فارس أحلامي

السبت، 15 سبتمبر 2018 06:29 م
فارس أحلامي
هبه العدوى

 
مازلت أذكر تلك الأيام، منذ بدأ قلبي يخفق بأول دقة حب لهشام سليم، الفارس البطل الرسّام ذو اللحية البنية اللون في "الراية البيضاء"، ثم لممدوح عبد العليم وعيناه الممتلئتان بالحنان والحنية في "ليالي الحلمية" في برائته الثورية.
 
كانوا فرسان أحلامي وانا اعوامي لم تتعد العد علي اليدين معا، خاصة وأنا طالبة في مدرستنا التي كانت للبنات فقط حيث مدرس اللغة العربية هو تقريبا  ذلك الذكر الكائن الحي الوحيد الشاب في مدرسة كلها فتيات، وإن وجِد رجال فالشيب قد أشتعل في رؤوسهم كالنار في الهشيم، لكن مدرس اللغة العربية كان معشوق البنات، وإن لم يستطع احدا ان يلوّح ولو بكلمة عن هذا.
 
أما عنّي فلقد أحببت الفارس، أحببت الصورة الذهنية لهذا البطل المغوار وتلك كلمات من مذكراتي وقت مراهقتي " شجاع هو جسور كسّار يحطم كل ما يري ويركب البحار ويلين له الحديد ويشق الأحجار فارس وبطل مغوار.. حبيبي وعده وعد وكلامه عهد وثقتي به بلا حد وحبه في قلبي عبر كل حد .. أضحك من قلبي فيبدو انني قد أحببت  الصورة الذهنية لطرزان، وظننت بنفسي "شيتا".. كان خيالي يتصور فارس الأحلام رجلا ليس ككل الرجال، ووجود هشام سليم وقتها وممدوح عبد العليم أعطوني اليقين انه حتما علي قيد الحياة.
 
كانت الدنيا ليست كالآن فالبنت تطل علي عالم الولد من نافذة صغيرة.. ونافذتي كانت زهور، والمسلسلات الرومانسية والروايات كذلك، لكنه لم يكن أبدا مدرس اللغة العربية.\
 
*
زهور "روايات الجيب الرومانسية" في التسعينات.. اعتدت أن امر علي المكتبة في اشتياق، انتظر متلهفة قدوم عددها الجديد لأذوب حبا وعشقا لتلك الحدوتة المثيرة التي تارة ما تكون لبطلٍ اعمي تعشقه البطلة، وتارة تكون لبطلة يحبها البطل ثم يموت فجأة فلا تحيا هي من بعده، آخذ حدوتي الجديدة مع موسيقاي المفضلة ونجلس معا في شرفة منزلنا، أتأمل السماء واتنهد مع كل لحظة لقاء عفيفة بين بطليّ الحدوتة، قد أمتزج مع البطلة فأظنها نفسي أو أذوب في مشاعر الحب بينهما، فتحيا ذاتي ويصحو وجداني من جديد مع كل طلة حب بينهما.
 
*
لم اعد اقرأ روايات كما كنت سابقا، فالحقيقة ان الحب قد ندُر في حكاوي هذه الايام، وحل مكانه الغدر والكره والفراق والغضب، ومنذ ذلك الحين وانا في حالة دائمة من الهرب من كل ذلك الواقع المؤلم الذي نعيشه .
 
آخر عهدي الدؤوب بها كان ليوسف السباعي، ورواياته المليئة بالحب والشجن والسياسة وعشق الوطن والحياة، رقة إحساسه ونعومة سرده اللطيف لحدوتة الحب كانت تطير بي من مكاني فلا يغمض لي أبدا جفن حتى أفرغ من جزئيّها حيث كانت أغلب رواياته.
 
يوسف السباعي لم يكن كاتبا فحسب، كنت أظنه من فرط حلاوة معانيه وعمق رؤيته وثقافة أبطاله فارسا يمتطي حصانا أبيض تماما  كصورة الفارس في خيالي، والحقيقة انه كان كذلك فلقد جمع بين العسكرية والأدب، وكان والده مترجما وكاتبا ويشاركه حب الأدب والقراءة وكل ما يكتبه حتي بلغ من يوسف عشقه له وللأدب مبلغه.. أسس سلاح المدرعات وبعد بلوغه منتصف الأربعينات أسس أيضا نادي القصة، وكان يؤمن بالسلام وبدور الأدب العظيم في التأسيس لذلك، وبالفعل كان كذلك فلم تكن له معارك مع أحد حتى أنه قال عنه يوسف إدريس منافسه في إنتخابات نقابة الصحفيين أنه كان يلقاه دوما مرحبا به فاردا ذراعيه بالحب.
 
تخيل أنه شغل منصب وزير الثقافة ونقيب الصحفيين ورئاسة دار الهلال وجريدة المصور والأهرام وآخر ساعة والرسالة الجديدة، وأسهم في جميعة الأدباء ونادي القلم الدولي وأتحاد الكتاب، ولم يكن أديبا عاديا حتي أن توفيق الحكيم لقبه برائد الأمن الثقافي وقدمه طه حسين في أول كتاباته وفي نفس الوقت كان سياسيا علي درجة عالية من الحنكة والذكاء فعمل في سلاح الفرسان ومديرا للمتحف الحربي وسكرتيرا للمجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب ولمنظمة تضامن الشعوب الافريقية والآسيوية.
 
أطلق عليه نجيب محفوظ "جبرتي العصر" لأنه أرخ منذ بدايات الثورة حتي النصر من خلال رواياته الرومانسية الثورية الحالمة الشديدة الرقة والقوة والجمال.. قال عنه المصري الراحل الدكتور محمد مندور أنه "لم يكن في برج عاجي، بل كان ينزل إلى السوق ويضرب في الأزقة والدروب".
 
أكاد اكون متأكدة أنه لو خيروه  بين مناصبه التي تولاها وبين الإبداع الأدبي لأختار الكتابة حيث صدق الكلمة وأمانة الإحساس بالناس.
 
أُغتيل في قبرص ورحل فارس الرومانسية ولكن لم ترحل كتاباته بل بقيت شاهدة علي عصر كانت فيه مصرنا تحمل رجلا من طراز خاص جمع بين الذكاء العاطفي والعقلي والسياسي.
 
 رجلا كهذا كنت أعشق كتاباته تُري من خلفه فارسا قويا مباردا رقيقا شجاعا سياسيا وطنيا يمتليء بحبه للحياة ولله يمكن أن يخلف مكانه في وجداني؟ لا أظن ذلك ولكن وجوده كان أحد العوامل التي دلتني أن فارس أحلامي لم يكن أبدا من صنع خيالي .
 
للحب إذن موجاته الخاصة، تنطلق من قلوب المحبين وأرواحهم الصادقة.. بعكس القلوب الصلدة التي لم تعتاد الحب ولم تألفه، لم تحترق بالشجن و الأحاسيس و رقتها وذوبان العقل في نار حميتها الدافئة.
 
لم تعد المكتبة كما هي في اخر مرة زرتها منذ سنوات طوال، تلك التي كان بالمصادفة اسمها علي اسمي (مكتبة هبه) ..
لم تعد ل (زهور) اي إصدارات كما كانت ..
ولم يعد (لأمثال يوسف السباعي) وجود في حيز الإهتمام..أو قل إهتمامي.. ولكني مازلت  اطل علي الحياة بعمر جديد و بنفس ذات النظرة القديمة التي طالما اعتدتها، نظرة الحب.
 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق