روبابيكيا تضاجع شبحًا

الإثنين، 14 مايو 2018 03:06 م
روبابيكيا تضاجع شبحًا
محمود الغول يكتب:

في 25 مايو 1870، قطتي نهشت كف يدي اليسرى، مخلفة فجوة عميقة، لكنني لم أعالجها، فقط اكتفيت بضرب طوق أمني حول الفجوة، وزرعت حولها شجرة مشمش و100 من لافتات «منطقة عمل».
 
قطتي لم تكن يومًا جائعة حتى تنهش لحمي، لكنها تمارس عادتها هذه منذ قضم ذيلها فأر مذعور كانت تطارده.
 
وحين فعلت هي ذلك في كفي، اشتريت لها فيونكة حمراء لتزين بها رأسها، ومنحتها مشطًا عاجيًا، كنت قد حصلت عليه من ساحر أفريقي لم يجد ثمن رحلة القطار الذي سيقله من ذاكرتي إلى حدود الوهم.
 
وفي 13 أبريل 1920، قفزت أنا إلى داخل الفجوة التي في كف يدي، وسرت مع الدم في شرايني.. في البداية لم أكن أعرف وجهتي، لكنني كنت قد عقدت العزم على أن أترك نفسي إلى تيار الدم المتدفق في شرايني، فيحملني إلى حيث يشاء.. لم أكن أعرف وجهتي لكنني كنت متيقن من أنني لن أصل إلى قلبي أبدًا، فهو الذي ينفث الدم إلى باقي أجزاء جسدي الذي بات أطلالًا منذ 27 يناير 1876.
 
سارت الأمور على ما يرام، فالدم يتدفق بحرارة داخل الشرايين والأوردة، لولا تلك الجلطات التي كانت تصادفني من وقت لآخر.. في ساقي اليمنى واحدة وفي رأسي واحدة أخرى وفي عيني اليمنى ثلاث جلطات كبيرة، صنعت منها مظلة ممتدة من ذكريات الطفولة إلى خيالات آخر العمر.
 
عند مدخل رئتي اليمنى، وجدت كمينا أمنيا يتكون من سبعة ضباط ومجند وحيد مزروع في كفه رصاصة لها أوراق وغصن ينتهي إلى عصفور لم يغرد منذ 1944، ولما سألته عن سر خرسه، أشار إلى كتف أحد المارة الذي كان يدخن ما تبقى من سيجارة ألقاها رجل سمين يظلل بفخذه على ثلاث بطات وردية مناقيرها مقفلة بجنزير حديدي لامع.
 
الدم مازال يتدفق، ورحلتي مازالت ممتدة، لكنني وصلت إلى مدخل شريان قلبي بشكل مفاجئ في 3 يونيو 1970.. لقد خانتني حساباتي، وها هو القلب الذي كان يضخ الدم وقد بدأ يسحب السائل الأحمر إلى داخله، وكأنه فتى مطعون في صدره يشهق آخر ما تبقى له من أكسجين.
 
في مدخل قلبي تظاهرات لأنصاف كائنات كثيرة.. نصف لبؤة خضراء ونصف منضدة خشبية ونصف كتاب عن السحر ونصف برتقالة نبتت في أرض الشيطان ونصف طائر بلا أجنحة مذبوح.. وأنصاف أخرى لأشياء وكائنات تسمع لكنها لا تتكلم.
 
في 11 أغسطس 1971 اجتزت تلك المظاهرة، التي تفرق من كان فيها لاحتساء فناجين من ذاكرة منسية بلا طعم.
 
وحين وصلت إلى منتصف القلب تمامًا، وكان ذلك في 21 مارس 1973، وجدت رجلا يشبهني يمسك سكينا يقطع به لحم فخذه ويطعم صغاره.. كانوا يأكلون اللحم والدم يتقطر من جوانب أفواههم وهم غاضبون، يبدو أن مذاق لحم فخذ والدهم لا يعجبهم.
 
وعلى جدار القلب كان أحدهم يدق مسامير مدببة وطويلة، ثم سرعان ما غاب وعاد بوالده فصلبه بين مسمارين، وراح يطعمه كلاما طازجًا كان يحتفظ به في كيس قماش مملوء بالثلج الساخن.
 
أما في قاع القلب، فكانت هناك سيدة تحفر وشمًا على شكل وعد محاط بألف يمين، وحين انتهت من عملها، أخذت تهيل التراب على الوشم وهي تبكي.. وكانت كل دمعة تسقط منها تتحول إلى دخان يطير هنا وهناك ثم سرعان ما يتشكل على هيئة جنية تكشف عن ساقين من المرمر.. لكنه مرمر نيء ينفجر مع أول ضوء للشمس.
 
لا أعرف ما الذي دفعني لأن أحفر في قاع القلب، فقط وجدت رغبة تولد في نفسي تجبرني على نهش الأرض بأظافري، حيث وجدت أجنة غير مكتملة.. كل جنين منها لا يشبه الآخر.. ألوان مختلفة وأحجام متباينة.. فقط شيء واحد مشترك بين تلك الأجنة: كلها تشبهني.
 
في 25 يونيو 1977، حزمت حقائب ذاكرتي بغية الخروج من تلك الفجوة في كفي.. أنا في الطريق لكنني لا اعلم متى أصل.. يا أنت هذه رسالتي وضعتها في زجاجة عطر هي كل ما تبقى من امرأتي، فإذا ألقى بها البحر إليك ولم تجدني داخلها، فحطم الزجاجة ثم أنثر مسحوقها على القبر الذي ستوراى فيه أشلاء رسالتي.
 
المرسل: شبح لم يولد بعد.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق