ترامب يضع الناتو في «بيت الطاعة».. واشنطن تستدعي «عفريت بوتين» لتقليم أظافر أوروبا

الخميس، 12 يوليو 2018 09:00 م
ترامب يضع الناتو في «بيت الطاعة».. واشنطن تستدعي «عفريت بوتين» لتقليم أظافر أوروبا
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب
حازم حسين

أفلت حلف شمال الأطلنطي "ناتو" من الفخ، فبعد أسابيع من التوتر والتصعيد المباشر في التصريحات بين الدول الكبرى بالحلف، شهدت القمة 26 تهدئة إيجابية، رغم أنها جاءت باستجابة للإملاءات الأمريكية.
 
في الأسابيع الماضية شنّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هجوما حادا على دول الناتو، منتقدا عدم زيادة النفقات الدفاعية للحلف وتحمل أعضائه فاتورة أكبر مما تتحملها الآن، معتبرا هذا السلوك أمرا ضارا بالولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها، وهو ما ردّت عليه دول عدة بالاتحاد، ليدخل "الناتو" دائرة واسعة ومرتبكة من المناوشات.


الناتو يستجيب للضغوط الأمريكية
في قمته السادسة والعشرين التي تستضيفها العاصمة البلجيكية بروكسل مؤخرا، وافقت دول الناتو على زيادة النفقات الدفاعية، في استجابة متأخرة لضغوط أمريكية قائمة ومتصاعدة منذ فترة بعيدة، لكنها لم تكن استجابة سهلة، وإنما جاءت تحت غطاء من القصف المكثف.

الهجوم الكاسح الذي بدأ به ترامب وفرضه على مناخ القمة، وسط إعلان قائمة اتهامات للدول الأعضاء، ولألمانيا التي تحتفظ بعلاقات سياسية واقتصادية عميقة مع موسكو، دفع أمين عام الناتو، ينس ستولتنبرج لطلب عقد جلسة مغلقة، لم تكن مطروحة على جدول الأعمال، لاحتواء حالة الصراع، لتغادر أوكرانيا وجورجيا الجلسة التي اقتصرت على الحلفاء فقط.

بدأ القصف الأمريكي بهجوم حاد من الرئيس ترامب، وجه فيه طاقة غضبه تجاه الأعضاء الذين وصفهم بأنهم "لا يدفعون ما عليهم"، بينما تعامل أمين عام الحلف، ينس ستولتنبرج، بقدر من التحفظ الهادئ، معتبرا لهجة الرئيس الأمريكي "مباشرة جدا"، لكنه أشار في الوقت ذاته إلى توافق الأعضاء الـ29 على أغلب الملفات، وفي مقدمتها تقاسم العبء المالي بقدر من العدالة، وتعزيز قدرات "ناتو" العسكرية.

الجانب الأوروبي ذهب إلى بروكسل مشحونا، بينما تنفتح الاحتمالات على كل المخاوف الممكنة وربما غير الممكنة، وهو ما ترجمته تعليقات كثير من الزعماء والقادة في دول أوروبية عديدة، أعربوا عن قلقهم من قمة الحلف وأجوائها الصعبة والشائكة، خاصة أن ترامب استبق مشاركته فيها برسالة صادمة ومزعجة للجميع، اعتبر فيها أن لقاءه المرتقب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في "هلسنكي" ربما يكون أسهل من قمة "الناتو"

بعيدا عن اهتزاز قادة الدول الأعضاء، كانت المؤسسات الأوروبية أكثر ثباتا، وربما تجلّى في مواقفها قدر من التحدي، كان واضحا بدرجة كبيرة في تعليق رئيس الاتحاد الأوروبي، دونالد توسك، الذي عبر عن انزعاجه من انتقادات ترامب اليومية لشركائه في الحلف، مطالبا الرئيس الأمريكي بأن يكون "أكثر تقديرا لحلفائه"، واستكمل أمين حلف الناتو، ينس ستولتنبرج الاشتباك بالإعراب عن رغبة حلفاء الولايات المتحدة في الحصول على إيضاحات تفصيلية حول نوايا ترامب قبل قمته المرتقبة مع الرئيس الروسي، مشددا على أن "الحلفاء لا يجب أن يزيدوا إنفاقهم لإرضاء الولايات المتحدة، بل لأن هذا الإجراء يصب في صالحهم".


البيزنس مان يراوغ سيدة أوروبا القوية

الغطاء الناري الكثيف الذي استبق به ترامب قمة الحلف الحالية، شمل أبرز دول "الناتو" من أوروبا، إذ هاجم الرئيس الأمريكي ألمانيا التي لم تزد إنفاقها العسكري وفق البرنامج المتفق عليه في 2014، قائلا إنها "دولة غنية يمكنها زيادة مساهمتها اعتبارا من اليوم التالي دون أي مشكلة".

ضربات ترامب لألمانيا انطلقت من ميزانية الحلف، لتعبر إلى مساحة أوسع من مجالات إثارة الخلاف، إذ انتقد استيراد برلين للغاز من روسيا معتبرا أن هذا السلوك يؤثر على الناتو، باعتباره دعما مباشرا لموسكو التي يضع الحلف ضمن أولوياته المخاطر المحتملة من جانبها، ويصمم كثيرا من برامجه وخططه المستقبلية عليها كعدو افتراضي.

اعتبر ترامب في هجومه أن ألمانيا تدعم الاقتصاد الروسي في الوقت الذي تتخلى فيه عن التزاماتها تجاه الحلف، قائلا إنها "رهينة لروسيا، وخاضعة بالكامل لسيطرتها، وتدفع مليارات الدولارات لروسيا"، وهو ما ردت عليه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأن برلين تأخذ قراراتها بشكل مستقل وفي ضوء مصالحها.

الانتقاد المباشر للحكومة الألمانية يأتي على خلفية مشروع خط "نورستريم" للغاز، المقرر أن يربط روسيا بألمانيا بشكل مباشر، وسبق أن ندد به ترامب مرات عديدة وطالب ألمانيا بعدم استكماله، ويتوافق الرفض الأمريكي مع موقف أوروبي متشدد من الأمر، فبلد مثل بولندا مثلا تعتبره غير مهم لأوروبا، ومجرد طريق لتقديم الأموال لروسيا لاستخدامها ضدها.

بين الهجوم وخط "نورستريم" تقف الولايات المتحدة كصاحب مصلحة مباشرة، فدول الاتحاد الأوروبي التي تستورد 66% من احتياجاتها الغازية (360 مليار متر مكعب في 2017 بينها 55 مليارا من الغاز المسال) بقيمة 75 مليار يورو، حسبما تشير الإحصاءات الأوروبية، توفر نصف هذه الكميات من روسيا، بينما تصدر الولايات المتحدة 17.2 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، وتسعى لاختراق مزيد من الأسواق الأوروبية لزيادة صادراتها.

 
سجادة حريرية بين الإليزيه والبيت الأبيض
أجواء التهدئة التي شهدتها أروقة الحلف عقب إنجاز توافق على أرضية الرغبات الأمريكية، انعكست على مناخ العلاقات بين الولايات المتحدة وفرنسا، بعد فترة من التوتر شملت مواجهة أمريكية عنيفة لكل القوى الأوروبية، ففي لقاء بين ترامب ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون أمس، على خلفية قمة الناتو، قال الرئيس الأمريكي إنه "لا توجد قطيعة في العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا، رغم التوترات التي تشهدها قمة الحلف في بروكسل".
 
الرئاسة الفرنسية أفادت من جانبها، في بيان صادر عن قصر الإليزيه، بأن ترامب أكد خلال اللقاء الثنائي تمسك الإدارة الأمريكية وتمسكه بشكل شخصي بعلاقات عميقة من القارة الأوروبية، وحمل كلامه رسائل إيجابية في هذا الإطار، ونوّه البيان بالأجواء الإيجابية والودية التي سادت لقاء الرئيسين، ومساحة التوافق التي تجلّت في استعراضهما للملفات الدولية والقضايا ذات الاهتمام المشترك.
 
نتائج اللقاء الخاص بين ترامب وماكرون لم يُزل الأشواك والغيوم التي عبّأت المسافة بين الولايات المتحدة وفرنسا فقط، وإنما فرشت سجادة حريرية بين البيت الأبيض وقصر الإليزيه، بشكل سينعكس بالتأكيد على كثير من الملفات المشتركة، ربما في مقدمتها الحضور المشترك في الملف السوري، والعقوبات الأمريكية المرتقبة على إيران.
 

أوروبا تتراجع أمام الغول الأمريكي
فيما يخص مساعي زيادة النفقات العسكرية لحلف شمال الأطلنطي، قال دونالد ترامب في مؤتمر صحفي على هامش القمة، إن الدول الأعضاء بـ"الناتو" نجحوا في الوصول إلى توافقات مهمة، وأحرزوا تقدما كبيرا فيما يخص ملف الإنفاق العسكري للحلف، متابعا: "قلت للزعماء في الناتو إنني لن أكون راضيا ما لم يزيدوا إنفاقهم. الولايات المتحدة لم تُعامل في السابق بعدلٍ، لكنها الآن تحصل على هذه المعاملة. أؤمن بالحلف، ونلتزم بأن يظل قويا جدا".

في زحام المواقف المتضاربة، اضطر زعماء الدول أعضاء الحلف إلى تجاوز برنامج أعمال القمة 26، وعقد اجتماع أزمة لم يكن مُخططا له، وهو الاجتماع الذي أذاب كثيرا من جبال الجليد القائمة، وحمل رسائل إيجابية للإدارة الأمريكية، كانت نتيجتها أن وصف ترامب الاجتماع بأنه "رائع وشهد روحا جماعية قوية". 

التراجع الأوروبي أمام ضغوط الغول الأمريكي صنع فارقا بالتأكيد، إذ وصل ترامب إلى حالة من الهدوء والارتياح النفسي بعد ماراثون طويل من المناورات والمناوشات المتبادلة، وكانت أقوى شواهد هذا التطور الإيجابي إشارته العميقة إلى خطورة الوضع في الساعات الماضية، بقوله: "حلف الأطلنطي أقوى كثيرا الآن مما كان عليه قبل يومين".

ترامب من جانبه حاول إبراز الآثار الإيجابية لتمرير الأجندة الأمريكية، فاعتبر أن التزام الولايات المتحدة القوي تجاه حلف شمال الأطلنطي "يعود بشكل رئيسي للأموال الإضافية التي تعهدت بها دول الحلف" في ضوء قرار الأعضاء برفعى حصصهم ومساهماتهم في موازنة الاتحاد إلى مستويات غير مسبوقة.

 

خلافات بـ9 أصفاء

تتأسس الخلافات السابقة بين واشنطن ودول الناتو، على أن الولايات المتحدة تتحمل بين 70 و80% من ميزانية الحلف، وهو ما رأى ترامب أنه أمر غير عادل، خاصة أن قدرات الحلف تخدم أوروبا بقدر أكبر من خدمتها للولايات المتحدة.

الصورة القائمة تُعني أن الولايات المتحدة تتحمل أكثر من عشرات المليارات من الدولارات لصالح الحلف، بينما تتحمل 28 دولة أخرى أقل من 30% من النفقات، وأمام هذا الاختلال الكبير هدد ترامب بالانسحاب من الحلف، مؤكدا أنه يمكنه اللجوء لهذه الخطوة دون أي عقبات أو احتياج لإقرار الكونجرس الأمريكي للأمر.

التهديد المباشر الذي جاء على لسان ترامب، حمل تأكيدا لتقارير سابقة قالت إنه هدد بأن تتولى واشنطن أمورها بشكل فردي إذا لم يلتزم الشركاء في الحلف بزيادة النفقات الدفاعية، وهي التقارير التي نفاها الرئيس الأمريكي في وقت سابق، لكنها أطلت بقوة من ثنايا حديثه وتصريحاته على هامش القمة، فيما يبدو أنها كانت محاولة أخيرة للضغط على الحلفاء الأوروبيين والسعي لإجبارهم على الرضوخ.


هل يصرف ترامب عفريت بوتين؟

المبادرة الأمريكية التي سعى ترامب لإقرارها من دول الحلف، ونجح في إقناع الحلفاء بها أو فرضها عليهم، تستهدف تطوير القدرات العسكرية والمالية، بحيث يصبح "الناتو" قادرا في العام 2030 على نشر 30 كتيبة آلية و30 سفينة مقاتلة و30 سرب طائرات في غضون شهر واحد، بما يكفي لخوض عملية عسكرية شاملة مع قوة عسكرية كبرى، ربما بقدرات روسيا وإمكاناتها البشرية والتقنية.

بهذه التوافقات يكون "الناتو" قد تجاوز واحدة من أصعب العقبات والخلفات في تاريخه، لكن هذا التوافق ليس نهاية المطاف، إذ حمل حديث الرئيس الأمريكي إشارات قد تشكل خطرا مستقبليا، أبرزها أن النفقات ستقفز في الفترات المقبلة إلى ما يتجاوز 2% من الناتج الإجمالي للدول الأعضاء، وأن الحلف سيقر ميزانية سنوية 700 مليار دولار اعتبارا من العام المقبل، وهي الأرقام والنسب التي قد لا تستطيع كثير من الدول الأعضاء الوفاء بها، في ظل ضغوط اقتصادية وحرب تجارية متصاعدة ومخاوف واسعة من تآكل النمو العالمي واتجاه الاقتصاد لمسار انكماشي.

عقب تسديد ترامب كل كراته في شباك أوروبا، وإحراز الأهداف التي خطط لها قبل الذهب إلى بروكسل، حاول أن يقدم تطمينات للحلفاء بعدما هددهم بورقة روسيا، فقال وهو يتنفس الصعداء إنه سيقابل الرئيس فلاديمير بوتين الاثنين المقبل، متابعا: "بوتين منافس، ليس صديقي وليس عدوي، أتمنى أن يكون صديقي ذات يوم، ولا أتطلع للكثير من لقائي به، لكننا سنبحث الملفين السوري والأوكراني، والتدخل في الانتخابات".

 

إلى أين يذهب الحلف؟

بحسب توافقات سابقة، كانت دول "الناتو" قد تعهدت في العام 2014 بزيادة إنفاقها العسكري لحدود 2% من الناتج الإجمالي خلال عشر سنوات، والآن - بعد مرور 4 سنوات على الاتفاق - ما زالت ألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وإسبانيا وكندا وعشر دول أخرى تنفق أقل من 1.4 من نواتجها، ما يؤكد أنه ربما يكون مستحيلا أن تفي بالتعهدات السابقة في المدى الزمني المقرر بحلول 2024.

النسبة التي كان يُفترض أن تلتزم بها أوروبا، وتحدث عنها ترامب، ليست الهدف الأمريكي النهائي على ما يبدو، ففي تصريحات سابقة للمتحدثة باسم البيت الأبيض، قالت سارة ساندرز إن الولايات المتحدة تستهدف زيادة دول حلف شمال الأطلنطي إنفاقها الدفاعي إلى 4% من الناتج الإجمالي، وهو ما يقترب من النسبة التي تساهم بها الولايات المتحدة في الحلف، بواقع 3.5% من الناتج الإجمالي أو يتجاوز 500 مليار دولار، وهو ما يستحيل على أغلب الأعضاء الثمانية والعشرين المجاورين للولايات المتحدة.

في هذه الجولة فرضت واشنطن وجهة نظرها، واستجابت أوروبا أو اضطرت للاستجابة، لكن المؤكد أن التطلعات الأمريكية التي حضرت في ثنايا أحاديث ترامب، وأفصحت عنها متحدثة البيت الأبيض بوضوح، ستكون فوق طاقة القارة العجوز، ما يضع حلف شمال الأطلنطي في مهب الريح، ويترك استقراره معلقا بين رغبات الإدارة الأمريكية، وقدرات دول أوروبا وعنادها، وتطورات الأوضاع السياسية والتوترات الدولية التي قد ترجح كفة طرف أمام آخر، لهذا ستكون واشنطن حريصة على تغذية المخاوف والشعور بالخطر طوال الوقت، حتى تظل أوروبا في حيز السيطرة.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق