«رحلة حاج».. هكذا تقربت إلى الله

الجمعة، 01 سبتمبر 2017 05:24 م
«رحلة حاج».. هكذا تقربت إلى الله
حجاج - صورة أرشيفية
سلمى إسماعيل

على إحدى أطراف ضريح نبي الله محمد، في المسجد النبوي، وقبل أن يبدأ الحج ببضعة أيام، جلس «عم سعيد» يتحسس المقام، ويبتسم تارة ويبكي تارة أخرى، وفجأة أجهش في البكاء، وما بين أصوات «الهمهمة والغمغمة»، تعالت كلمات قد لا تبدو للحاضرين مفهومة، فقد طغى عليها صوت البكاء، والدموع التي تنهمر دون توقف: «شكرًا يا رب.. كان حلم.. ارحمهم يا رب واغفر لهم».
 
ووسط تلك الكلمات بدأ «عم سعيد»، الرجل الذي يبدو على مظهره أنه في العقد السادس من العمر، وأنه زهد في الحياة، وكأنه بلغ من العمر أرذله، يتكأ على الضريح، بظهره، ثم ضم قدميه إلى صدره، ووضعه رأس بين قدميه، ثم تنهد بصوت مسموع قائلًا: «أخيرًا حلمي تحقق.. أخيرًا بقيت في رحاب الله ورسوله»، معلنا انتصاره في رحلة البحث عن زيارة الأراضي المقدسة.
 
على بعد خطوات من «عم سعيد»، كان يقف رجلًا ملتحيًا، يلبس جلبابا أبيض، وعمامة المشايخ- يبدو وكأنه أحد مشايخ المسجد- اقترب منه وربط على كتفيه، وانحنى تجاه أذنه ثم قال له بصوت خافت: «احمد الله واشكره على نعمه، فقد من الله عليك بزيارة بيته الحرام».. رفع «عم سعيد» عينيه تجاه الشيخ ثم نظر إليها فترة مطولة كأن الكلمات تصارع حتى تخرج من فمه. وقال: «لقد عانيت الأمرين حتى أتقرب إلى الله ورسوله واعيش تلك اللحظات».
 
في إحدى البيوت المتوسطة، والمخصصة لمحدودي الدخل، وفي إحدى المناطق الشعبية، عاش «عم سعيد» مدة 30 عامًا، مع زوجة محبة صارع حتى يمكنه القدر، من التزوج بها، وبعد زواجهما بعام وهبه الله فتاة كانت له «قرت عين»، فقد خلدت قصة حب صارع الحياة حتى تكمل.
 
وبعد 20 عاما من الزواج- ودع «عم سعيد»، زوجته المحبة، بعد أن تركت لها أرث لا بأس به، فتاتًا أكبرهم لم تكمل عامها التاسع عشر، والأخر 17 عامًا.. ووسط صراع الحياة، بدأ صاحب العقد السادس، في الحلم بأن يزوج الفتاتين اللتان خلدتا قصة حبه التي استمرت مدة 20 عامًا.
 
لم ينس «عم سعيد» ذاته في الأحلام، فقد طاله جزء منها، فقد كان الحلم الأوحد للرجل الستيني، هو أن يحج إلى بيت الله الحرام، وأن يجلس إلى جوار قبر نبيه ويروي له عن المشقة التي عانها، آملًا في أن يتشفع له يوم القيام، عند ربه.
 
تقدم رجل العقد السادس، في القرع الخاصة بالحج التابعة لمقر عمله الحكومي، فقد كان «عم سعيد»، موظفًا في إحدى المقار الحكومية- ويعمل في الأرشيف- وسط العديد من الأرفف والملفات التي تحيط به من كل حدًا وصوب. علم الجميع برغبة «أبو البنات»، ونظرًا لأنه محبوب قام العديد بالدعاء له حتى يحقق حلمه.
 
«ياعم سعيد بأذن الله ربنا هيوفقك وهتحج السنة دي بس قول يا رب واسعى عشان تسافر وتحج، وأكيد ربنا مش هيخيب ظنك».. بهذه الكلمات استوقف «أم محمد» بائعة الخضر، رجل العقد السادس، متمنية له أن يحقق حلمه، فقد أصبح «عم سعيد» وحيدًا بعد أن زوج فتاتها واطمئن عليهما، وقد بدأ الكبر يظهر على وجه، وكأن الوحدة أصبحت سلاحًا مصوبًا إلى قلبه يقتله في اليوم ألف مرة، خاصة بعد رحيل زوجته إلى مثواها الأخير، وفتاتها لبداية حياة جديدة.
 
رد صاحب العقد السادس على بائعة الخضر، قائلًا: «أدعي يا أم محمد»، وبدأ يسير مثقل القدمين، وكأنه يخشى أن يذهب إلى مقر عمله، ربما تردد على ذهنه أكثر من مرة أن يأخذ اليوم إجازة، وأن يذهب إلي بيته، إلا أن هاتف من أحد الزملاء، والذي طلب مساعدته في أمرًا خاصًا جعلته يذهب إلى عمله في يومًا أطلق عليه فيما بعد «اليوم الموعود».
 
وصل «عم سعيد» إلى مقر عمله متأخر نحو ساعة، وبالرغم من بداية اليوم الموحشة، والتي بدأت في تسجيل بسجلات الغياب، إلا أنه قرر أن يكمل اليوم، دخل إلى غرفة الأرشيف الخاصة به، وبدأ في استخراج بعد الملفات للزملاء، وأثناء تعلقه على سلم يحاول الوصول إلى إحدى الملفات، دخل شخصًا قائلًا: «عم سعيد في تلغراف علشانك».
 
نزل «عم سعيد»، دون مباليا خاصة وأنه يعلم أن لا أحد قد يرسل له شيًا هامًا، ناسيًا أنه قدم في قرعة الحج الجديدة.. تسلم الخطاب وفتحه، وإذا به يصرخ فارحًا: «الحمد لله الحمد لله.. أنا جيلك يا رب.. أنا جيلك يا رب»، ثم أجهش في البكاء.
 
التف حوله العديد من زملائه، متسائلين: «مالك ياعم سعيد في أيه؟.. أنت بخير؟.. وبناتك بخير؟.. طيب أنت عندك مشكلة». نظر أليهم صاحب العقد السادس، مبتسمًا وقد اغرورقت عيناه بالدموع، قائلًا: «الحمد لله على كل حال.. ربنا كتبلي أزور بيته الحرام قبل ما اموت».
 
كانت الأيام التي تسبق سفر «عم سعيد»، وكأنها رحلة محبة -أشبه لرحلة مصيف بالنسبة لعشاق الصيف- جمع احتياجاته حتى يسافر يوم الحج، إلا أن القدر كافأ صبره مرة أخرى، وجاء موعد السفر قبل الحج ببضعة أيام حتى يتمكن من رؤية قبر رسول الله كم رغب طوال عمره.
 
أنهى «عم سعيد» قصته لشيخ المسجد النبوي، معللًا له سبب بكاءه أمام ضريح نبي الله، ثم اعتذر له عن صوته العالي، فرد عليه الشيخ: «يا أخي لاتحزن فأنت في رحاب الله، وتمنيت سنوات طويلة أن تزوره وها قد أعطاك الله مبتغاك»، علق «عم سعيد»: «10 سنوات وأنا بتمنى أزور بيت الله»، ثم التفت إلى ضريح محمد (ص) وبدأ في الدعاء، استعداد لعمل مناسك الحج.

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق