مذكرات قطار متقاعد

السبت، 14 أبريل 2018 11:18 ص
مذكرات قطار متقاعد
محمود الغول يكتب:

الليلة الماضية، زرتُ جدي.. ذهبت إليه في مكان عمله.
هو يعمل حارسا في محطة قطارات قديمة ومتهالكة، بل قل مكبًا للنفايات المعدنية الصدئة، التي حتى لا تصلح لأن تباع خردة.. كل ما حولنا قطع من حديد متآكلة وبالية، فحين أمسكت بواحدة منها انسحقت بين أصابعي مثل ذرات الرمل الحمراء، غير أن لها رائحة تشبه رائحة الدم المتخسر..
«أيموت الحديد يا جدي؟ هل لديه دماء مثل تلك التي تجري في عروقنا؟».
لم يرد علي جدي..
كان العجوز يعد الشاي في آنية بلا يد، شديدة السواد، لكن باطنها فضي لامع رغم القشور البيضاء المتناثرة في قاعها..
تركته يعد الشاي، ورحت أتجول بين عربات القطارات المتراصة كالمقابر المدفونة فيها جدتي..
 مشيت ومشيت ومشيت..
وفجأة، أوقفني صوت خافت..
ما هذا الصوت؟ إنه يشبه أنين الجدة وهي تحتضر، هل خرجت جدتي من قبرها لتموت مرة أخرى!
رغم ضربات قلبي المتسارعة خلف صدري الذي يهدر كمحرك سيارة قديمة، وقفت لأتبين مصدر الصوت.. كل الأشياء من حولي ساكنة، حتى أوراق الشجرة المنتصبة في جانب بعيد من المحطة لم تكن تهتز..
مزعج صوت السكون!
لا أحد هنا.. إذا، لمن ذلك الأنين! الشيطان يحاول أن يخيفني؟ وما حاجة الشيطان لأن يخيف صبيًا لم يصلي لله يومًا!
لابد وأنه وهم، لم يكن صوتا، لكن.. انتظر هاهو الأنين يرتفع مجددًا.. إنه القطار المتهالك هناك، اسمع.. اسمع ما يقول:
«ها أنا أرقد على الأرض بلا عجلات، عجوز بُترت ساقيه في حرب سيق إليها عنوة، حتى الأبواب والنوافذ جردوني منها قبل سنوات، حين ألقوا بي هنا، بين هذه النفايات الميتة.. 
قطار بهي صلب، لامس بقوائمه صدور الحسناوات وأيادي العجائز وسواعد الشبان وأقدام الأطفال، يلقى هكذا.. جثة بلا نوافذ ولا أبواب!
قطار أول من استقله ملك وحاشية قصره، ينتهي به الحال في هذه المقبرة المظلمة!
قطار أقل الجنود شبانًا إلى الحرب، وأعادهم متآبطين العكاكيز أو على ظهورهم، يؤول به المطاف في ساحة بلا سقف!
قطار نقل البشارة للمتلهفين، وحمل الأمل للحالمين، وبث الفرح في قلوب محتشدة حول القضبان انتظارًا لوصول ابن ضال وأب غائب وحبيب مسافر ورفيق تائه.. أتكون نهايته هكذا.. هنا في هذا القفر الموحش!
إن قطارًا مثلي لجدير بأن يخلد في متحف وطني، وأن يكلل بالورود الجورية، وتنثر حوله العطور والحناء، لا أن يهمل كخرقة بالية تركلها الأقدام في الطرقات.. لكن لم تنتابني الدهشة الآن ويعتريني الغضب من حماقتهم، ما كنت لانتظر العسل يتساقط من فم الغراب وهو الذي يتغذى على الجيفة..
يا لي من أبله سحقته البدايات وظن أن الحياة تنتظره في النهايات!
مازلت أتذكر..
قبل مائة عام من اليوم، وضعوني رغما على القضبان ودفعوني دفعا للسير.. قاومت.. صرخت.. تشبثت بأجزائي لكن دفعهم لي كان أقوى من مقاومتي، سرت على مهل.. واصلوا الدفع.. فانطلقت وأنا أصرخ، لكن من يستمع لقطار يصرخ، ومن يفهم صراخه!!
لقد سمعوا صراخي صافرة.. وشاهدوا دموعي دخانًا أسود نفضوه عن ملابسهم وهم يضحكون..
لم أكن أرغب في أن أصبح قطارًا ينتظر نهايته عند كل محطة وصول ولا يجدها، كان حري بهم أن يتركوني أنتهي في إحداها عزيزا، بدلًا من هذه النهاية الوقحة.. كان وكان وكان، لكن أيًا منها لم يكن».
صمت القطار للأبد، توقف أنينه وتحلل، واختلطت ذراته بحبات الرمل، فأخذت منها حفنة نثرتها على قبر جدتي، وعدت لأشرب الشاي مع جدي.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة