للفاسدين، وتدير «مذبحة مماليك» حقيقية، وحملة تطهير وإقالات وإحالات كبار المسئولين للتقاعد، وهو ما يحتاج إلى قرار وإرادة سياسية ذات عمق شعبى، وليس بعيدا عنا ما يجرى فى العالم من حولنا، وحروب الشعوب ضد الفساد، وعلى نحو ما جرى فى إطاحة رءوس كبرى من «كوريا الجنوبية» إلى «البرازيل» و «رومانيا» وغيرها، وفى وقائع فساد صغيرة، إذا ما قيست إلى فحش النهب بالمليارات والتريليونات فى مصر.
 
وكنس الفاسدين قد لا يكفى وحده، بل لابد معه من كنس السياسات الفاسدة، من نوع العودة إلى تجريب المجرب المخرب، وإهلاك غالبية المصريين باسم برنامج الإصلاح الاقتصادى، واستسهال التجبر على الفقراء والطبقات الوسطى، وتحميلهم وحدهم تكاليف وفواتير إنقاذ الاقتصاد المنهك، وحرق سواد المصريين فى أفران الغلاء، وبدعوى توفير تكلفة دعم الطاقة ودعم السلع الأساسية، والوفاء بشروط صندوق النقد الدولى، وهو ما قد يصح أن يتوقف فورا، وأن يلغى ما تبقى من برامج إلغاء الدعم وإشعال الأسعار، ومراكمة الديون والقروض الخارجية، والمضاعفة الفعلية لعجز الموازنة الذى يزعمون خفضه، وهى سياسة بائسة، تؤدى عمليا إلى هلاك أغلب المصريين، وإلى تحطيم ما تبقى من حصانة الاقتصاد المصرى، والعودة إلى جرائم وخطايا الخصخصة  و«المصمصة»، وقد سبق لمصر أن جربت ما يسمونه «الدواء المر»، وثبت أنه سم وليس دواء، يتنصل منه الآن صندوق النقد الدولى نفسه، ويتحايل لإثبات براءته من آثاره المفزعة، فقد قال الصندوق إنه لم يتوقع هلاك الجنيه المصرى على النحو الذى جرى بعد التعويم، وقال إنه طالب الحكومة المصرية بإعادة فرض الضريبة على الأرباح الرأسمالية فى البورصة، وهو ما لم تجرؤ على فعله، بل وجمدت قانون ضريبة البورصة الذى أصدره الرئيس شخصيا، وألغت قانون الضريبة الاجتماعية الذى أصدره الرئيس أيضا، وتتراجع الآن عن دمغة الواحد فى الألف التى كانت مفروضة على تعاملات البورصة، وهو ما يبرز طبيعة القوة المتحكمة فى اختيارات الاقتصاد، وهى طبقة الواحد بالمئة التى تملك نصف إجمالى الثروة المصرية، وترهب الحكم بما تملكه من امتيازات، وتفرض عليه سياسة مص دم الفقراء والطبقات الوسطى، وبدعوى توفير ضمانات محفزة للمستثمرين و «المستحمرين»، وهم طبقة مليارديرات النهب العام، وقد تحالفت من زمن المخلوع مبارك مع مماليك الفساد فى جهاز الدولة، وهو ما يفسر سياسة الحكم فى «النأى بالنفس» عن المساس بمصالح الكبار، والتخلف عن فرض الضريبة التصاعدية المعمول بها فى كل الدنيا الرأسمالية، أو إنهاء التهرب الضريبى، الذى تبلغ قيمته الرسمية سنويا نحو 400 مليار جنيه، أى أضعاف كل مبالغ الدعم التى يريدون التخفف منها، وتلك هى «أم المصائب»، فلا حل فى مصر بغير التصنيع الشامل، وتعزيز موارد الدولة، بكنس الفساد، وإقرار قواعد العدالة الاجتماعية، وخلق اقتصاد إنتاجى، وبناء قوة مركزية، تتكامل فيها الصناعات الحربية مع الصناعات المدنية، وهو ما يجرى العمل به جزئيا، وإن كان فى حاجة إلى التحول لاختيار نهائى، يكسب به الحكم ثقة الناس المتداعية، ويصالح به أغلبية المصريين من الفقراء والطبقات الوسطى، قبل أن تقع «الفاس فى الراس»، وتتداعى وقتها قوة الحراس.
 
والكرة الآن فى ملعب الرئيس السيسى.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق