يا زينب

الجمعة، 10 نوفمبر 2017 03:34 م
يا زينب
هشام السروجي يكتب :

ستة عشر عامًا أو تزيد، أركض هاربًا من ذكراكي، لم أزر قبرك إلا مرتين، ليس جحودا ولا قسوة قلب، بل ضعفٌ ووهنٌ، محاولات يأسه أن أشيح بوجهي عن حقيقة فراقك، أخبرني طبيبي النفسي أني أعيش حالة نُكران حتى لو اعترفت بموتك أمام الجميع، في المرتين أعود محملًا بالأمراض النفسية، في الأولى اكتئاب سريري لازمني اثني عشر شهرا، وفي الثانية نوبات هلع لا تنتهي، في كل نوبة أعيش سكرات الموت دون موت، هل أخشى الموت حبًا في الحياة.. أم أكرهه؟
 

أنا أكرهه حقًا، أعترف بذلك، ولأنه حقيقة كرهت الحقائق والمسلمات، ألا تدرين ما فعله الموت بي؟ ألم يخبرك ربك ما عانيت؟ لقد افترشت الطرقات شهورًا، وغُلقت الأبواب في وجهي، انكسر ظهري من كثرة انحنائي أمام أزمات ومواجهات كنت لا أملك لها قوة، استسلمت وأرخيت جسدي لعلي أغادرها، أدركت مؤخرًا أن المغادرة بطولة لا أملك شرف تحقيقها، أنا مريض بالخوف من هذه البطولة، أني أخاف الموت يا زينب.

تخيلي ضبطت نفسي متلبسًا، أنا لا أملك صورة لكِ، لهذا القدر من النكران قد وصل حالي، لا أعلم إن كنت متألمًا من فراقك أم كرهت مغادرتك حتى كرهتك، أأخبرك سرًا؟.. لقد فرحت عندما انهار العقار الذي حملني بين أحضانك تسعة عشر عاما، وعندما بحثت في داخلي، أدركت أن الذكرى تؤلمني حد الجنون، أتعجب يا زينب من هؤلاء الذين يزورون المقابر دون خوف، لا أخشى المقابر كلها إلا قبرك.

لن أحكي لكِ قصتي مع قبر أبي، لعلكما تقابلتما في عالمكما الموازي، وأشتكي لكِ جحودي.

أتعلمين أمرًا؟، لا أحب النساء، أحبُك فيهن، وأكرههن فيكِ، سوف أشرح لكِ الأمر، أبحث عنكِ فيهن، وحين أجدك أهرب، حتى أني لا أجد لذة في وطأهن، حين كنتِ جواري كنت أٌحسِن الحب والجماع، وعندما رحلتي لم أحسن إلا إدمانهن.

وجودهن في فراشي محاولات دائمة أن أملأ فراغ دفئك، لكن الفراغ يتسع كلما رقدت إحداهن فيه، حتى أصبح فراغ يشبه الثقوب الكونية السوداء.

أخشي خيانتهن بعد خيانتكِ لي، نعم.. غيابك خيانة، كلكن ترحلن دون وداع، وأنا أخشى الخيانة والوداع، ألم الفقد أصعب من أي ألم، حتى أني تفلسفت في مفهوم العذاب الأخروي، فوصلت إلى أن حقيقة الجحيم هو فقدان حق الاتصال مع الله، حين يرفض أن يسمعنا فنفتقده.

حين قرأت على يدك المصحف وأنهيته، أتذكر حديثكِ يومها، "بعد أن أنهينا الدين علينا بالدنيا"، وقرأنا الجمهورية الفاضلة، كنتِ تكذبين عليّ، الحياة بلا فضيلة، بلا أخلاق، الحياة قوة دون رحمة، لماذا لم نقرأ كتاب الأمير؟ يا زينب حياتُنا ميكافيللية.

وجدت صعوبة في استجلاب هذه الذكرى من هوة عقلي الباطن، النكران محى كل ذكرياتك إلا القليل، ومع فقدان ذكرياتك انهار كُل تاريخي، لكن اليوم وأنا عائد توًا من قبرك، بدأت تتساقط الذكريات في وعيي، كتساقط الرذاذ في نهار صيفي على استحياء.

أدور في حضرة السادة الرفاعية، يشدو الحادي، تقرع الأكف طبول الخشوع، تنجلي القلوب، الحقيقة لم آتي لزيارة الولي، بل لأسترق النظر إلى المكان المخصص للسيدات، وأشتم رائحتهن علّي أجد ريح زينب، تلك حقيقة أخرى.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق