«صوت الأمة» فى كُتاب «سيدنا الشيخ».. «وزة» و«وجابر» أشهر محفظى القرآن.. «كُتاب سيدنا» مفتاح الحضارة الإسلامية.. ومصنع إنتاج حفظة القرآن.. الإمام الشافعى أشهر من حفظ القرآن ب«الكُتاب» وجالس علماءه

الإثنين، 14 مايو 2018 10:00 ص
«صوت الأمة» فى كُتاب «سيدنا الشيخ».. «وزة» و«وجابر» أشهر محفظى القرآن.. «كُتاب سيدنا» مفتاح الحضارة الإسلامية.. ومصنع إنتاج حفظة القرآن.. الإمام الشافعى أشهر من حفظ القرآن ب«الكُتاب» وجالس علماءه
تحفيظ القرءان
تحقيق: هناء قنديل

يعد «الكُتَّاب» واحدا من الرموز التاريخية، التى أسهمت فى تربية أجيال متعاقبة أتقنوا حفظ القرآن الكريم، وتلاوته بالقراءات العشر، المتفق عليها بين علماء المسلمين.
وعلى مدار أكثر من قرنين من الزمان، تسيد «الكُتَّاب»، مدارس التعليم فى مصر، وتخرج على أيدى شيوخه، الآلاف ممن تصدروا المشهد فى تلاوة القرآن بمصر والوطن العربى، والعالم الإسلامى.
 
ولمن لا يعرف فإن «الكُتَّاب»، هو تلك المساحة الصغيرة، التى ينتحى فيها الشيخ «ذو العصا» المباركة، أو كما يطلق عليه «سيّدنا»، جانبا داخل المسجد، ويتحلق حوله تلاميذه من مختلف الأعمار، طالبين فقه القراءة والتجويد، لآيات القرآن الكريم.
ولا يعرف الكثيرون أن مهنة التحفيظ، التى يمارسها «سيدنا»، لا توكل إلى الناس عشوائيا، وإنما تحتاج إلى إجازة، يحصل عليها المحفظ، من شيخه، الذى حصل عليها بدوره من شيخ أقدم إلى أن ينتهى النسل إلى الشيخ الأكبر، وهو واحد من سلالة النبى صلى الله عليه وسلم، فى غالب الأحوال.
وعلى مدار العقدين الماضيين، حرص بعض وسائل الإعلام، والدراما، على التقليل من هيبة «سيدنا»، فأظهرته، إما شيخا شديد القسوة، وإما من هؤلاء الذين يبيعون العلم مقابل المال، أو حتى الطعام!
ورغم هذه الصورة القاتمة التى أدت إلى تراجع دور «الكُتَّاب»، لا سيما مع فقدان الدولة للرغبة فى تقديم أى رعاية له، فإن الكثير من المناطق الريفية، خاصة فى الدلتا والصعيد، ما زالت تحتفظ بـ«الكُتَّاب»، وما زال «سيدنا» يتمتع فيه بدور كبير، فى تخريج عشرات من حفظة كتاب الله كل عام.
ويبلغ عدد الكتاتيب فى قرى مصر نحو 30 ألف «كُتَّاب»، بحسب بعض الأرقام والإحصائيات المعلنة وهو رقم صار ضئيلا مقارنة بعدد السكان.
مفتاح الحضارة الإسلامية
وإذا كان القرآن الكريم، هو دستور هذه الأمة، فإن «الكُتَّاب» يستحق بجدارة أن يكون مفتاح الحضارة الإسلامية؛ فبه انتشر حفظ القرآن فى كل أرجاء الدولة الإسلامية، باتساع رقعتها، وامتداد عمرانها.
ويشير المؤرخون، إلى أن «الكُتَّاب» يعد أقدم المدارس التعليمية فى تاريخ دولة المسلمين، ولم يتغير هدفه منذ نشأته، وهو تعليم القراءة والكتابة للأطفال، وتحفيظ القرآن الكريم وإتقان تلاوته لهم وللكبار على السواء.
«سيدنا الشيخ»
 اختص المصريون بالتحديد، محفظى القرآن فى «الكُتَّاب»، بهذا اللقب، الذى يحمل من الوقار ما لا يتوافر لغيره، ولم يكن هذا من عادة المصريين وحدهم، وإنما هو «المؤدّب» فى بلاد المغرب العربى، و«الخوجة» فى تركيا، و«المُلّا» فى آسيا الوسطى.
ولكى نستطيع تخيل دور وربما شكل «سيدنا» فى «الكُتَّاب»، فليس علينا سوى قراءة ما وصفه به عميد الأدب العربى طه حسين، فى كتابه «الأيام»، بقوله: «سيدنا (محفظ القرية) كان إنسانًا كفيفًا يخدم نفسه.. ولكن ذلك لم يمنعه من أن يعتمد فى طريقه إلى الكتاب، وإلى البيت على اثنين من تلاميذه فى الطريق».
وأضاف: «وكان سيدنا يتخير من تلاميذه لهذه المهمة أنجبهم وأحسنهم صوتًا، وذلك أنه كان يحب الغناء، وكان يحب أن يعلم تلاميذه الغناء».
وفى عصر الازدهار الإسلامى كان ينفق على «الكُتَّاب»، من ريع الأوقاف، ثم أصبح ينفق عليها من تبرعات الأهالى، وبالذات الذين يتعلم أطفالهم، فى «الكُتَّاب»، كما أن بعض الشيوخ كانوا، يقدمون جهدهم فى تعليم الأطفال بـ«الكُتَّاب»، دون مقابل.
ويرى الدكتور محمود قمر، أستاذ الحضارة الإسلامية بكلية الآداب فى جامعة الزقازيق، أن مكانة «الكُتَّاب» تكونت فى القرون الهجرية الأولى، وكان لها شأن عظيم؛ حيث كان بديلا للمدارس الابتدائية، وانتشر بأعداد هائلة فى جميع البلاد التى دخلها الإسلام.
ويشير «قمر» إلى أن الحجاج بن يوسف الثقفى، أهم وزراء الدولة الأموية، الذى أسس لملك أبناء مروان بن الحكم، وحاكم العراق الأشهر، كان معلما فى «الكُتَّاب»، ولم يكن يتلقى المال نظير عمله، وإنما كان يحصل على مقابل علمه، طعاما، وتلقى القرآن على يديه نحو 3 آلاف طفل.
علماء مشاهير
وتخرج فى «الكُتَّاب»، علماء مشاهير، عرفهم جميع مسلمى العالم، على اختلاف مشاربهم، وأبرزهم على الإطلاق، الإمام محمد بن إدريس الشافعى، أحد الأئمة الأربعة الكبار فى تاريخ الفقه الإسلامى، الذى كان يقول: «كنت يتيمًا فى حجر أُمِّى، فدفعتنى فى «الكُتَّاب»، فلمَّا خَتَمْتُ القرآن دخلتُ المسجد فكنتُ أُجَالِس العلماء».
ومن المعاصرين كان الإمام محمد متولى الشعراوى، أحد خريجى «الكُتَّاب»، وأيضا مشاهير التلاوة، ومنهم الشيخ محمد رفعت، والشيخ صديق المنشاوى.
وكان شيخ «الكُتَّاب»، ذا مكانة كبرى لدى السلاطين، والخلفاء، فكانوا يحضرونهم لتعليم أبنائهم القرآن الكريم، وكانوا يتمتعون لدى الخلفاء باحترام، جعلهم يوكلون تربية الأبناء الذين يصبحون بعد ذلك ملوكا وأمراء إلى شيوخ «الكُتَّاب»، دون تدخل من أحد غيرهم.
وما يثبت مكانة شيخ «الكُتَّاب»، لدى الخلفاء، تلك الواقعة الشهيرة، التى جرت بين الخليفة القوى هارون الرشيد، وإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس، حين أرسل إليه الرشيد يستحضره، ليسمع منه ابناه الأمين والمأمون، فرفض ذلك، وقال إن العلم يُؤتى، فبعث إليه الرشيد يستأذنه أن يبعثهُما إليه يسمعان مع التلاميذ، فقبل مالك شريطة أنهما لا يتخطيان رقاب الناس، ويجلسان حيث ينتهى بهما المجلس، فوافق الرشيد، وأمر ابنيه بذلك.
خمس سنوات دراسة
كانت الدراسة فى «الكُتَّاب»، تبدأ فى سن الخامسة، وتستمر لمدة خمس سنوات أخرى، يخرج بعدها الطفل، وقد أكمل حفظ كتاب الله تعالى، وأتقن قراءته، على قراءات العلماء المنتشرة فى بلد «الكُتَّاب»، وكان بعض الشيوخ يعلمون تلاميذهم القراءات السبع المتفق عليها بين العلماء، والبعض يعلمونهم القراءات العشرة المشهورة كاملة، وبعد إتمام ذلك يحصل الطفل على إجازة من شيخه، بأنه أتم حفظ القرآن الكريم، وإتقان علومه.
«الكُتَّاب» يحرر بيت المقدس
وفى مصر، قلب العروبة على مدار التاريخ، تألق «الكُتَّاب»، وانتشر ولقى اهتماما كبيرا من معظم حكامها، وأشهرهم السلطان صلاح الدين الأيوبى، أصلح شأن «الكُتَّاب»، ووضعه فى صدارة اهتماماته على مدى عشرين عاما، حقق بعدها انتصاراته الباهرة على الصليبيين، التى توجت بتحرير بيت المقدس.
«كُتَّاب» الشيخ جابر
الشيخ علوان جابر، صاحب أشهر دار لتحفيظ القرآن بقرى محافظة الشرقية، يكشف الكثير من التفاصيل عن هذه المهنة، فيقول إنه ورثها عن والده، مؤسس أهم «كُتَّاب» فى القرية، وتخرج على يديه العديد من الطلاب فى الذى برعوا بعدها فى التخصصات العلمية والشرعية.
وتابع: ما زلت محتفظا بالفلقة، وسلمتها لابنى محمد الذى يكمل مسيرة الكُتاب بعدى؛ وبثقة قال إن: «عصا شيخ الكتاب من الجنة، لاتؤذى طالب علم ولكنها تؤدبه فقط»، مشيرا إلى أنه تعلم على يدى والده أصول وقواعد التجويد والحفظ، ونال إجازته، ليتحول إلى شيخ محفظ، وحرص بعد وفاته، أن يكمل مسيرته فى أداء هذه الرسالة، كما أنه حمّل هذه الأمانة لأبنائه من بعده.
بدوره يقول الشيخ على مكى، أحد شيوخ «الكُتَّاب» بمحافظة الشرقية: «أبنائى جميعا من خريجى الجامعات، ويعملون فى مناصب مرموقة، لكنهم أيضا حفظوا القرآن الكريم فى الكُتَّاب، وهو ما منحهم البركة التى نفعتهم فى حياتهم».
وأضاف: «أعمل فى تحفيظ القرآن الكريم، منذ شبابى»، كاشفا عن أن زوجته تعاونه أحيانا.. وتابع: «وإذا كانت بركة القرآن ساعدت أبنائى فى حياتهم، فهى ساعدتنى أيضا بقوة، فرغم تجاوزى السبعين، لم أذهب إلى الطبيب إلا نادرًا جدا». 
للمرأة نصيب
شاركت المرأة فى العمل فى الكتاتيب، ونشر التعليم منذ وقت مبكر، بحسب ما جاء بكتب التراث فيما قاله التابعى عبدربه ابن سليمان: كتبت لى أم الدرداء فى لوحى فيما تعلمنى: «تعلموا الحكمة صغارًا تعملون بها كبارًا»، وقالت: «إن لكل حاصد ما زرع من خير أو شر».
وتقول هبة عطية محفظة بالأزهر الشريف، وصاحبة كُتاب بالقرية إن الكُتّاب كان سبيلها لحفظ القرآن الكريم، وإتقان اللغة العربية، والالتحاق بالمعهد الأزهرى، مشيرة إلى أنها تلقت علمها فى «كُتَّاب»، الشيخ جابر، ومعها أشقاؤها وهم فتاتان وصبى.
وتقول شيماء، شقيقة هبة، إنها حصلت على إجازتين فى حفظ القرآن، وإتقان  علومه على إحدى القراءات العشرة، موضحة بقولها: «كنا نكتب على الألواح الخشبية، وحتى بعد الانضمام إلى المعهد الأزهرى، لم أنقطع عن الكتاب، وكنت أذهب لأراجع سيدنا فى ما حفظته، وأكتب الآيات الجديدة التى حفظتها على اللوح الخشبى، لأقرأها على الشيخ، حتى أتأكد من سلامة النطق، وتطبيق أحكام التلاوة»
«الكُتَّاب» والأزمة المعاصرة
ورغم أهمية «الكُتَّاب» فى تحفيظ القرآن الكريم بشكل جماعى، بما يساعد على سرعة الحفظ والاستيعاب فإنه يعانى حاليا أزمة هائلة، كاد معها أن ينقرض، وهو ما يؤكده الشيخ أبوعيسى وزة، أحد شيوخ «الكُتَّاب»، موضحا أن هذه المدارس المهمة لتخريج أجيال تتقن علوم القرآن الكريم، بحاجة إلى دعم الدولة، لمواجهة قلة الإنفاق، وغياب الرعاية الصحية والاجتماعية، للشيوخ ممن ليس لديهم مورد رزق سوى مهنة «سيدنا».
وكشف الشيخ «وزة»، عن أن أجور شيوخ «الكُتَّاب»، لا تتجاوز الجنيهات القليلة شهريا، وهو ما يجعلهم غير قادرين على تجهيز أجيال جديدة من المحفظين الذين يعملون فى هذه المهنة.
أين الأزهر؟
وفى الوقت الذى كان لـ«الكُتَّاب»، دوره المهم فى الحفاظ على الهوية الثقافية للأمة، فإنه لم يجد المساندة اللازمة من الدولة، حتى أن الأزهر تراجع عن دعم «الكُتَّاب»، رغم أنه فى مراحل سابقة، كان يخطط لتحويله إلى مرحلة تعليمية إلزامية.
ورغم اعتراف الأزهر بما يمثله «الكُتَّاب» من دور مهم فى الحفاظ على الهوية القرآنية للأمة الإسلامية، فإننا نشهد الآن تراجعا كبير، فى دور المؤسسة الإسلامية الأهم فى العالم، عن دعم «الكُتَّاب»، ومد يد العون له؛ حتى يبقى قادرا على ممارسة دوره.
من جانبه ينفى الدكتور عباس شومان، وكيل الأزهر، عدم الاهتمام بالكتاتيب، مؤكدا أن الأزهر على علم تام بما لها من فضل فى نشر حفظ القرآن الكريم، وما ‏تقدمه فى القرى والنجوع لخدمة هذه القضية الجوهرية.
وأشار إلى أن الأزهر وضع للكتاتيب نظاما تعليميا معترفا به، لافتا إلى أنه صدرت خلال الفترة الماضية، موافقة الإمام الأكبر، الدكتور أحمد الطيب، على إنشاء 86 مكتبا لتحفيظ القرآن على مستوى مراكز ‏ومدن وقرى محافظة الوادى الجديد، لخدمة أهالى المناطق البعيدة عن أماكن المعاهد الأزهرية، مشددا على أن الأزهر يشرف على تلك المكاتب التى ‏سيتم افتتاحها خلال المرحلة المقبلة، وتعميمها على مختلف محافظات الجمهورية.
يحفظ الهوية القرآنية
ويقول الدكتور عبدالغنى الغريب، المدرس بجامعة الأزهر، إن «الكُتَّاب» يحافظ بالفعل على الهوية الإسلامية، وهو أمر مطلوب بشدة؛ لا سيما فى ظل الحرب الضروس التى يتم شنها حاليا، لطمس الهوية الإسلامية، والقضاء عليها.
وأشار إلى أن «الكُتَّاب» كان ولا يزال أهم المؤسسات التعليمية التى اهتمت بتحفيظ القرآن الكريم، والحفاظ على اللغة العربية، وهو ما يستدعى العمل على استمرار أداء هذا الدور الخطير بحسب وصفه.
وقال: «يجب أن نعى أن الكُتَّاب، ما زال الوسيلة المثالية لنشر علوم الدين، وترسيخها فى عقول الأطفال، لضمان استمرار التنوير الدينى، الذى نحارب به الإرهاب، والفكر المتطرف».
وشدد على أن «الكُتَّاب» له أهمية قصوى فى تحفيظ القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، وإتقان القراءة والكتابة والقيم الاجتماعية والدينية الأساسية، معتبرا أنه ضمن المنظومة الضرورية للمجتمع المعاصر.
توسع فى إنشاء الكتاتيب
بدوره أكد الشيخ محمد عبدالرازق عمر، وكيل أول وزارة الأوقاف ورئيس القطاع الدينى بالوزارة، أن وزارة الأوقاف تتعاون مع الأزهر الشريف، للتوسع فى إنشاء كتاتيب تحفيظ القرآن الكريم فى المساجد، والإشراف عليها، وتقنين أوضاعها، وتدريب المحفظين ‏بشكل يتناسب ومكانتهم.
وكشف عن إخضاع المحفظين الجدد لاختبارات تستوضح قدراتهم وانتماءاتهم، حتى يتم الحفاظ على «الكُتَّاب» من أفكار التطرف المنحرفة.
هل لتعلم القرآن آثار نفسية إيجابية؟
توضح الإجابة العلمية عن السؤال السابق، أحد جوانب قوة الهوية الإسلامية، وتفردها عن غيرها، إذا تم ربط المجتمع المسلم بالقرآن، إذ يقول الدكتور  عبدالباسط متولى، أستاذ الصحة النفسية بكلية التربية فى جامعة الزقازيق، فى دراسة منشورة إن أثر تعلم القرآن والفقه، على مستوى النمو اللغوى للشخص، إيجابى فى تعزيز البيئة الثقافية له، بما لها من دور أساس فى تفاعله مع المجتمع، بشكل يحقق أهدافه الخاصة، والعامة على السواء، فيضمن أن يكون فردا سويا وصالحا.
وأشار إلى أن فطنة أعداء الإسلام لهذه القضية، كانت سببا فى تركز مخططات محاربة الإسلام، على طمس هويته الثقافية، والدينية، وقطع أواصر العلاقة بين المسلم، والقرآن، بإغلاق الكتاتيب وإضعاف دورها وإهمالها، وقطع المعونات المادية عنها، وصرف التلاميذ إلى الحضانات التى تدرس اللغات الأجنبية، وتنقطع فيها الصلة باللغة العربية، وبالتربية الدينية.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق