«صوت الأمة» أول صحيفة مصرية على خط النار فى العراق

الثلاثاء، 23 مايو 2017 11:00 ص
«صوت الأمة» أول صحيفة مصرية على خط النار فى العراق
داعش في الموصل
رسالة الموصل السيد عبدالفتاح

Untitled-1
 
عندما لمست قدماى أرض الموصل، تأكدت مجددا من أن بلاد الرافدين ليست أرض الأساطير، إنها أرض الحقائق المؤلمة، حقائق فرضها غياب الدولة وحضور العشيرة، البلاد التى كانت عاصمة الدنيا وأم الزمان تهاوت تحت معاول الأطماع الداخلية والخارجية، تبعثرت الوحدة وحلت الفوضى، ثم جاء تنظيم داعش بوحشيته وهمجيته ليخط سطرا جديدا فى بلد هو بالأساس يحترف الحزن. وجود داعش وغيره من الجماعات المسلحة، جعل من أرض الموصل، بل والعراق كله، فخا متحركا يصطاد بعشوائية كل مَن يقترب منه، مغامرة الوجود فى تلك الأنحاء تعلو حتى تصل إلى سقف المخاطرة، بل المقامرة، فقد يصطادك الفخ المجهول بعد خطوة، فتعرف أنك قد أصبحت فى قبضة القتل ولكنك لن تعرف لك قاتلا. ما ستطالعه فى سطورى القادمة ليس إلا قطرة من بحر، وغيض من فيض، فكل البلاغة ستقف عاجزة عن تقديم صورة الذل التى تكسو وجوه أبناء العز.
 
لن أطيل المقدمة، ولكن ضع فى ذهنك وأنت تقرأ تفاصيل رحلتى ما قاله نزار قبانى: 
«من جرّب الكى لا ينسى مواجعه.. ومن رأى السمع لا يشقى كمن شربا».

 

يوسف «حلاق»عاقبه الدواعش بـ30 جلدة لاستخدامه «الفتلة»

التنظيم حرّم تسوية اللحية و«القصات».. وبعضهم يشربون الخمر.. وتعرّفت على داعشى من بورسعيد

يوسف وقف فى صالونه بحى الشرطة بالجانب الأيسر، يمارس عمله فى سعادة، فهو يرى أن المهنة ليست مجرد «قص» شعر فقط، كما يتصور الدواعش، وإنما هى فن.
 
«لقد كنا نعيش فى جحيم».. بهذه الجملة بدأ يوسف حديثه معنا، موضحا أن الدواعش فرضوا عليه عددا من «المحرمات»، فتسوية اللحية ممنوعة، وعمل «القصات» محرم، والأشد حرمة هو استخدام «الفتلة»، الحلاقة إما على «الزيرو» أو يُترك الشعر طويلا. 
 
 
وكيف تكون حلاقة هذه؟ يتعجب يوسف، لكنه يرضى بالأمر الواقع مخافة «عصا» داعش أو بالأحرى «كرباجه»، فعقوبة مخالفة هذه التعليمات هى الجلد.
 
تعرضت للجلد مرتين، يؤكد يوسف موضحا أن الأولى بسبب التدخين، والثانية بعد ضبطه متلبسا بعمل «فتلة» لزبون. 
 
يقول يوسف: «هم دائما كانوا يتجولون فى الشوارع والمحال للمراقبة مثل الرادار «رايحين جايين»، وأنا عندما أقوم بعمل «فتلة» أطلب من أحد أصدقائى أن يراقب الطريق حتى لا نُفاجأ بأحد الدواعش ممن يروحون ويجيئون فى الشوارع، وفى هذه المرة صديقى ما انتبه عليهم، ففوجئت بواحد منهم يدخل على المحل ويلزمنى، ثم يصطحبنى إلى المركز الذى كان كنيسة حولوها إلى مركز لتنفيذ الحدود، وهناك عرضونى على القاضى فعاقبنى بعقوبة «نامص» وهى ثلاثين جلدة.
 
على أن هذه الصرامة فى تطبيق التعليمات لم تكن إلا فى مواجهة المواطنين، ويتم التجاوز عنها إذا كان الجانى «واحد مننا» يعنى داعشى، وهذا ما كان يوسف شاهدا عليه، فذات يوم حضر إلى محله أحدهم، ومعه أبوه وأخوه، وعندما جلس قال إنه عريس ويريد يزين ويحدد اللحية، وطلب من يوسف أن يسوى خيط «فتلة»، فقال له: هذا ممنوع، دولتكم ما تقبل، فرد الداعشى: ما يخاف، فاضطر يوسف لتنفيذ رغبة الداعشى الذى طلب منه أن يسوى له حواجبه، فقال له : ما يصير، لأنهم إذا شافونى أتأذى، قال: لا لا تخف. ففعل له كل ما طلب مثل ما كان يفعل قبل ظهور داعش مع أى زبون عريس.
 
وليست الحلاقة فقط التى بها «خيار وفقوس»، حيث يكشف يوسف أن أكثرية عناصر داعش «مدخنين»، وكانوا يستولون على السجائر من المواطنين ويدخنونها، أو يعيدون بيعها للناس، وإذا كان يتم ضبط أحدهم وهو يدخن أو يبيع السجائر كان زملاؤه يعملون كأنهم لم يروه! هكذا يؤكد يوسف مضيفا: «وليس التدخين فقط، فمنهم من كانوا يسكرون ويشربون الخمر، فبعد سيطرتهم على المدينة، صادروا الخمور الموجودة فى بعض المحال، وبعد تحرير أجزاء من مدينة الموصل اكتشفنا زجاجات الخمور فى بيوتهم وصور ومقاطع فيديو على موبايلاتهم وهم يسكرون».
 
ورغم أن يوسف ترك مهنته بسبب «محرمات» داعش، فإنها لاحقته مع عمله الجديد كسائق تاكسى، ومنها تحريم ركوب المرأة بغير محرم، وفى حالة المخالفة يتم جلد السائق ومعه الزوج.
 
ويقول يوسف إن الدواعش كانوا من جميع الجنسيات. ورأيت عددا كبيرا من المصريين كانوا بين صفوف داعش فى الموصل، متذكرا أحدهم، وهو من بورسعيد، عرفه من لهجته المصرية ذات الشعبية فى العراق، وكان يوسف وقتها يقف بسيارته التاكسى لتحميلها، عندما وجد أحد الدواعش يتحدث باللهجة المصرية، «فسألته: هل أنت مصرى؟ فأجاب: نعم. قلت له من أين؟ فأخبرنى أنه من بورسعيد، وأنه جاء مع الدواعش من سوريا، حيث كان هناك «يجاهد» فى سبيل الله على حسب ما أخبرنى». 
 
يوسف اعاد افتتاح محله بعد تحرير المدينة

 

قوائم اغتيال ضد رجال الجيش والشرطة والإعلاميين والبرلمانيين

رغم عودة الحياة إلى طبيعتها إلى حد ما فى الجانب الأيسر من الموصل، الذى تم تحريره نهائيا من داعش، فإن التجول فيه ليس أمرا مضمونا، فما زالت الأوضاع فى «حالة الريبة»، كما أن الخلايا النائمة تثير قلق وخوف المواطنين والأجهزة الأمنية، لكن الأمر صار أكثر يسرا بعدما تعرّفت على الناشط والباحث الحقوقى «فراس الحمداني» الموصلى، والذى صحبنى فى جولات بالشوارع ورتب لى لقاءات مع بعض الأهالى الذين تحدثوا بكل اطمئنان لأننى صديقه.
 
«فراس» اضطر إلى النجاة بنفسه وأسرته واختار العيش فى مدينة أربيل، بعدما استولى التنظيم الإرهابى على منزله، لكونه ناشطا حقوقيا وإعلاميا، ما جعله هدفا لعناصر التنظيم.
 
يعود «فراس» بالذاكرة إلى الأيام الأولى لظهور داعش، موضحا أن التنظيم دخل الموصل من ناحية الحدود السورية، وكان هناك مَن ينتظرهم ويتبعهم فى الداخل، وكانوا لا يتجاوزون المئات فى البداية، لكنهم تقدموا بشكل سريع وهذا أمر غريب فى الحقيقة.
 
ويؤكد: «داعش» دخل فى غفلة من الزمان وتخاذل من الجيش، والمالكى رئيس الوزراء السابق له دور كبير فى تسليم الموصل للتنظيم الذى استفاد من الزج بالجيش العراقى فى أمور جلبت عليه غضب المواطنين، وكذلك فإن أغلب عناصر الجيش والشرطة فى الموصل كانوا من محافظات الجنوب، وأغلبهم يقول إنهم يجيئون فقط من أجل الراتب وليس عن اقتناع ووطنية، ولذلك كثير منهم لم يقاتل وهرب لينجو بحياته.
 
كل هذه العوامل، حسبما يرى «فراس» ساعدت التنظيم على مزيد من السيطرة والنمو، مثل كرة الثلج كلما تسير تكبر، فقد استولى على أسلحة الجيش والشرطة، وكان عنده بعض الناس تنتظره كحواضن، والبعض كان مقتنعا به ومخدوعا ويرى أنه المخلّص لهم من الطائفية والتهميش. وكان هناك ناس نكاية فى الجيش الطائفى والحكومة الطائفية ساعدوا داعش وانضموا إليه، وفى البداية استقبلوهم بترحيب وسعادة وفرحة، والتنظيم حرص فى الفترة الأولى على إبراز الوجه الحسن للمواطنين، حتى أن بعض الذين لم يؤيدوه فى البداية صاروا يحكون أن الوضع تحسن فى وجوده، وهناك أمن وأمان ورخاء وانتظام فى العمل بالمؤسسات والدوائر الرسمية والخدمات، وفى رأيى هذا راجع إلى طبيعة المواطن العربى الذى يلتزم ويعمل فى ظل الأنظمة القوية المسيطرة، وهذا ما حدث مع داعش. 
 
لكن الوجه الحقيقى لداعش بدأ يظهر يستطرد فراس - وكان المنعطف الحقيقى لذلك عندما هجّروا المسيحيين وغيرهم من الأقليات، وفجّروا الجوامع ومنها جامع النبى يونس والنبى جرجيس وشيت، على أساس أنها حرام وبها أضرحة ومقامات، وخيّروا المسيحيين إما الدخول فى الإسلام أو دفع الجزية أو الخروج من المدينة، واستولوا على أموالهم، فلا يخرج المسيحى إلا بملابسه فقط، وصارت عمليات وحشية وقتل للمسيحيين. 
 
ويواصل: فى نفس الوقت تعرضت المكونات الأخرى غير المسلمين السُّنة، مثل الشيعة والتركمان والشبك الشيعة، إلى قتل ونهب وسلب ممتلكات وتهجير، وكثير منهم توقع ما سيتعرضون له على يد داعش، فهربوا.
 
حتى العرب السُّنة - يؤكد فراس - الكثير منهم هرب قبل أن يُحِكم التنظيم سيطرته. 
 
ويبدو أن داعش جاء ومعه قوائم لتصفية فئات معينة، فكما قال فراس: التنظيم بدأ تصفية المنتسبين للأجهزة الأمنية والجيش، ووجّه لهم دعوات من المساجد بإعلان التوبة وتسليم سلاحهم ليكونوا فى مأمن، فسارعوا إلى ذلك وسجلوا عناوينهم وتليفوناتهم، بعدها صار يصفيهم تباعا، وبعد هؤلاء بدأ يبحث عن الذين كانوا مرشحين فى الانتخابات، وكل مَن له علاقة بالأحزاب، وكان يستهدف التجار والأطباء والصحفيين والإعلاميين والمحامين.
 
وبمرارة يقول فراس: إن أكثر الأمور المستهدفة من التنظيم هى الحضارة والثقافة، دمّروا المتاحف الموجودة بالموصل، وهى كثيرة، نظرا لأن نينوى معروفة فى التاريخ بالحضارات المتعددة الأشورية والبابلية وغيرهما، وأحرقوا المكتبة المركزية ومكتبة الجامعة، وغيّروا المناهج الدراسية كلها، وكان هناك تقييد للحريات ومنع، حتى مراسم العزاء المعتادة كانوا يمنعونها مطلقا. 
 
وعن أحوال عناصر التنظيم مع انطلاق عملية تحرير الموصل، أوضح أنهم يعتقدون أن الموصل ملجأهم الأخير، ولهذا يقاتلون بشراسة، وزادت ممارساتهم العدائية ضد المواطنين، واستخدموهم دروعا بشرية، وأعدموا الذين يرفضون تنفيذ الأوامر.
 
يقول فراس: فى الجانب الأيسر كان التنظيم يُجبر الناس على الخروج من بيوتهم والمدينة، لكن فى الجانب الأيمن اتخذهم دروعا بشرية، وصادر كثيرا من البيوت ليحفر أنفاقا دفاعية بين البيوت وشوارع المدينة، يستخدمها فى الهجوم على القوات العراقية.
 
يتابع «فراس» أحوال أقاربه وأصدقائه فى الجانب الأيمن الذى تدور فيه معارك طاحنة، مؤكدا أنهم يعيشون أوضاعا مأساوية، فالتنظيم ازداد وحشية وقسوة، وغيّر استراتيجته، حيث يدخلون بيتا ويُجبرون أهله أن يبقوا معهم كدروع بشرية.
 
المحرر مع المحامى فراس الحمدانى
 
أبو محمد: ضبطونى متلبسا بمشاهدة مسلسل «باب الحارة» فجلدونى
 
«كنا نعيش فى جحيم».. عبارة يؤكدها لك كل من تتحدث معه من أهل الموصل، واصفين حياتهم تحت حكم داعش ودولته الإسلامية المزعومة، كل شىء ممنوع وحرام بداية من السيجارة والموبايل والستالايت مروراً بمشاهدة المسلسلات ومباريات كرة القدم، وصولاً إلى الاختلاط بين الجنسين والمناهج التعليمية وغيرها.
 
لكن أبو محمد وهو اسم مستعار اختاره محدثنا مخافة الخلايا النائمة التى أكد أنها موجودة فى المدينة كان متمرداً على «محرمات» داعش ما عرّضه للعقاب 12 مرة سواء بالجلد أو حفر مقابر، بسبب التدخين، لكن الطريف أنه تعرض للجلد بعدما «ضبطوه متلبساً» بمشاهدة مسلسل باب الحارة فى محله حيث يعمل صائغاًّ.
 
يتلذذ أبو محمد بالتدخين وهو يقص علينا كيف كانت الحياة فى الموصل طوال السنوات الثلاث الماضية، والتى بدأوها بمعاملة الناس بـ«طريقة زينة» حتى يكسبوا محبتهم، وكانوا يقولون إنهم يقاتلون الحكومة الشيعية التى تظلم أهل السنة، لكن بعدما استقرت لهم الأمور «داروا العكس بالعكس» صاروا يؤذون الناس ويعاقبونهم على أقل القليل حتى لو سيجارة، وصار كل شئ ممنوعاً، وفرضوا أموراً كثيرة على الناس، منها اللحية على الرجال والنقاب على السيدات، ومن لا يلتزم «يجلد على طول».
 
ويواصل أبو محمد: كانوا يمشون فى الشوارع 24 ساعة، وإذا وجدوا شخصاً يدخن يأخذوه ويجلدوه فى كنيسة استولوا عليها وحطموا كل الصلبان والتماثيل فيها، ويكتب تعهداً على نفسه بعدم تكرار هذا الفعل. ويوم الجمعة عقب الصلاة كان مخصصاً لتنفيذ الحدود علناً فى الشارع.
 
يعدد أبو محمد قائمة الممنوعات فيقول: لقد منعوا كل شىء، الدش والموبايل، إذا ضبطوا معك شريحة موبايل يعدومك رأساً خاصة فى الفترة الأخيرة قبل بدء معركة الموصل، يشكون أنك عميل للأجهزة الأمنية والجيش. أما الستالايت فبعد سنة من سيطرتهم على الموصل كانوا ينزعون الأطباق ويقولون هذا شيطان، والبيت الذى به دش يسمونه بيت الشيطان، أغلقوا محلات بيع الدش وصيانته والموبايل وأجبروا أصحابها على تغيير النشاط، أما محلات النترنت والكمبيوتر ففى البداية كانوا يراقبونها، لكن فى آخر ستة شهور منعوها نهائياً.
 
رغم كل هذه الممنوعات فإن ما كان يغضب أبو محمد هو تحريم السجائر، فقد منعوا بيعها، ما جعله وغيره يلجأون إلى الحصول عليها سراً من خلال التهريب، وكانوا يدخنون فى بيوتهم فقط، وإذا عرف الدواعش أن شخصاً يدخن فى بيته يقتحموه ويجلدوه.
 
ويحكى أنه كاد يفقد حياته فى إحدى المرات على يد داعشى شيشانى فاجأه وهو يدخن فى محله فصرخ «دخان دخان» وأشهر المسدس فى وجهه يريد قتله، ولم يتراجع إلا عندما وجد ابنته تصرخ وتبكى خوفاً على والدها. 
 
وعن عمله كبائع مجوهرات أوضح أنهم حرموا عليه بيع الذهب للرجال، وإذا وجدوا ذهباً يُباع أو يرتديه الرجال تتم مصادرته رأساً، ويجوز يخمصون عليه أصابعه. 
 
وبحكم خبرته فى تلقى العقوبات الداعشية يذكر لنا أبو محمد أشهر العقوبات أو الحدود التى عرفها الموصليون فى عهد داعش، وأشهرها الجلد، وفى القتل يكون هناك قاض يحكم فى القضية ويكون الحكم القصاص أى القتل والإعدام، وعقوبة اللواط الإلقاء من فوق أعلى بناية فى المنطقة، أما الزانى فإذا لم يكن متزوجاً يُجلد مائة جلدة، وإذا كان متزوجاً يُرجم بالحجارة. 
 
الجلد وحفر قبر للمدخنين

«حمام العليل» وليالى الأنس حولها الدواعش إلى «أطلال»

قبل سنوات إذا زرت مدينة الموصل، ولم تمر على «حمام العليل» سواء للاستمتاع أو للاستشفاء والعلاج، فأنت حتما لم تزر المدينة، أما فى سنوات الظلام والعقاب التى جثم فيها تنظيم داعش على المدينة، وفقدت ناحية «حمام العليل» جمالها وبهاءها كونها واحدة من أهم الأماكن فى العالم التى بها مياه كبريتية ومعدنية يقصدها مرضى المفاصل والأمراض الجلدية.
 
 
المياه الكبريتية (1)
 
فى طريقى إلى الجانب الأيمن للموصل، أخبرنى «أحمد الجاف»، الذى رافقته فى زيارة جبهات القتال المستعرة بالجانب الأيمن، وكان له دور كبير ومهم فى تسهيل مهمتى، أننا سنمر على ناحية حمام العليل، وعدد لى مزاياها، وكيف كانت مقصدا لكل العراقيين للاستجمام والسياحة ومنتجعا طبيا على مدار العام.
 
تقع «حمام العليل» أو«حمام على» حسب اللهجة العامية الموصلية نسبة إلى سيدنا على بن الحسين، جنوب الموصل على بعد 20 كم تقريبا، وتمتاز علاوة على ما سبق بمواقع تراثية وأثرية.
 
سميت بـ «حمام العليل»، نسبة إلى المياه الكبريتية التى تشفى «العليل» من الأمراض الجلدية، وكانت تمتاز الناحية، كما ذكر «فراس الحمدانى» بالأراضى الزراعية التى تشكل النسبة الأكبر من مساحتها، حيث تتوزع بساتين الرقى والبطيخ وأصناف الفواكه والخضراوات على جانبى نهر دجلة الذى يخترق جهتها الشرقية، ويجرى نقل الفائض عن الحاجة المحلية إلى أسواق الموصل، أما الآن يقول فراس فكل شىء تغير ولم يعد كما كان فى ظل سيطرة تنظيم داعش الإرهابى على المدينة، وفرضه نمطا غريبا للحياة لم يكن يتناسب مع طبيعة أهل الناحية الذين اعتادوا على حياة ممتعة منفتحة وعلى العمل فى مجال السياحة، لكن الدواعش جاءوا فحرموا هذه الأعمال، وأغلقوا الكازينوهات والمتنزهات التى كانت تنتشر على ضفاف نهر دجلة وكورنيش النهر، وأهملوا الأشجار ومزارع الفاكهة التى كانت تميز المنطقة وتزيد جمالها. 
 
المياه الكبريتية (2)
 
كلمات «فراس» التى كانت تصف عالما اعتبرته مجرد أحلام، حيث لم تر عينى إلا «أطلال» لسان حالها يقول «لم أكن هكذا من قبل، لعنة الله على من فعل به هذا»، مجرد بقايا ذكريات حاول «فراس» اجترارها لـ «تجميل الصورة» الكئيبة التى فرضت نفسها حتى بعد رحيل داعش، ورغم محاولات حثيثة من أبناء الناحية لإعادة الحياة إلى ما كانت عليه، حيث كانت فنادق المنطقة تعج بالنزلاء، وكذلك الخانات والمطاعم والكازينوهات.
 
يذكر «فراس» أن حمام العليل من أشهر وأكثر حمامات الدنيا من ناحية المياه المعدنية التى تخرج من ينابيع من داخل الأرض، وتتميز المياه بارتفاع درجة حرارتها، فالماء يخرج ذا غليان شديد، ومن أماكن مختلفة فى هذه المدينة المطلة على ضفاف نهر دجلة.
 
أغلب الذين عادوا لارتياد حمام العليل، هم من الجنود الذين جاءوا للاستحمام وجلسات تدليك تريحهم وأجسادهم من مجهود كبير يبذلونه فى المعارك، فيما جاء البعض ممن يعانون أمراضا مثل الصدفية بأنواعها والروماتيزم والمفاصل، فالمياه تساعد على التئام الجروح التى تصيب الجلد، وتعقم الجسم من الجراثيم وتريح العضلات والجسد المتعب.. أما فى عهد داعش فكان التنظيم يفرض على مرتادى الحمام الاحتشام، بارتداء ملابس تستر من السرة إلى الركبة، ولا يُسمح بارتداء قطعة واحدة «مايوه»، والعقاب لذلك هو الجلد، ومنعوا استخدام الحمام للاستجمام وقصروه على العلاج فقط.. أما فنادق وموتيلات المنتجع، فقد اعتاد الدواعش على الإقامة فيها ما جعلها هدفا لضربات طيران التحالف والطيران العراقى، ولم يبق منها إلا مجرد أطلال شاهدة على حياة كانت هنا.
 
المياه الكبريتية (3)


مأساة أبناء العاصمة الاقتصادية.. «متسولون» و«أذلة» فى المخيمات

فى شوارع وأسواق مدينة أربيل، لم يعد غريبا أن يستوقفك رجل أو امرأة، وفى أحيان كثيرة أطفال، أو يطرقون على زجاج نافذة سيارتك يطلبون «صدقة»، مرددين «فقير من الموصل»، وهى جملة استفزت كثيرا الأستاذ رجائى فايد، خبير الشئون العراقية، الذى آلمه أن يسمع هذه الجملة خلال فترة زيارته لإقليم كردستان، التى دار عنها حوار بيننا، ذكر لى فيه كيف كانت مدينة الموصل العاصمة الاقتصادية للعراق كله، وكيف كان أهل الموصل يتمتعون بحياة يحسدهم عليها أبناء المحافظات الأخرى، لكنهم الآن تحولوا إلى «متسولين» يجوبون شوارع مدينة أربيل الكردية التى استقبلت مئات الآلاف منهم، إما فى أحيائها أو فى مخيمات النازحين الكثيرة فيها.

 

وكتب فايد: لم أصدق أذنى فيما سمعت من الوهلة الأولى، وكررت المرأة الجملة من جديد (فقير من الموصل)، حينئذ أيقنت أن ما سمعته كان صحيحا، فالمرأة تستجدى، وتؤكد حاجتها للاستجداء بمقولتها أنها من الموصل، خبطت كفا بكف (لا حول ولا قوة بالله)، (ماذا جرى فى الدنيا حتى يصبح اسم الموصل مرادفا للفقر والعوز؟).

 

شخصيًا شاهدت ذلك بعينى وسمعته بأذنى أكثر من مرة خلال وجودى بمدينة أربيل، ولم أكن أقل حسرة وألما من أستاذى رجائى فايد. 

 

ما رأيته فى أربيل كان مجرد مقدمة بسيطة ومختصرة، حيث كنت على موعد مع المشاهد الأكثر مأساوية وتمزيقا للقلب وزيادة فى الحقد وصب اللعنات على «الدواعش» الذين إذا دخلوا بلدة أحرقوها ودمروها وجعلوا أعزة أهلها أذلة ومتسولين.

 

ووفقا للأرقام الصادرة عن منظمات إغاثية عراقية ودولية، فإن هناك نحو نصف مليون إنسان من الموصل فروا منها منذ بدء الجيش العراقى معركته الضخمة لتحرير المدينة من براثن التنظيم الإرهابى فى شهر أكتوبر الماضى، تحت وطأة المعارك المستعرة فى كل أحياء المدينة، ولم يكن أمام هؤلاء المدنيين إلا «الهروب بجلدهم» قاصدين أقرب المدن وهى أربيل.

 

أربيل استقبلت عشرات الآلاف من الموصليين، وأقامت لهم عددا من المخيمات منها مخيم ضخم فى منطقة «حسن شام»، وغيرها، وآخر على طريق الخازر، بينما فى الموصل نفسها هناك مخيم ضخم فى ناحية حمام العليل، ما زال يستقبل يوميا نازحين وهاربين جدد من لهيب المعارك من الجانب الأيمن للمدينة، تجاوزت أعدادهم نحو 20 ألف مدنى فى اليوم الواحد، ليصل إجمالى عدد النازحين إلى ما يقارب النصف مليون.

 

فى طريقنا إلى الموصل عن طريق محور الخازر وقبل وصولنا إلى قضاء الحمدانية، رأينا مخيما ضخما للنازحين، وآخر فى منطقة حسن شام يسمى بنفس الاسم، وبعد انتهاء جولتنا فى قضاء الحمدانية، اقترحت على «جيلان بوتان» مراسل قناة «كوردسات نيوز» الذى رافقنى ومعنا المصوران الصحفيان الإسبانيان، أن نزور أحد هذين المخيمين، فتوجهنا فى طريق عودتنا إلى مخيم حسن شام.

 

مخيم «حسن شام» أقامته المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، وكان المقرر أن يستوعب ما يقرب من 1800 أسرة أى نحو 11 ألف شخص، أقامت لهم نحو 950 خيمة، لكن الأعداد الضخمة المتوافدة يوميا من النازحين بما يقارب ثمانية آلاف شخص، دفع المفوضية ومعها بعض المنظمات الإغاثية الدولية والعربية والعراقية، إلى مضاعفة أعداد الخيام، ما زاد من مساحة المخيم، والذى بات يتسع لإقامة مدرسة ومراكز صحية وغيرها من الخدمات.

 

قبل أن ننزل من السيارة هالنا العدد الضخم للخيام وللنازحين الذين رغم حرارة الجو والشمس الشديدة، وجدناهم خارج الخيام، فسّرنا ذلك ربما بحرارة الجو الشديدة داخل الخيام، لكننا أضفنا سببا إلى ذلك بمجرد أن نزلنا من السيارة، حيث تصادف وجود إحدى المؤسسات الخيرية التى جاءت ومعها كميات ضخمة من المساعدات الغذائية ومياه الشرب وغيرها، وبدأت فى توزيعها على النازحين المقيمين فى المخيم، إلا أن الأمر لا يمكن أن يتم بسهولة ونظام مع هذه الأعداد الضخمة من النازحين والذين تزاحموا وتدافعوا بشدة للفوز بنصيب من هذه المساعدات، ما دفع القائمين على المخيم من الحراس والإداريين إلى إيقاف عملية التوزيع أكثر من مرة، والتصدى للنازحين بقوة لإجبارهم على الالتزام بالطوابير لاستلام المساعدات.

 

وقفت خارج المخيم أرصد وأوثق هذه اللحظات المؤلمة التى تصور ما يعانيه أبناء الموصل بسبب «داعش»، الذى حوّلهم إلى «نازحين» يتسولون المساعدات ويتقاتلون للفوز بها، ويقبلونها فى «مذلة» وضعف واستكانة ووجوه منكسرة، وكثير منهم يغالب دموعه أن تنهمر حزنا على ما صاروا إليه. ورغم ضخامة الأعداد داخل المخيم، فإن أعدادا كثيرة كانت تقف خارج الأسوار السلكية للمخيم، تنتظر أن «ترحمهم» إدارة المخيم وتقبلهم فيه. استمعت إلى غضبات بعضهم مما صاروا إليه، كانوا يصرخون نحوى قائلين «صور ما صرنا إليه، هكذا أصبحنا نتسول طعامنا، هكذا ضاعت كرامتنا، لقد كنا أصحاب عزة ومال ولكن أولاد الكلب الدواعش سووا فينا كده، لقد هربنا بحياتنا وأبنائنا، لكننا نعيش فى المخيمات حياة مثل الموت، لعنة الله على الدواعش الأنجاس».

 

ومهما كانت مهارتنا فى الكتابة للتعبير عن هذه المأساة التى يعيشها أهل الموصل، فإنها ستظل عاجزة عن الوصف الحقيقى لها، ربما تقوم الصورة بالواجب أفضل، لكنها كذلك تظل قاصرة فى أن تعبر بصدق وتنفذ إلى أعماق كل موصلى وجد نفسه «طريدا وذليلا» فى المخيمات.

ماسأة ابناء ا لعاصمة

 

وحشية داعش الإرهابى تذبح «الطاهرة» أكبر كنائس العراق

فى طريقى إلى الموصل للمرة الأولى، التقيت بالصديق الإعلامى الكردى «جيلان بوتان» فى بلدة خبات التابعة لمدينة أربيل، لندخل الموصل من جنوبها أى عن طريق محور الخازر، وكان بصحبتنا صحفيان إسبانيان شاب وفتاة يعملان فى وكالة إسبانية.
 
كان المقرر أن ندخل الموصل من قضاء الحمدانية الواقع شرق المدينة، والقضاء يضم عددا من البلدات والقرى، والحمدانية هى ثانى أكبر الأقضية فى العراق من حيث المساحة، إلا أننا علمنا بعد وصولنا إليه أن الفيضانات والسيول التى شهدتها المنطقة قبل يومين أصابت الجسور المتحركة المؤقتة التى أقامها الجيش العراقى للربط بين الجانبين الأيسر والأيمن للموصل بالضرر، ما أوقف استخدامها لحين إصلاحها، وبالتالى تأجلت زيارة الجانب الأيمن، فاصطحبنا «جيلان» فى جولة داخل قضاء الحمدانية الذى كان من أوائل المناطق التى حررها الجيش العراقى مع بداية انطلاق عمليته العسكرية الضخمة لتحرير الموصل. 
 
القضاء تقريبا تقطنه أغلبية من المسيحيين، وبعض المكونات الأقلية الأخرى، مررنا ببلدة كرمليس، وبعدها توجهنا إلى مركز القضاء، وهو بلدة قره قوش أو بغديدا، وفيها توقفنا لنرصد بالكاميرا حجم الدمار الذى شهدته كغيرها من ضحايا داعش، فحتى اليوم الذى رزناها فيه كانت البلدة مهجورة تماما من سكانها، اللهم إلا عددا قليلا جدا منهم، علاوة على عناصر الأجهزة الأمنية والسيطرات العسكرية.
 
البلدة السريانية الواقعة على بُعد نحو 32 كيلو مترا جنوب شرق مدينة الموصل، على الضفة الشرقية لنهر دجلة، الذى يشكل مع نهر الخازر المنطقة الجنوبية من سهل نينوى، وتتوسطها سبع كنائس وعدد من الأديرة التاريخية والتلال والمناطق الأثرية، باتت لا ترى عينك فيها إلا دمارا وتخريبا وسكونا قاتلا بعدما كانت تذخر بأهلها البالغ عددهم حوالى 80 ألف نسمة وفق تعداد عام 2014.
 
أوضح ما رصدناه كان الجريمة التى تعرضت لها كنيسة الطاهرة الكبرى، أكبر كنائس العراق، وعلى الرغم من التخريب الذى طال جميع كنائس البلدة الأخرى، فإن نصيب كنيسة الطاهرة كان الأوفر باعتبارها الشقيقة الكبرى.
 
صدمتنى الدهشة مما رأيت للمشهد الخارجى للكنيسة وما تعرضت له، كيف يكون هذا فعل بشر أكرمهم الله بأن خلقهم بشرا، لكن من يفعل هذا ببيوت الله وخلقه الأبرياء من جرائم تتعالى وتتسامى عن ارتكابها أكثر الحيوانات وحشية.
 
لكنى وبمجرد خطوتى الأولى داخل الكنيسة، أنعقد لسانى من الدهشة والألم، فما أفزعنى بالخارج ليس إلا جزء يسير مما رأيته من فظاعات وتدنيس إرهابى بربرى فى داخل الكنيسة، تم إحراق الكنيسة بالكامل، اللون الأسود «الهباب»، هو البطل فى هذا المشهد المأسوى، لقد عاث الدواعش فى الكنيسة فسادا وانتقاما بربريا صورته لهم عقولهم المريضة أنه لـ «مرضاة الله»، والله منه برئ وإسلامه ورسوله.
 
خربوا كل شىء ودمروه، لم يتركوا شيئا فى مكانه سواء المقاعد أو الشمعدانات والزخارف وأماكن القداس وغيرها، أحرقوا الكتب المقدسة ولوحات وتماثيل السيدة العذراء مريم وسيدنا المسيح وحوارييه.
 
وشوهوا ولوثوا الأعمدة والجدران بأسمائهم الكئيبة، فهذا أبو تراب، وذاك أبو عذاب وغيرها من الألقاب التى أساءت للإسلام والمسلمين والبشرية ولأصحابها الأصليين الأنقياء الذين لو بُعثوا من جديد لتنصلوا منها ولقاتلوهم على ماجلبوه لها من سوء السمعة.
 
كنيسة الطاهرة

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق