حرب كرموز.. سينما تركب الأفيال

السبت، 23 يونيو 2018 01:20 م
حرب كرموز.. سينما تركب الأفيال
حازم حسين يكتب:

 
73 سنة وتسعة شهور وعدة أيام قضتها مصر تحت الاحتلال البريطاني، لم يفلح فيها مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول ومئات من السياسيين والصحفيين والمناضلين، وآلاف من العسكريين والمدنيين وضباط الشرطة في تحريرها، أو تحجيم النفوذ البريطاني، حتى توقيع اتفاقية الجلاء في العام 1954 وخروج آخر جندي بريطاني من قاعدة السويس العسكرية في يونيو 1956، ومن المفارقات الصادمة بعد كل هذه السنوات، اكتشاف أن جموع المصريين بسياسييهم ومناضليهم وضباطهم وأفرادهم كانوا مقصرين، وأنه كان يمكن ردع الاحتلال وتحرير مصر بضابط شرطة ونفر من الجنود المرافقين له في أحد الأقسام الصغيرة في أقصى شمال مصر، صدمة كبيرة أن تذوب كل سنوات التقصير المحتدمة بالنضال والمعارك السياسية والمناوشات العسكرية، في 116 دقيقة فقط، قرر فيها بيتر ميمي وأمير كرارة، أن يستعيدا شرف مصر، ويصححا التاريخ بمعاونة محمد السبكي.
 
لسنوات طويلة اعتمدت السينما الهندية خلطة درامية وبصرية ثابتة، دعك من حالة بوليود الآن وما قطعته من أشواط واسعة على طريق السينما الجادة والمختلفة، فالمركز الثاني عالميا في صناعة السينما عاش طويلا على تعليب الدراما السهلة والسطحية، بأبطال من عوام الناس لكنهم يختزنون في إطلالاتهم العادية صيغة أسطورية للبطل العابر لكل شيء، أيا كان هذا الشيء وحدوده، وهكذا استهلكنا لسنوات أفلاما مسلية لا منطق فيها، واقتنعنا أن أميتاب باتشان يمكن أن يحارب بمفرده جيشا مدججا بالسلاح، أو يتلقى عشر رصاصات ويسقط من فوق مئذنة، ثم يظل سليما معافى، ورغم افتتاننا بهذه الأشرطة الاستهلاكية المعبأة بغاية إرضاء الزبون، أخذنا موقفا مضادا منها، حتى أننا صرنا نَصف أي موقف أو قصة غير منطقيين بأنهما «فيلم هندي»، ونستنكر تصرّف من يسعى لخداعنا واستغفالنا بتساؤلات استنكارية من عيّنة «انت فاكرني هندي؟» و«شايفني راكن الفيل بره؟» حتى أصبحت المتعة المتولّدة لدينا عن السينما الهندية معزولة تماما عن المنطق، نستهلك القصص والحكايات باستمتاع كلعبة مُسلية، لكنها تظل في النهاية بالنسبة لنا مجرد «سينما تركب الأفيال».
 
في السنوات الأخيرة يبدو أن بوليوود اكتشفت مأزقها، فأعادت صياغة تصوراتها عن السينما، في جانب كبير من الإنتاج، حتى أصبحت في الواجهة عالميا، وبين أقوى وأهم صناعات السينما - وإن ظلت بعض آثار الخلطة القديمة حاضرة في أفلام للاستهلاك المحلي أو لأسواق الشرق الأوسط - لكن على الجانب الآخر فتش سينمائيون آخرون وبحثوا وشاهدوا 15 ساعة وثائقية و1200 صورة وقرأوا 5 كتب (أرجوك لا تنظر للأرقام باستهانة وسخرية)، حتى يعيدوا استنساخ الخلطة الهندية بحذافيرها، وهكذا اشترى محمد السبكي الفيل، واعتلى ظهره بيتر ميمي وأمير كرارة وطابور من النجوم، ليتحفونا بـ«حرب كرموز».. الفيلم الهندي بامتياز.
 
يبدأ شريط «حرب كرموز» بمشاهد تأسيسية لعلاقة البطل، البكباشي يوسف المصري/ أمير كرارة، بشقيقتيه/ روجينا وإيمان العاصي، تبدو فيها - رغم العاطفية والطابع الحميمي - سمات ذكورية واضحة، ربما لا تختلف في شيء عن القيم الاجتماعية السائدة لدى العوام وقتها، ثم ينطلق الضابط إلى القسم ليفاجأ بواقعة اغتصاب، فتاة عادية ممزقة الثياب تعرضت للاغتصاب من ضابطين بالجيش الإنجليزي، يذهب «يوسف» لموقع الحادث ليعود بأحد الضابطين (قُتل الآخر)، ويصطحب معه الشابين المتورطين في القتل، يعلم القائد الإنجليزي بالأمر فيرسل عضو مجلس النواب عن الدائرة، رياض الشندويلي/ بيومي فؤاد، ومعه قوة إنجليزية محدودة، طالبين استعادة الثلاثة، يرفض يوسف وتحدث مشاجرة، فيحتجز ضابط القوة الإنجليزية الآخر، وتبدأ المعركة.
 
منذ اللحظة الأولى يضع الفيلم نفسه في محنة المساءلة التاريخية، رغم أن صناعه لم يقصدوا قطعا صنع شريط تاريخي، كل ما في الأمر أنهم أرادوا حكاية مشوقة وفيلما مُسليا وزحاما من مشاهد الحركة، لكنهم في رحلة البحث عن هذا الهدف ورطوا أنفسهم في التاريخ، ويبدو أنها كانت ورطة أكبر من قدرات السبكي، باعتباره صاحب القصة، وبيتر ميمي باعتباره المخرج وكاتب السيناريو.
 
الأجواء العامة للفيلم تشير إلى حقبة الملكية، التفاصيل العابرة تتضارب، فبينما يستعرض الفيلم ملابس واكسسوارات وأسلحة وأغنيات تعود للعشرينيات والثلاثينيات، نعرف مع تنامي الأحداث أن عزت الوحش/ محمود حميدة، المحتجز في قسم الشرطة كمجرم، كان ضابطا في الجيش، رفض دعم الإنجليز في مواجهة الألمان خلال الحرب العالمية الثانية، فطُرد من الخدمة ليشكل «عصابة» حسبما يصفها أحد جنود الشرطة، لاستهداف الإنجليز وقتلهم، ما يعني أن الأحداث تالية للعام 1945، وبينما يستعرض أحد المشاهد عام تخرج الضابط يوسف المصري في مدرسة البوليس (اعتبرها الفيلم كلية رغم أن هذا المسمّى حديث جدا قياسا على زمن الحكاية) بتاريخ 1935، وبالنظر إلى رتبته «بكباشي» فالأحداث تدور في العام 1950، في الوقت نفسه تحضر العاهرة زوبة/ غادة عبد الرازق، في قسم الشرطة وقت الأزمة؛ لتجديد تصريح البغاء الخاص بها، وهي المهنة التي أُلغيت تماما في العام 1949، وهذا التضارب الذي قد يراه البعض عارضا وغير مؤثر في مسار الحكاية وتتابع أحداثها، يسيطر للأسف على كامل الشريط.
 
«مسار الحكاية» هذه نقولها مجازا، لأنه لا حكاية ولا مسار، مجرد رغبة في إعداد طبخة متخمة بالبهارات التسويقية، بافتعال مشاجرة كبيرة، وقصور في التسبيب المنطقي لها، إلى حد أن الضابط الذكوري الذي يصفع شقيقتيه على وجهيهما، يشعل حربا للقصاص لفتاة مُغتصَبة، قد تُيسّر له قيمه التقليدية التي جرى التأسيس لها بتعامله مع أختيه، أن يراها هي المخطئة، وفي الوقت الذي يحتجز فيه ضابطا سابقا بالجيش لأنه كوّن مجموعة فدائية قتلت عشرات الضباط الإنجليز، يراهن بحياته وحياة جنوده لإنقاذ شابين قتلا ضابطا واحدا، هكذا بمنتهى التعسف والسطحية والاستسهال يتم التأسيس للصراع وتنميته، وفتح الطريق لمعركة واسعة تفوق قدرات الجيوش النظامية، لكنها بالتأكيد لا تفوق قدرات بيتر ميمي وأمير كرارة.
 
في هذا السياق المرتبك لا يمكن الحديث عن دراما أو شخصيات، الحدث خلقته المصادفة الاعتباطية دون تأسيس حقيقي، والبشر حاضرون كوقود للمعركة، كل تفاصيل الشريط في خدمة «العركة» بلهجة أهل الإسكندرية، وفي سبيل القفز على هذا البناء المهلهل، جرى حشد كتيبة من النجوم لتسد ثغرات الحكاية وتداري هشاشة الشخصيات، ليس فقط محمود حميدة وبيومي فؤاد وفتحي عبد الوهاب وغادة عبد الرازق ومصطفى خاطر وأحمد السقا، ولكن وصل الأمر لاستدعاء وجه هوليودي معروف، سكوت أدكينز بطل سلسلة بويكا الشهيرة، في عشرة مشاهد تقريبا، ثلاثة أرباعها مشاجرة وتكسير خشب، في استكمال مباشر لأجواء الخناقة، باعتبارها روح الفيلم، أو ما صُنع من أجله الفيلم في الأساس.
 
قصة محمد السبكي لا أساس تاريخي لها في سياقها الجغرافي والتاريخي، كرموز الأربعينيات، لكنها استدعاء لرتوش وظلال من قصص أخرى، لعل أشهرها دنشواي في 1906، وفوق هذا فهي تيمة تقليدية، وغير مهمة أصلا، إذ لم تحضر كأساس حامل للفيلم، وإنما كمبرر ظاهري للصراع/ الخناقة، وكان يمكن الاستعاضة عنها بتيمات أخرى تشهد تقابلا بين الطرفين/ المصري والإنجليزي، وفي ضوء هذه الصيغة العادية سار بيتر ميمي في السيناريو والحوار، إن جاز القول إننا أمام سيناريو وحوار بالمعنى السينمائي، وليس خريطة بصرية للمعارك، وحشوا لغويا لملء الفراغات بين الاشتباكات، هذا الملء نفسه كان السبب في حالة المراوحة بين الكوميديا والميلودراما والانحرافات النفسية الحادة للشخصيات في أجواء تغلب عليها حالة التوتر والحرب التي يُشكل الاهتزاز النفسي فيها هزيمة مبكرة، ووسط هذه الأجواء لم يكن مهما لدى بيتر، السيناريست والمخرج، تسلق مصطفى خاطر لمواسير الصرف أو قفزه بين الأسطح بترهلاته وشحمه، ولا تسلق وقفزات أمير كرارة بجسده الثقيل وانتصاره في الاشتباك الجسدي غير المتكافئ مع سكوت أدكينز، لا جدارة للمنطق، انس كل ما قيل عن الدراما وصناعتها، ودعنا نذهب إلى المعركة، ونحرز أكبر قدر من الضرب والتكسير والتفجير.
 
خلل التأسيس الأول، الذي أنتج خللا في الرؤية، كان طبيعيا أن يذهب ببيتر ميمي وشريطه إلى الجحيم، وسيل من الثغرات التي بالتأكيد لا تعنيه، وبالتأكيد تجرأ عليها لثقته في أنها لا تعني نوعية المشاهدين التي يُراهن عليها، لهذا لا تسأل مثلا لماذا قرر الضابط أن يودي بجنوده إلى الهلاك واستشعر حُرمة أن يُصاب اللصوص بأذى فأطلقهم من محابسهم، وفي الوقت نفسه استبقى عزت الوحش محبوسا؟ أو هل يتسق الانتصار للقانون مع تحرير الخارجين على القانون؟ ولماذا خضع لرغبة صديقه الرافض في الخروج مع المحبوسين وأخرج معهم الجندي العجوز بملابسه الشرطية وهو يعرف أن مصيره الموت؟ أو لماذا رفض خروج الفتاة المغتصبة، هند/ مايان السيد، خوفا عليها من القتل وإغلاق القضية، وحينما هرب من القسم اصطحب معه الضابط الإنجليزي وتركها خلفه؟ وبالضرورة لن تسأل عن لجوئه للحلول الساذجة كلما ضاق الخناق على عنقه، وهنا أقصد بيتر ميمي، المخرج والسيناريست، كأن تكتشف فجأة أن قسم الشرطة يملك ضمن تسليحه ديناميت ومتفجرات وقنابل يدوية، وهو أمر لم يحدث في تاريخ الشرطة لا في الأربعينيات ولا قبلها أو بعدها، أو أن ينقذ عزت الوحش/ محمود حميدة، الضابط الهُمام من حبل المشنقة برصاصة من بندقية خرطوش عتيقة، تصيب حبلا غليظا ملفوفا بإحكام فتقطعه، ولا يبادر أحد الجنود الإنجليز المدججين بالسلاح باقتناص الصيد الثمين، الذي خسروا عشرات القتلى، وأوقعوا ضباطا وجنودا من القسم بينهم صديقه وخطيب أخته، قبل أن يفوزوا به فجأة في طلعة شهامة غير مفهومة لإنقاذ لص، كل هذه التفاصيل لا تعني بيتر، ولا يجب أن تعنيك أيها المشاهد، فالغاية التعاقدية التي أنتج السبكي عمله من أجلها، تذهب بنا جميعا لضفة أخرى غير المنطق والصنعة المحكمة، وعليك وأنت تقطع التذكرة أن تكون فيلا مطيعا ومتوقعا لتفاصيل هذا التعاقد، وملتزما به.
 
أسوأ ما في الفيلم، أنه لم يحترم شخصياته، وللأسف فإن هذا الاحترام هو المدخل الوحيد لاحترام المشاهد، أي يمكن القول إن الفيلم لم يحترم المشاهد، غادة عبد الرازق تدخل القسم عاهرة وفي غضون دقائق تصبح فاضلة، وتتطلع للزواج من الضابط الذي كانت ترجوه قبل دقائق أن يجدد ترخيص البغاء الخاص بها، اللص عصفورة «مصطفى خاطر» يتحول فجأة مناضلا وطنيا، الضابط المكلف بمهاجمة القسم/ فتحي عبد الوهاب، يرفض طلب يوسف المصري بالتنسيق حتى لا يقتل الجنود بعضهم، ثم فجأة يهاجم قوة الجيش الإنجليزي كفدائي بالملابس الرسمية، وحتى عضو مجلس النواب المتعاون مع الإنجليز/ بيومي فؤاد، يعود لوطنيته في دقائق ويخبر يوسف بخطة الهجوم على القسم، ومترجم الجيش الإنجليزي، وصاحب سيارات النقل المتعاون مع الاحتلال، فجأة يتوب الجميع عن سياقاتهم الاجتماعية والنفسية التي صنعتها ظروف وسنوات محتدمة ومتشابكة، ويتحولون أشخاصا آخرين دون تبرير أو تسبيب، وكأنهم كانوا نياما منذ الاحتلال الإنجليزي في 1882، أو أن جرائم الاحتلال لم تبدأ ولم تحدث أصلا إلا في كرموز.
 
الحكاية بهذا المسار الساذج تؤسس لإدانة واسعة للمجتمع المصري وللدولة ومؤسساتها، لماذا صمت الملك والوفد والأمن والمواطنون على جرائم الاحتلال إذا كان الأمر سهلا والانعطافات التصحيحية في المتناول؟ وكيف بقي الاحتلال كل هذه السنوات ما دام هشا، وما دمنا أبطالا كما يصور الفيلم الأمر؟ وإذا كانت الانتصارات التاريخية صنيعة المومسات واللصوص والمتعاونين مع الإنجليز والخارجين على القانون، فأين المناضلون والفدائيون والسياسيون الوطنيون وأبطال هذا البلد؟
 
كل هذه الأسئلة الضخمة لا تعني محمد السبكي ولا بيتر ميمي أو أمير كرارة، ولم تعبر أذهانهم بالتأكيد، ولعلهم يُصعقون ويرتجفون لو قرأوها هنا، فالأمر ليس دراما تاريخية ولا حكاية عن الوطنية، غاية ما هناك خلطة تجارية فيها قدر من الضحك والميلودراما والإفيهات الجنسية والمعركة الحربية، وفضاء محدود وثابت لإدارة هذه العناصر دون إفراط في التكلفة، أو جهد في التنفيذ قد لا يقدر عليه بيتر ميمي في سياق آخر، وأسهل الوصفات التي يمكن أن تحقق هذا مجموعة من المسلحين ثابتي المكان/ قوة في قسم شرطة، ومجموعة أكثر تسليحا تغير عليهم/ قوة جيش، ولا يمكن تحقيق هذا إلا بالعودة في الزمن واستدعاء الشرطة المصرية في مواجهة الجيش الإنجليزي.
 
المؤسف أن هذا الاستدعاء لم يراع الحدود الدنيا من ضبط الأمور، فالضابط يقرر دون رجوع لقادته، والجنرال الإنجليزي يحاصر القسم دون رجوع لقادته أو تواصل مع قادة الضابط المصري أو الحكومة أو حتى الملك، وحينما يفتح قناة اتصال فإنه يفتحها مع عضو مجلس نواب، لا صفة تنفيذية له، وليس مع مسؤول بالحكومة أو وزارة الداخلية، والجنرال نفسه يصدر حكما بالإعدام على لص بعد دقائق من الإمساك به، دون محاكمة ولو صورية كما كانت المحاكمات العسكرية وقتها، بل ينقض الحكم ويستبدل به حكما آخر مع خروج الضابط من القسم، دون محاكمة أيضا، وهذا الجنرال ومعسكره معزولان تماما عن قيادة القوات الإنجليزية وعن السفير والمندوب السامي البريطاني، كما أن من صلاحياته كما أراد له بيتر ميمي أن يصدر حكما بالعصيان ويذيعه في الإذاعة المصرية بالقاهرة، دون معرفة أو تدخل السفير أو الحكومة أو الملك، هكذا بمنتهى البساطة والتبسيط، قسم شرطة محاصر في غيبة الدولة والنظام والحكومة والإنجليز أنفسهم، وكأن الجنرال يقود عصابة لا فرقة عسكرية تتبع قواعد، وهذه العصابة تقيم في معسكر بدائي عبارة عن عدة خيام، ويُفترض أنه مقر القيادة في الإسكندرية، بينما كانت المعسكرات والثكنات وقتها مدنا مكتملة، بوحدات مشيدة وطرق ومخازن ومطاعم وأماكن للرياضة والترفيه، ولكن كل هذا لا يهم، المجد للخلطة وحسب.
 
هذه الخلطة أنتجت مجانية كبيرة في المواقف والعلامات البصرية، أن يقطع الإنجليز الماء عن القسم وبعد يوم كامل تقريبا تظهر غادة عبد الرازق بزجاجة مياه، أن تهتف شقيقتا يوسف باسمه قبل محاولة شنقه ولا يلتفت لهما الإنجليز أو يمسكوا بهما، أن يبدل أمير كرارة ملابسه مع محمود حميدة فلا يظهر فارق البنية والمقاسات، وأن تظل الفتاة المغتصبة يومين في القسم ولا يبحث عنها والدها إمام المسجد، أو تشتعل النار في الترسانة وتظل ألسنة اللهب مطيعة محصورة في حيزها الأرضي لا تطال المراكب، ثم نفاجأ لاحقا باحتراق مركب وحيدة في غفلة من المخرج، بينما تلتصق بها مراكب أخرى لم يمسسها سوء، وعلى هذا المنوال يمكنك أن تحصي عشرات الثغرات والفجوات والمصادفات والعلامات المجانية، وعليك أن تقفز الأسئلة التافهة بشأن هذا الضابط الاستثنائي بتركيبته النفسية المتحفزة، وكيف وصل لرتبة بكباشي ومأمور قسم دون اصطدام بالإنجليز، أو ملاحظات تمنعهم من رفض ترقيته، في ظل تدخلهم الواسع في كل أمور الدولة المصرية؟! وأيضا كوميدية المشهد الأخير بإعدام الضابط على الورق وإخراجه باسم وهيئة جديدين، وتسليم جثة الضابط الإنجليزي بدلا منه، كحل نهائي للحرب الضخمة التي أكلت معسكرا كاملا لجيش تحركه غطرسة المحتل، ولا يهم باقي الضباط والجنود وعوام الناس الذين لن ينسى الإنجليز ما فعلوه مع جنودهم في لوثة بحثهم المحموم عن البطل المغوار.. ثغرات لا حصر لها في متناولك، وأنت وطاقتك، وما استطعت من العد والحصر.
 
على الصعيد الفني، لا يمكن الحديث عن قصة كما أشرنا، تيمة تقليدية لا ملامح مميزة لها، يتولد فيها الصراع من نقطة باردة، وينكشف مجالها الدرامي ومنتهاها مع اللقطات التأسيسية. سيناريو بيتر ميمي سطحي وتعامل مع الحكاية في وجهها التشويقي الحركي فقط، وحشد خليطا من الشخصيات غير المتجانسة لإضفاء تنوع مصطنع على النسيج البشري للموضوع، فتورط في ثغرات تخص بناء الشخصيات ومسارات الأحداث، ابتسر كثيرا من الأبعاد، وغيّب الإحالات المرجعية، ولم يترك للكاراكترات فسحة للتنفس خارج صندوقه الضيق بمساراته الآلية المحددة عنوة. صورة حسين عسر تبدو جميلة ومنمقة، جمالا ظاهريا، لكنها خارج إطار الطرح الواقعي الذي اعتمده الفيلم، في انفصال جذري بين الحكي والتشكيل، بين الحامل الحكائي والمحمول البصري، فأفرط مدير التصوير في توظيف الإضاءة مقتربا بها من حالة الإنارة التي لا تحمل بُعدا تعبيريا ولا تتماشى مع زمنها، وصاغ كادرات متزنة وثابتة لا تخلص كثيرا للزمن والظرف المرتبك، كما كان اعتماد اللقطات البعيدة في مشاهد المعارك فاضحا لها وكاشفا لضعف تكنيك التنفيذ، فكان المعادل البصري للسيناريو اللاهث المشحون أقرب لعروس تخرج من تحت الأنقاض بمكياج طازج وفستان ناصع البياض. ميكساج طارق علوش لم يكن موفقا في كثير من مناطق الفيلم، فكان التداخل بين المؤثرات وعناصر شريط الصوت الأخرى غير متناسق كثيرا، مزعجا في بعض الأحيان، وضوضائي الطابع في أحايين أخرى، بشكل نال كثيرا من جماليات وتأثير شريط الصوت. ملابس مها بركة وخالد عبد العزيز كانت جيدة إلى حد ما مع عناصر الجيش الإنجليزي والشرطة، فيها استسهال كبير مع المومس والفتاة المغتصبة وزوجة الضابط الإنجليزي القتيل وشقيقتي الضابط المصري واللصوص، ومع أغلب المجاميع مع الاختلاف الشديد في الملابس والهيئات وتسريحات الشعر.
 
مونتاج باهر رشيد حافظ على الإيقاع العام للفيلم بصورة نسبية، وإن كان أصابه قدر من الترهل في بعض مشاهد الحوار والديالوجات والرقص، بسبب القطعات التي خلقت فجوات كبيرة في الشريط، كأن يعرف الجنرال الإنجليزي تفاصيل الحادث وأسماء المتهمين دون تمهيد أو وصول لأحد شهود الواقعة الذين وصل لهم الضابط المصري، أو تأخير يحقق تناميا نسبيا يبرر انتقال الخبر إليه، أو يكون الضابط المجنون/ سكوت أدكنز ملما بتفاصيل الصراع بينما لم يلتق الجنرال غير مرة واحدة في لقاء عابر دون حوار، وأن ينخرط سريعا في الدفاع عن الجيش الإنجليزي بينما قدمه الفيلم محبوسا لتمرده على هذا الجيش، أو يحيلنا باهر لمشهد المركب المحترقة بينما في الأفان تيتر لم تتجاوز النار بؤرا متباعدة ومحدودة على الأرض، وكان أكبر ارتباك في التقطيع مع سباق اللص عصفورة وضابط الجيش الإنجليزي للوصول لشقيقتي الضابط المصري في منزلهما، فكان مقص باهر رشيد مرتبكا وساذجا في تقدير التتابع والتزامن، فأوصل معاني بصرية عكس ما انتهى إليه الحدث. أما الموسيقى فهي خليط مصنوع من موسيقات عدة، أبرزها اللعب على تيمات الفيلم الشهير Dunkirk، مع منحها طابعا شعبيا ببعض الجُمل ذات النكهة المحلية، لكن شريط الموسيقى في مجمله عادي وغير ملفت، ويبدو أن بيتر ميمي تخيل أن الحضور الكثيف للموسيقى قد يمنحه طابعا ملحميا ويقربه أكثر من أفلام المعارك، فأفرط في توظيف الموسيقى على حساب الحوار ولحظات الصمت والمؤثرات.
 
وسط هذه الفوضى العارمة من اللا شيء، يصعب الحديث عن التمثيل، إذ لا شخصيات يتقمصها الممثلون لنتحدث عن إجادة أو اهتزاز، مجرد عرائس ماريونيت يجري توظيفها كمفاتيح لخلق فاصل طويل من الاشتباك والقتل والتفجير ومطاردات السيارات (سيئة التنفيذ بالمناسبة)، سقطت كل الشخصيات تقريبا في فخ التنميط وأحادية البعد والفقر الشديد في نسيجها النفسي والشعوري، بتقابلات وتقلبات حادة بين الخير والشر، الأبيض والأسود، وكنس متعسف للقدر الضئيل من اللون الرمادي في وعي حصة ضئيلة من المعروض البشري، كما كانت الانعطافات الحادة والنقلات الميلودرامية في مجال حكائي ضيق يستهلكه الهبد والخبط والتكسير عائقا حقيقيا أمام فريق التمثيل، صادر منهم إمكانية التأسيس المرجعي للشخصيات فيما خارج الشريط، لعقلنة وتسبيب تحولاتهم على وجه الشريط، فجاءت اللحظات الميلودرامية أو مشاهد الكوميديا والإفيهات الجنسية كاسكتشات منزوعة من سياقها الدرامي والإنساني، أو مقحمة على سياق الفيلم وغايته التي يسير لها بإجبار من المخرج وإذعان من كل التفاصيل، لتؤكد الصورة النهائية خفة الشخصيات وسطحيتها أكثر من تأكيدها للروابط الطارئة بينها، أو تعميقها لمصير البطل التراجيدي الذي اختاروا السير فيه برضا وقناعة، وبدرجة ضعيفة يمكن القول إن مايان السيد كانت جيدة نسبيا في دور الفتاة المغتصبة، بانفعالات محسوبة وأداء متوازن في توظيف الصوت والملامح لصنع خليط من الانكسار والصدمة والخوف، وبعدها يمكننا إغلاق ملف التمثيل، فالشخصيات كلها يسهل الاستغناء عنها دون أن تهتز الحكاية أو تنقص اللعبة شيئا، أو تقل حرارة العراك أيضا وهي الهدف الأسمى لهنود «كرموز»، شقيقتا الضابط لا أهمية لوجودهما، المومس الفاضلة كذلك، الفدائي (زعيم العصابة كما يسميه الجنود)، واللص، والضابط صديق البطل، والجندي العجوز، كل الشخصيات كانت أعواد حطب في فرن الخناقة، مجرد وقود لإنجاز مزيد من التفجيرات، التي تسببت شهوة البحث عنها في أن يفجر الإنجليز القسم رغم تجنبهم لهذا منذ البداية خوفا على الضابط الإنجليزي، وأن يقتل الضابط المصري غريمه المجنون بقنبلة يدوية، رغم فارق القوة والسرعة، فالاطمئنان إلى غرام الجمهور بالعنف وإعادة إنتاجه بنكهة غربية طبيعي أن يقود مخرج لا يُحكم القبض على أدواته إلى ما هو أقسى وأفدح مما رأينا.
 
يبقى القول إن الفيلم مُسلّ، ويعتمد خلطة استهلاكية ترضي تطلعات القسم الأكبر من جمهور السينما حاليا، خاصة في موسم عيد وخروجات عائلية وشبابية، بمزيج من الكوميديا والميلودراما والرقص والإيحاءات الجنسية والعنف، مقولبة في صيغة وطنية تغذي النوستالجيا والترحال النفسي لماضي الوطن التليد، على طريقة السينما التي تركب الأفيال، وفي هذه المعادلة نحن الأفيال للأسف، المطية السهلة للسبكي وبيتر ميمي لتقديم سينما رخيصة واقتناص أرباح ضخمة، على طريقة «بيع الهوا في قزايز» والخروج بالصيت والغنى معا، فالفيلم بعيدا عن شباك التذاكر الذي يحرز فيه تقدما كبيرا منذ انطلاق عرضه، يخسر بجدارة على ميزان التقييم الفني، ليس باعتبارات مجردة بالطبع، ولكن حتى بالنظر إليه في سياقه المُختار من أصحابه، كفيلم تجاري خفيف، إلا لو ارتضينا، وارتضى صناعه، أن نتعامل معه كواحد من أفلام الأفيال.. ولا عزاء للأفيال على شباك التذاكر.

 

 

تعليقات (1)
من أين أتى هذا الناقد!
بواسطة: Sameh Ramadan
بتاريخ: الإثنين، 09 يوليو 2018 06:24 م

تحية تقدير واحترام يستحقها حازم حسين، الذي جعلني أتساءل بمجرد الانتهاء من قراءة هذا المقال:من أين أتى هذا الناقد! فهو كاتب يملك مقومات الكتابة النقدية بحرفية شديدة، فضلًا عن لغة متماسكة وقواعد متقنة، لم تعد متاحة للكثيرين من الصحفيين، إن لم يكن أغلبهم، لهذا استحق أن أشيد به وأقدم له التحية.

اضف تعليق