حذاء مات قبل أن يُنتعل

الأربعاء، 11 أبريل 2018 08:01 م
حذاء مات قبل أن يُنتعل
محمود الغول

قال الحذاء الابن لأبيه: «لا أريد أن ينتعلني أحدهم».
اندهش الحذاء الأب من كلام ولده، وقص على صغيره حكاية الحذاء الأسطوري الذي رفض أنُ يُنتعل:
ظل ذلك الحذاء الأسطوري راقدًا في فاترينة المحل المطل على المديان الكبير.. بقي هناك لسنوات وسنوات، كان جميلًا كما لم يكن أي حذاء آخر.
جلد قوي أسود لامع، مزدان برباط طويل، منتشيًا على نعل قوي ومرتفع.
 
 مرت الأيام والحذاء يشاهد الأحذية الأخرى في أرجل المارة، وكلما رأى أحدهم ضحك وشعر بزهو وهو يرى نفسه عفيًا لامعا، بينما تلك الأحذية متربة وممزقة، هذا نعله منهك وذلك جلده متشقق..
 
وفي ليلة، كانت الأضواء تنير المكان، وإذا بحذاء قديم يخرج من بين كومة قمامة في جانب من الميدان، ثم أخذ يسير ببطء حتى وصل إلى فاترينة المحل مواجها للحذاء الأسطوري، الذي راح يضحك حتى تراقص رباطه في الهواء خلف الزجاج..
 
تعجب الحذاء القديم من ذلك الحذاء الأسطوري ومن ضحكاته الساذجة، وفي المقابل اندهش الحذاء القابع خلف الزجاج حين لمح في عيني الحذاء المهترئ سلاما وسكينة..
 
«من أين لك بهذا السلام أيها المتهالك! أنت على وشك الموت، بل أنت ميت بالفعل»، هكذا صاح الحذاء الذي لم يُنتعل بعد، بينما الحذاء القديم صامت.
كان الحذاء داخل الفاترينة يغلي مثل حصوات الحلبة على النار، قبل أن يصرخ «هل خرجت من مرقدك بحثًا عن قدمين عاريتين؟ هل شعرت بالحنين لتلك الأقدام القذرة!.. عُد إلى قبرك أيها الميت».
 
ضحك الحذاء القديم بصوت عال، وقال في هدوء: «الموت هو ألا تحيا.. لعشر سنوات كاملة تنقلت ما بين قدمي ذلك الرجل الثري، ثم خادمه من بعده، إلى أن استقر بي المقام في قدمي عجوز متشرد.. خلال السنوت العشر كنت حيا، تجولت في المدن والشوارع، ركلت الحجارة في الطرقات، قبلت التراب، تنسمت العليل، شربت ماء المطر ولم أتأفف من ذلك الماء المتساقط من شرفات العجائز، لكن أتدري متى شعرت بأنني ميت؟».
 
تظاهر الحذاء في الفاترينة بعدم الاهتمام، ولم يرد، فواصل الحذاء القديم كلامه: «حن كنت في مكانك هذا.. الموت يا صديقي هو ألا تحيا.. اخترق هذا الحاجز الشفاف واخرج للعالم قبل أن تدفن مكانك».
 
رمى الحذاء القديم كلماته، ثم رحل باحثًا عن قدمي متشرد يرتعد هنا أو هناك، بينما أخذ الحذاء الأسطوري يفكر في ما سمع، لكنه ضحك ساخرًا وقرر أن يبقى وراء الزجاج يراقب الأحذية في أقدام المارة ليسخر منها.
 
مرت أعوام أخرى والحذاء في مكانه، إلى أن وقفت إحداهن أمام الفاترينة تطالع الأحذية المعروضة، وحين لمح الحذاء الأسطوري حذائها الأحمر اللامع شعر بشيء غريب يتحرك داخله، وبشكل تلقائي رفع رباطه محييا حذاء الفتاة، لكن رباطه كان مهترئًا بالقدر الذي جعله يتفسخ ويسقط إلى جواره، ولما حاول الحذاء الاقتراب من ذلك الجزء المتفسخ ليعيد لصقه انفصل جلده عن نعله، ولم يعد قادرًا على أن يعيد ترتيب اجزاءه مرة أخرى، وظل هكذا إلى أن جاء البائع فلملم أشلاء الحذاء الذي لم ينتعل يومًا وألقاه إلى القمامة، ثم جاء عامل النظافة فأخذه وباعه لذلك الرجل الذي وضعه في ماكينة عملاقة فرمته فرمًا وأعادت تشكيله ليصبح كيسًا أسود.
 
ذلك الكيس الذي وجده الرجل المتشرد، وهو يبحث عن بقايا الطعام بين القمامة، فأخذ ما فيه من فضلات وتركه يطير مع الهواء، ثم رحل منتعلًا الحذاء القديم.
مات الحذاء الأسطوري قبل أن يحيا.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق