سأقتل جدي لليلة واحدة

الأربعاء، 02 مايو 2018 01:20 م
سأقتل جدي لليلة واحدة
محمود الغول

بعدما فارقنا جدي، ورثتُ عنه غرفته الصغيرة، والتي لم يكن بها سوى صندوق خشبي كبير وعتيق، تنمو الشرايين على جوانبه كبروز العروق من السواعد الشابة.
 
 هذا الصندوق لا يشبه الصناديق الأخرى، ولا أدري كيف تساعه هذه الغرفة الضيقة وهو أكبر منها حجمًا، إذ كان له هو أن يحتويها، بل ويحتوي باقي غرف بيتنا القديم.
 
في كل ليلة، كان جدي يرفع غطاء الصندوق المرصَّع بدوائر من نحاس، ويدخل ليبيت فيه، لكنه لم يسمح لي في أيٍّ من تلك الليالي أن أرافقه داخل صندوقه السحري هذا، لذلك ظلَّ حلمي الأكبر هو أن يموت جدي "الذي أحبه" حتى أطفئ شهوة التطفل المتنامية في صدري كالسرطان.
 
 نهلتُ من حكايات الجد حتى أرتويت، غير أنني يومًا لم أذق طعمه هو "جدي" في واحدة من تلك القصص، لهذا قررت أن يكون ذلك العجوز هو حكايتي، لكن كيف يكون المرء حكايةً إن لم يمت! 
 
ومن أجل ذلك صليت لله كثيرًا كي يميت جدي لليلة واحدة، حتى أرث الصندوق وأبيت فيه، لأستكشف تلك العوالم، التي لا علمَ لي بها، إذ ليس لي أن أُحاطَ علمًا بما لم يحكِ لي عنه جدي.
 
ولمَّا لم يستجب الربُّ لصلواتي، كان عليّ أن أتولى أنا الأمر، ففتحت نافذة الغرفة أمام الشمس التي ظلتْ معلقةً في السماء حتى منتصف تلك الليلة.
 
كان جدي قد أخبرني أن شمس الليل أفعى لها أربعون رأسًا وثمانون عينًا، ولها ذيلٌ طويلٌ ترسله إلى النوافذ المفتوحة ليلًا لينشر السمَّ، سم له رائحة الزمن وطعم المسافات، وها جدي قد مات، وها أنا أمام الصندوق، أحكمتُ إغلاق النافذة، واقتربتُ من الصندوق، ما عدا قلبي، الذي لم يغادر النافذة، ظلَّ هناك يراقب الشمس خشية أن يتسلل ذيلها من فتحة صغيرة بين النافذة والجدار.
 
 رفعت غطاء الصندوق في خمسة أعوام، لم يكن ثقيلًا لهذا الحد، ومع ذلك استغرق الأمر مني خمسة أعوام كاملة، ففتى بلا قلب يهدر في صدره لا يقوى على كشف الستر دون أن يتمهل.
 
حين انتهيت من رفع الغطاء ثبته بكل ما أحفظ من حكايات الجد، حتى لا يسقط فينغلق الصندوق مرة أخرى، ثم دلفت إلى العمق، أنت حين ترفع الغطاء ستجد طبقة من الظلام تسبح على وجه الصندوق، لكن بمجرد أن تجتاز هذه الظلمة، سترطم بكتلة من النور، كتلة صفعتني على وجهي حتى نزفت كل الدم الفاسد في أوردة وشرايين عيني، هيأتني للرؤية في الظلمة التي تلت كتلة النور.
 
 في قاع الصندوق بحرٌ من الماء الأكحل، بحرٌ أكبر من أن تصل إلى شاطئه بناظريك، وأصغر من أن تحمله في كفك، وفي عمق هذا البحر، تنبت شجرة بلا جذور، لكنها راسخة كطود أزلي.
 
شجرة لها فروع كثيرة مثل شعر الجنيات، كل فرع منها ينتهي إلى رأس أفعى حسناء لا تكف عن الرقص، ولم تتركني واحدة منها إلا وقد لدغتني مع كل خطوة أخطوها نحو القاع، لكنني واصلت النزول حتى انتهيت إلى أرض مدببة، كانت نتوءاتها تخترق قدماي وتذوب في صدري!
 
 وعلى بعد خطوات من الشجرة، التقيت الجد يفترش الأرض، وهو يمشط أصابع يده بمشط سحري، أسنانه من عاج، وكلما مشط الأصابع تساقطت منها الحكايات التي كان يقصها عليّ، حكايات تنساب على الأرض كالماء لكنها سرعان ما تتحول كل حكاية منها إلى صبية بعينين واسعتين وشعر يسافر في الأنحاء.. صبية كلما تبسمت خرجت من بين أسنانها شمسٌ تطير بجناحي فراشة شفافة. 
 
كنت أشاهد ما يجري أمامي وأنا لا أعرف ماذا عليّ أن أفعل، إلى أن انسلخ من جلدي طفلٌ صغيرٌ خطا إلى خارج حدود جسدي وأخذ يطارد فراشات الشمس، حتى انتهى به المسير إلى جوف الجد الذي ابتلعه مع دفقة من الهواء الرطب، فانتشى العجوز وعاد صبيًّا، ثم تحول من صبي إلى فراشة طارت إلى أعلى وابتعد إلى أن استقر بمقام الشمس.
 
 وهناك في الأعلى، كان جدي ينظر إليّ ويضحك كلما لمح الدهشة تنمو في وجهي، فأرسل آشعته لتحملني تحت إبطها ثم ترفعني إليه، فأجلسني إلى جواره على مقعد صغير، والتفت إلى يمينه وكأنه يطلب مني أن أنظر، فوجدت الحكايات التي باتت فراشات شفافة وقد تلوَّنت أجنحتُها. 
 
وكان الجد يقطفُ من وقت لآخر واحدةً من تلك الفراشات المزروعة حولنا، ليهبها إلى الأرض، حتى انتهى منها جميعًا فاقتلعني بيديه من مقعدي، ثم ألقى بي إلى الأرض قربانًا أخيرًا قبل أن يتلاشى هو، بينما أواصل أنا السقوط في فراغ بلا نهاية.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق