الماكرونيّة الفرنسية والجمهورية السادسة

الخميس، 22 يونيو 2017 12:21 م
 الماكرونيّة الفرنسية والجمهورية السادسة
بقلم د. حاتم العبد

ما الذي يحدث في فرنسا؟ ما هذا الذي نراه؟ كيف لنا بتصديقه؟ كيف لنا بفهمه؟ أين هي الأحزاب التقليدية وما هو نصيبها من كعكة السلطة؟ أين الوجوه السياسية المألوفة وشيوخ السياسة وفحول المنابر ورواد الشاشات؟ ما عسانا فاعلون؟
 
أوضحنا في جُملة المقالات المتعلقة بالانتخابات الفرنسية، أنّ البذور الماكرونيّة ما كانت لها أن تنبت بغير توافر التربة الفرنسية الخصبة، وملاءمة طقسية، فجودة البذور وخصوبة التربة واعتدال الطقس، تلك هي مكونات الماكرونيّة الفرنسية. منذ أول يوم وطأت فيه قدمايّ باريس عام ٢٠٠٦، وأنا لا أكف عن الدعاء لأساتذتي الأجلّاء الأحياء منهم والأموات، الذين غرسوا في حب فرنسا منذ كنت طالبًا، بحديثهم عن بلد النور، وعن قلعة القانون وعمالقته، عن واحدة من أعرق الديمقراطيات، عن الفن والحريّة وحقوق الإنسان، برسمهم لوحة فنية من هذا كله، لقد أهدوني باقة من أجمل وأندر الزهور، لكن ما رأيته، وما لمسته، فاق ما تخيلته، وتعدّى ما تصورته. 
 
اليوم وقد وضعت الانتخابات الفرنسية الرئاسية أوزارها، وتكشفت الملامح السياسية للمشهد الفرنسي في قادم الأيام، تُوجتّ الجهود الحثيثة للماكرونيّة الفرنسية بنجاح آخر منقطع النظير، لا يقل في أهميته عمّا حققه ماكرون من نجاح منقطع النظير. على مدار الأيام الماضية، أجريت الانتخابات التشريعية الفرنسية، وتوالت المفاجآت، إذ بحزب ماكرون الوليد، الذي مازال في طور الحبو، إذ يبلغ من العمر بضعة أشهر، يتصدر النتائج، ويشكل حكومة منفردًا دونما حاجة إلى تحالف مع أحزاب أو قوى أخرى. لكن ماذا يعني ذلك؟ وما هي نتائجه؟ وما هي درجة هذا الزلزال السياسي على مقياس اللعبة السياسية؟
الفرنسيون فرحون بماكرون وبفريقه الشاب، ذلك لأنه خيارهم، وحصاد نبتتهم، بعدما أجبر الأحزاب التقليدية على التواري ولربما الاختفاء الأبدي. نستطيع القول أنّ الماكرونيّة الفرنسية قد أحالت الساسة التقليديين إلى التقاعد وقبرت أحزابهم السياسية. النجاحات الساحقة المتوالية للماكرونيّة الفرنسية، تثبت وبما لا يدع مجالا للشك أن الفرنسيين قد سئموا الأحزاب التقليدية، اليمين واليسار، بل والوجوه السياسية المألوفة أيضًا، وأعربوا عن تأييدهم المطلق لفارس الديمقراطية، الرئيس الشاب، ولبرنامجه الرئاسي ولأجندته السياسية، ولأوربيته المنتمي إليها والتي لا طالما دافع عنها، ووعد بتقويتها والحفاظ على وحدتها. منح الفرنسيون ماكرون تفويض وشيك على بياض، ثقة في الرئيس الشاب، وإيمانًا منهم بقدراته وموهبته، بعدما أثبت الأخير أنه أهلًا ومحلًا لها. أما وأن تجمعت في يد فارس الديمقراطية، الرئيس الشاب، السلطتين التنفيذية والتشريعية، فإنه مُقبل على تشكيل الجمهورية السادسة، لم تتضح معالم تلك الدولة بعد، لكن تحليلي للماكرونيّة الفرنسية، أنها ستحدث انقلابًا سياسيًّا ليس في فرنسا فحسب، بل في أوروبا كلها ولربما في العالم بأسره. أوروبا ستكون في القلب من الجمهورية المرتقبة، استحداث نظام سياسي وشكل قانوني لزوجة الرئيس، السيدة الأولى، الحد من سلطات رئيس الحكومة، لا نقول القضاء على اليمين المتطرف ولكن نقول الحد منه بدرجة كبيرة، أعتقد وبعد أن مُني اليمين المتطرف بتمثيل ضعيف في الجمعية الوطنية، حيث إنه لم يحصل سوى على ستة مقاعد فقط، أنه لن يصعد لنهائيات الانتخابات الرئاسية بعد اليوم، ولسوف تنحسر عنه جموع المؤيدين والمتعاطفين. أيضًا سنرى زيادة الرقعة الشبابية والنسائية في الحياة السياسية، قادم الأيام ومُقبل المفاجآت سيزيح الستار عن تفاصيل وملامح تلك الجمهورية وهذا التطور الديمقراطي. 
شسوع فرق بين الماكرونيّة الفرنسية والناصرية المصرية، إن صحّ أن كلاهما وصل إلى سدة الحكم في الثلاثينيات من عمرهما، لكن شاسعيّة الفرق تأبى أن تضع الظاهرتين على كفتيّ ميزان واحد، فرق بين من امتطى جواد الديمقراطية وتسلح بالشرعية ليصل للحكم، وبين من وئد الديمقراطية، وامتطى الدبابة، وغيّر وجهتها من ناحية العدو، إلى اتجاه الديمقراطية. فرق بين من أسدى الشكر والتقدير والعرفان لكل رؤساء الجمهورية الخامسة، مع اختلافه السياسي معهم، يوم تتويجه أميرًا لقصر الإليزيه، وبين من اعتقل أول رئيس شرعي لمصر، المرحوم محمد نجيب، وأورثه الأمراض والحسرة. 
 
السؤال الذي يطرح نفسه الآن، ويلحّ بشدة، أين نحن مما يحدث؟ وما عسانا فاعلون؟ وواقع الأمر وحقيقته، أننا بعيدين عن الخريطة الديمقراطية، لابد من الاعتراف بذلك، والكف عن تجهيل وتغييب الشعب، والبدء الفوري في اتخاذ خطوات ملموسة صوب الديمقراطية، من إقرار لأسس الدولة المدنية، دولة ينعم فيها كل مواطنيها بنفس الحقوق، والواجبات، لا فرق بين ابن وزير وابن غفير، الأديان السماوية جميعها سواء، لا مجال للواسطة والمحسوبية، العمل على جعل سلطات الدولة مستقلة، يراقب كل منها الآخر، كل ذلك في فلك احترام الدستور والقانون، الحقوق والحريات. الاهتمام الحالّ بالتعليم والقائمين عليه، بالعمل على رفع جودته، وصقل قدرات المعلمين. وثيق الصِّلة بتلك النهضة المرجوة والملحّة، الاهتمام بصحة المواطنين، القضاء على الفساد، إصلاح المحليات...إلخ عوامل النهضة المرجوة. أعلم أن الطريق طويل وشاقّ، وزاده ثمين، ويلزمه إثرة وإنكار للذات.. 
 
إلى أن يبلغّنا الله ذلك، يبقى قلمي بالحبر زاخرًا، جنديًا في جيش الدولة المدنية، دولة الحرية والمساواة والعدالة، الحق وتكافؤ الفرص، إلى أن نلقاكم، نترككم على أمل في غدٍ أفضل، غدٍ مشرق. 
 
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق