من رحيق اللغة «المنوفية فى شعر شوقى»

الثلاثاء، 11 أبريل 2017 10:58 ص
من رحيق اللغة «المنوفية فى شعر شوقى»
كمال الهلباوي يكتب

«قل للسَّراة المنوفيين لابرحوا *** للفضل أهلا؛ وللخيرات عنوانا». 
 
كلما أسمعت أحد المنوفيين؛ هذا البيت الرائع لأمير الشعراء؛ إلا واهتز طربا ونشوة؛ وانتابته حالة من الخيلاء الوطنية؛ بعراقة الأصل؛ ونباهة المحتد.
 
ففى سنة 1892؛ اتفق جماعة من كبار ملاك المنوفية؛ على التبرع بأطيان كثيرة؛ وأوقفوها لجمعية المساعى المشكورة بشبين الكوم؛ حيث لم يكن بالمنوفية حتى أواخر القرن التاسع عشر؛ مؤسسات تعليمية سوى الكتاتيب؛ التى تؤهل للالتحاق بالأزهر الشريف، ومدرسة ابتدائية وحيدة؛ تابعة لمجلس مديرية شبين الكوم؛ لم تكن تكفى لنشر التعليم فى ربوع المحافظة؛ فكان يشق على التلاميذ الانتقال إلى مقر تلك المدرسة وجعلوا الهدف من إنشائها؛ إتاحة العلم للكادحين؛ الذين يستحيل عليهم الاغتراب؛ طلبا للعلم، حيث كانت الدواب؛ الوسيلة الوحيدة للتنقل؛ حتى منتصف القرن العشرين.
 
وقامت الجمعية بإنشاء مدرسة ابتدائية فى عاصمة كل مركز من المراكزالخمسة، وعبرت الجمعية عن وعى رشيد غير مسبوق؛ حين افتتحت مدرسة البنات الابتدائية بشبين الكوم 1899 فى مجتمع ريفى تحكمه تقاليد صارمة؛ تحد كثيرا من حركة الفتيات، فكانت المدرسة الثانية لتعليم الفتيات فى مصر كلها بعد المدرسة السنية؛ التى أنشأها الخديو إسماعيل؛ بحى السيدة زينب بالقاهرة. 
 
وفى عام 1904 افتتحت الجمعية؛ مدرستها الثانوية للبنين؛ بمدينة شبين الكوم؛ لاستقبال تلاميذ المدارس الابتدائية الخمس؛ التابعة لها، فكانت هذه المدرسة هى الخامسة على مستوى البلاد؛ وكان لها دور بارز فى تأهيل المتميزين من طلابها للالتحاق بالجامعة المصرية؛ وقد بلغت نسبة التلاميذ عام 1907 فى مدارس الجمعية الابتدائية 15% من مجموع تلاميذ مصر؛ وبلغت نسبة التعليم فى المدرسة الثانوية 11% من مجموع الطلبة فى مدارس مصر كلها، كما هو مُثبت بسجلات الجمعية. 
 
وفى عام 1994 كان لى لقاء بالمستشار الجليل حامد عبدالدايم؛ بمكتب الأستاذ سيد وهبى رائد الصحافة الإقليمية بجريدة «الناس» بطنطا -رحمهما الله؛ وعلمت منه عزمه الأكيد أن يعيد للجمعية؛ سيرتها الأولى فى نشر الوعى العلمى والثقافى؛ بصورة تساير الحاضر مع المحافظة على عراقة الماضى؛ وقد وفقه الله توفيقا لانظير له؛ وحينما علم أننى من المنوفية؛ التى كان يعتز بها كثيرا؛ انبسطت أساريره؛ وتبادلنا أطراف الحديث؛ وذكرت له؛ أننى أثناء وجودى باليمن السعيد؛ حفظت قصيدة لأمير الشعراء؛ فى مدح مؤسسى الجمعية؛ ففرح فرحا شديدا؛ لكنه أخبرنى أنها ليست بالشوقيات؛ فأخبرته بأنها بالشوقيات المجهولة؛ لمحمد صبرى السوربونى؛ طبعة بيروت.. فلم يهنأ له بال حتى ظفر بها؛ وعلقها فى برواز ثمين؛ بمكان بارز بالجمعية. 
 
وكان أول رئيس للجمعية؛ محمود باشا أبوحسين -رحمه الله- أقدم وأول برلمانى بمركز تلا - منوفية؛ 1892؛ وجد اللواء محروس أبوحسين أحد أبرز أبطال أكتوبر؛ وقائد سلاح الإشارة بها؛ والمحافظ السابق؛ والد البرلمانى الراقى المهندس برهان أبوحسين، ثم تبعه المرحوم عبدالعزيز باشا فهمى1923 وزير الحقانية؛ أول من ابتدع بعض التعبيرات التى صارت من ثوابت المصطلحات القضائية؛ كتعبير «أوجه النفى للدلالة على أسباب الطعن»؛ ومؤسس محكمة النقض؛ حيث استقى اسمها؛ من الآية الكريمة «وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا»، ثم تبعه المرحوم محمد علوى بك الجزار الوطنى الشريف الغيور 1936 ثم تبعه المرحوم أحمد باشا عبدالغفار 1956 الذى كان وزيرا للزراعة والرى؛ ثم الأشغال؛ وله مواقف وطنية؛ ضد مُخصصات الملك فؤاد والخديو فاروق؛ ثم موقفه من سعد زغلول؛ الذى يلخصه قوله: سعد زغلول يطلب منا الإخلاص لشخصه؛ وما كنا للأشخاص عابدين.. وهو الذى توسط للزعيم السادات؛ لدخول الكلية الحربية، ثم آلت الجمعية للدولة؛ ثم عادت وأُنشئت مدرسة المساعى الخاصة فى أوائل التسعينيات؛ وما زالت تؤدى رسالتها السامية؛ لمصر والعرب بل وللعالم أجمع؛ حيث يتولى مجلس إدارتها الآن؛ الوزيرالسابق النابه د. صفوت النحاس. 
 
 يقول شوقى: 
كان شعرى الغناء فى فرح الشرق وكان العزاء فى أحزانه - وبالفعل كان شعره معبرا بصدق عن فرح المنوفية بتأسيس جمعية المساعى المشكورة؛ حيث أُقيم احتفال مهيب؛ بدار الأوبرا الملكية؛ بتلك المناسبة النبيلة؛ وأرسل لهم أمير الشعراء؛ بدرة ثمينة من درره الشعرية؛ تلائم شرف المقام ونبل المقصد؛ فألقيت بالحفل؛ ولاقت احتفاء واستحسانا واسعين. وتلكمُ معزوفة شوقى المتفردة المغردة بمآثر يالها من مآثرَ!
العلم والبر هذا مهرجانهما *** فى ظل دار تناغى النجم أركانا
فقم إلى منبر التاريخ محتفلا *** فقد تضوّع كالعودين ريحانا
واجز الجزيل من المجهود تكرمة *** واجز الجزيل من الموهوب شكرانا
فى محفل نظمت دار الجلال به *** نظم الفرائد أفرادا وأعيانا
لما تألف عقدا قال قائله *** يصوغ للمحسنين الحمد تيجانا
أثاره الحق حتى قام ممتدحا *** كما أثار رسول الله حسانا
عز الشعوب بعلم تستقل به *** يا ذل شعب عليه العلم قد هانا
فعلموا الناس إن رمتم فلاحهم *** إن الفلاح قرين العلم مذ كانا
لا تُطر حيا ولا ميتا وإن كرما *** حتى ترى لهما بالخلق إحسانا
ليس الغِنى لفتى الأقوام منبهة *** إذا المكارم لم ترفع له شانا
وإن أبرك مال أنت تاركه *** مال تُورِّثه قوما وأوطانا
سل الأُلى ضيع الضيعات وارثهم *** هل يملكون ببطن الأرض فدانا
قل للسراة المنوفيين لا برحوا *** للفضل أهلا وللخيرات عنوانا
يا أفضل الناس فى الإيثار سابقة *** وأحسن الناس فى الإحسان بنيانا
وهبتمو هِبة للعلم ما تركت *** بالبائسين ولا الأيتام حرمانا
قلدتمو المعهد المشكور عارفة *** لم يألها لكم التعليم عرفانا
يد على العلم يمضى فى إذاعتها *** حتى تسير بها الأجيال ركبانا
بيضاء فى يومه خضراء فى غده *** إذا هى انبسطت فى الأرض أفنانا 
لم يترك شوقى مناسبة وطنية؛ إلا كان شعره معبرا بصدق؛ عن أفراحه وأتراحه.
ولم تكن أيام المنوفية أفراحا متصلة؛ ففى 13 يونيه 1906 وقعت حادثة دنشواى الدامية؛ كآخر فظائع اللورد كرومر بمصر؛ وأول صرخة مدوية ولطمة على وجه الغاصب؛ وكانت سببا فى غياب الشمس عن الإمبراطورية التى لا تغيب عنها الشمس؛ حيث حذر الأديب «برنارد شو»، من مأساة دنشواى قائلا: إننى أخشى على الإمبراطورية أنها بتصرفاتها هذه لن يكتب لها غير الزوال.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق