قضاة الإسلام

الحكيم بن الحكيم.. «يحيي بن أكثم» حرم زواج المتعة وتصدى لفتنة «خلق القرآن»

الإثنين، 28 مايو 2018 11:00 م
الحكيم بن الحكيم.. «يحيي بن أكثم» حرم زواج المتعة وتصدى لفتنة «خلق القرآن»
كتبت - إيمان محجوب

قاضي القضاة وحكيم الفقهاء يحيى بن أكثم، كان من المعدودين في عصره، اشتهر بين الناس بعلمه وفضله، فبات من أهل زمانه من الخلفاء وأصحاب السلطان، وقد علا نجمه زمن المأمون العباسي.

أبو محمد يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن التميمي، نسبة إلى قبيلة تميم، التي ينتمي إليها، وإلى مدينة مرو عاصمة «خراسان»، التي وُلد فيها وهو أحد أحفاد أكثم بن صيفي، حكيم العرب في الجاهلية.

ولد في خلافة المهدي العباسي سنة 159هـ عام 775 من الميلاد، وأصبح عالمًا بالفقه، بصيرًا بالأحكام، حتى اشتهرأمره بين الناس وطلبة العلم، فأخذ عنه جمع غفير من مشاهير علماء الأمة، فمن أبرز تلامذته الذين رووا عنه الإمام الترمذي صاحب السنن، وعلي بن المديني إمام المحدِّثين في عصره، ومحمد بن إسماعيل البخاري صاحب الجامع الصحيح.

وبرع الخليفة المأمون العباسي في مختلف العلوم والفنون، وكان مجلسه يغصّ بأهل العلم والفضل، فلما سمع بيحيى بن أكثم، وعرف ما هو عليه من العلم والعقل؛ استدعاه إليه في سنة 202 هجرية، وامتحنه في بعض المسائل الفقهية، فأخذ بمجامع قلبه، وأمر بألاَّ يُحجب عنه ليلًا ولا نهارًا، فكان أن ولاَّه القضاء في البصرة سنة 202 هجرية، ثم قلَّده منصب قاضي القضاة في بغداد وجعل في يده تدبير أهل مملكته، فأصبح الوزراء ورجال الدولة آنئذ لا يبرمون شيئًا من أحكامهم إلاّ بعد مطالعة يحيى بن أكثم واستشارته.

وتوثقت العلاقة بين المأمون وبينه، فكانا يخرجان معًا إلى النزهات، ويزوره يحيى في قصره ويبيت عنده، ويروي أخباره، ويفضي إليه المأمون بأسراره.

ولا يُعرف أحد غلب على سلطان الخليفة المأمون وصار من أخلص المقربين، وقال طلحة بن محمد بن جعفر: يحي بن أكثم أحد أعلام الدنيا ومن قد اشتهر أمره وعرف خبره، ولم يستترعن الكبير والصغير من الناس فضله وعلمه ورياسته لأمره وأمر أهل زمانه من الخلفاء والملوك، واسع العلم بالفقه كثير الأدب حسن العارضة قائم بكل معضلة، وغلب على المأمون حتى لم يتقدمه أحد عنده من الناس جميعًا.

وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: ذُكر يحيى بن أكثم عند أبي فقال: ما عرفت فيه بدعة. فبلغت يحيى. فقال: صدق أبو عبد الله ما عرفني ببدعة قط ومع فقهه فقد كان رحمه الله مجاهدًا، وله غزوات وغارات، منها أن المأمون وجّهه سنة 216هـ إلى بعض جهات الروم، فعاد ظافرًا.

موقفه في تحريم زواج المتعة

استطاع بن أكثم بذكائه وقوة حجته رحمه الله، أن يحمل المأمون على تحريم زواج المتعة بعد أن كان مقتنعًا به، حينما أمر المأمون يومًا بإباحة نكاح «المتعة»، دخل عليه القاضي يحيى بن أكثم مهمومًا مغتمًا، فقال له المأمون: مالي أراك متغيرًا؟ فقال: هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام. قال: وما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا. قال: الزنا. قال: نعم المتعة زنى. قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}، ثم قال: يا أمير المؤمنين زوجة المتعة ملك يمين؟ قال: لا. قال: فهي الزوجة التي عني الله عز وجل ترث وتورث ويلحق بها الولد ولها شرائطها؟ قال لا فقال له إبن «يحي» فزواج المتعة  زنا، فقال المأمون: أستغفر الله، نادوا بتحريم المتعة فنادوا بها.

كان يحيى بن أكثم صارمًا في القضاء، لا يطعن أحد عليه فيه وكان يختبر بنفسه المرشحين لمنصب القضاء، ولا يُقرُّ لهم إلاّ بعد تحققه من صلاحهم وحسن تأهلهم لهذا المنصب الجليل.

وقيل إنه ولي قضاء البصرة وله عشرون سنة، فاستصغروه، وقيل: كم سن القاضي؟ قال: أنا أكبر من عتاب بن أسيد؛ الذي ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة، وأكبر من معاذ حين وجه به رسول الله قاضيا على اليمن، وأكبر من كعب بن سور الذي وجه به عمر قاضيًا على البصرة. فجعل جوابه احتجاجًا.

 

موقفه من قضية خلق القرآن

كان جريئًا ثابت الرأي في قضية «خَلْق القرآن» التي نادى بها المأمون وحمل الناس عليها، وأوذي من جَرَّائها لفيف من العلماء، فوقف يحيى يعارض المأمون ويتصدى له، ويقول: «القرآن كلام الله، فمن قال إنه مخلوق يُستتاب، فإن تاب وإلا ضُرِبت عنقه».

ولعل هذا الخلاف مما أثار نقمة المأمون وسخطه عليه في آخر حياته، فأبعده عنه، وأوصى أخاه المعتصم بالله بألاَّ يُقَرِّبه ولا يعينه وزيرا، متَّهمًا إياه بخبث السريرة وسوء الطوية.

فلما تولى المعتصم الخلافة بعد وفاة أخيه المأمون سنة 218 هجرية، سار على نهج أخيه في تبني القول بخلق القرآن، وأخذ يمتحن الناس به، وهو يعلم برأي يحيى بن أكثم ومجاهرته برفضه، فعزله عن القضاء، فلزم يحيى بيته وانقطع عن الناس، وامتدت عزلته إلى آخر أيام الواثق بالله.

حتى إذا آل الأمر إلى المتوكل على الله سنة 232 هجرية، ردّه إلى عمله في القضاء بتزكية من الإمام أحمد بن حنبل، بيد أن المتوكل ما لبث أن عزله سنة 240 هجرية، واستصفى أمواله، فرحل إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج ومعه أخته، وعزم على المجاورة هناك.

بقى يحيى بن أكثم مجاورًا بمكة حتى تناهى إليه أن المتوكل رضي عنه وصفا قلبه عليه، فانقلب راجعًا إلى العراق، فما كاد يصل إلى "الرَّبَذة" وهي من قرى المدينة المنورة حتى مرض وأدركته المنية فيها، يوم الجمعة لخمس عشرة خلت من ذي الحجة سنة 242هجريا  و857 ميلادية، وقد بلغ من العمر ثلاثًا وثمانين سنة.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة