النظام العالمي يتغير وروسيا في صعود

الإثنين، 24 ديسمبر 2018 01:39 م
النظام العالمي يتغير وروسيا في صعود
د. مغازي البدراوي يكتب:

تطور الأوضاع وتصاعد الأحداث على الساحة الدولية ينذر في رأي الكثير من المراقبين بتغيرات حادة في النظام الدولي وفي موازين القوى العالمية، خاصة مع تصاعد الصراع السياسي داخل الولايات المتحدة، والذي أشعله أخيرا قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب من سوريا، هذا القرار الذي أحدث أزمة سياسية كبيرة داخل الولايات المتحدة بدأت تداعياتها باستقالات وزير الدفاع ومسئولين في الأمن القومي الأمريكي، والبقية تأتي، كما أن هذه الأزمة كشفت مدى الخلافات التي تنمو بشكل واضح بين واشنطن وحلفائها  الأوروبيين وغيرهم، بما فيهم إسرائيل، ويرى المراقبون والمحللون أن المستفيد الأكبر من كل هذه التغيرات ستكون روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين الذي تتهمه بعض الدوائر الأمريكية بأنه وراء قرار ترامب بالانسحاب من سوريا، وأنه يدير البيت الأبيض في الخفاء، ولكن الكرملين ينكر كل هذه الاتهامات، بينما يرى الخبراء الروس وغيرهم أن  السبب الرئيسي ليس سياسات ترامب، بل التركة السيئة التي ورثها ترامب عن الرئيس السابق باراك أوباما، والتي تهدد الاقتصاد الأمريكي بأزمة عالمية حادة، وتنذر بانهيار الدولار.
 
وقد اهتمت وسائل الإعلام الغربية والروسية بتقرير وضعه الخبير الاقتصادي الإيطالي الشهير ماركو راكو، والمعروف بأرائه الصائبة والهامة حول تأثيرات الأزمات الاقتصادية على الأوروبيين والولايات المتحدة، خاصة وأنه سبق أن تنبأ عام 2007 بالأزمة المالية العالمية وتداعياتها، وذكر آنذاك أن أحداً لن ينجو من هذه الأزمة، لكنه قال أن بعض الدول ستكون أقل تأثراً بالأزمة، وذكر منها روسيا والصين، ونشرت مجلة "أوبزيرفاتوري فوندشن" الإيطالية مؤخرا تقريرا للخبير ماركو راكو  تحت عنوان "بوتين المنتصر الرئيس في حقبة ما بعد الأزمة"، وتنبأ ماركو راكو بانهيار الدولار الأمريكي قبل عام 2021، معولاً ذلك على السياسات الخطأ لواشنطن، والتي يرى راكو أنها بدأت في عهد الرئيس السابق أوباما وتتواصل مع الرئيس الحالي ترامب، وقال راكو في تقريره أن انهيار الدولار سيكون له تداعيات كارثية على العديد من الدول الأخرى أكثر من تداعياته على الولايات المتحدة نفسها، حيث أن العديد من الدول مرتبطة مالياً وتجارياً بالدولار بشكل كبير يصعب عليها الخروج منه، وقال راكو أن روسيا أكثر الدول التي لن تتأثر بانهيار الدولار، حيث أن معظم ارتباطاتها المالية الخارجية خارج دائرة الدولار، وتتعامل مع عدة دول بالعملات المحلية، وذلك بعكس الصين المعرضة أكثر للتأثر بانهيار الدولار نظراً لحجم تعاملاتها وتجارتها الكبيرة مع الولايات المتحدة وحجم رصيدها الهائل من سندات المديونية الأمريكية.
 
ويرى الخبير الإيطالي أنه  من الواضح الآن أن روسيا باتت هي صاحبة القرار السياسي على الساحة الدولية، خاصة في الشرق الأوسط، وأنها لم تتأثر بالعقوبات الأمريكية والأوروبية ضدها، وأن اقتصادها لا يتأثر كثيراً  بالهزات العالمية نظراً لأنه ليس بالقوة الخارجية، بل قوته داخل روسيا في مصادر الطاقة الهائلة من النفط والغاز، ويرى راكو أن ما أتاح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرض أجندته على الشرق الأوسط، الأخطاء الفادحة التي ارتكبها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما الذي تضاعف حجم الدين العام الأمريكي في عهده مرتين، ملحقا الضرر بالولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.
 
وأضاف راكو أن "حكم أوباما الذي استمر لثماني سنوات، كان حقبة من انتقام الرئيس الأسود البشرة من البلد الذي أهان السود دون سواهم طيلة قرون"، وأن روسيا بقيادة فلاديمير بوتين، "هي التي جنت ثمار ذلك لأنها البلد الأغنى بثرواته في العالم، والمتمتعة بقيادة قوية اجتازت الاختبارات الصعبة، وتتحلى بالخبرات القيادية اللازمة".
 
واعتبر راكو أن الولايات المتحدة في الوقت الراهن، وبعد الإرث الذي تركه لها أوباما أصبحت منقسمة على ذاتها أكثر من أي وقت مضى، والشقاق الحاصل فيها، يشبه الشقاق الذي عاشته إبان حربها الأهلية.
 
تقرير الخبير راكو يتفق إلى حد كبير مع تقارير خبراء أخرين يرون أن نجم الولايات المتحدة الأمريكية آخذ في الأفول، بل أن بعضهم يرى أن هذا الأفول سيكون أسرع مما يتوقع الكثيرون، ويرى البعض أن قرار الانسحاب الأمريكي من سوريا إنما جاء ليعكس تراجع المكانة العسكرية الأمريكية في العالم، خاصة في أفغانستان والشرق الأوسط، هذا في الوقت الذي تصاعدت بشكل كبير القوة العسكرية الروسية، وباتت هي الأقوى عالمياً بعد نجاحاتها في سوريا في خلال مدة محدودة، بعكس الولايات المتحدة الفاشلة في محاربة الإرهاب على مدى سنوات طويلة مضت، رغم ادعاء ترامب بأن جيشه هو الذي قضى على تنظيم "داعش" وهو ادعاء لا يصدقه أحد في العالم، وهكذا تراجعت مصداقية التفوق العسكري الأمريكي، ونأي حلفاء واشنطن عنها الواحد تلو الآخر، وذهب الأوروبيون يفكرون بجدية في تأسيس جيش خاص بهم بعيداً عن واشنطن وحلف الناتو، وهو ما عبر عنه بوضوح الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في تعليقه على قرار الرئيس ترامب بالانسحاب من سوريا قائلاً بوضوح ما معناه أن الولايات المتحدة لم تعد الحليف الجدير بالثقة.
 
من الواضح أن الرئيس الروسي بوتين بدهائه وخبرته السياسية العالية، والتي تتفوق على خبرات معظم قادة الدول الغربية الكبيرة، بما فيها الولايات المتحدة، يراقب باهتمام كبير تطورات الأوضاع في الغرب، ويوجه سياسات بلاده حسب تطورات هذه الأوضاع، ولهذا نراه لا يخسر أحد ولا يصطدم مع أحد، بل على العكس، القادة جميعاً على علاقات طيبة معه بشكل شخصي، ويهرولون للقائه والحديث معه، بما فيهم ألد أعدائه مثل رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي.
 
ويبدو من تقارير الخبراء والمحللين أن القادم على الولايات المتحدة أعظم، وأنه إذا ما أخفق الاحتياطي الأمريكي في إجهاض التضخم، فإن الدولار سينهار لا محالة، حيث أن الارتفاع في أسعار النفط في الفترة القادمة سيكون حادا، وسينقلب عكسا على العملة الأمريكية، ويعول البعض على ما يسعى الرئيس ترامب للحصول عليه من الدول الغنية في الشرق الأوسط التي مازالت تراهن على واشنطن وتدفع لها عشرات المليارات طلباً لحمايتها وتأييدها لها في قضاياها الخاصة، لكن هذا الرهان لن يطول وسيفيق الجميع مع انهيار الدولار.
 
ويرى الخبراء أيضاً أن حظ الدول الكبيرة لن يكون أفضل من حظ الدول الغنية في الشرق الأوسط، وأن حسابات الدول المصدرة للولايات المتحدة، وفي مقدمتها ألمانيا والصين ستتعرض لمصائب اقتصادية ومالية كبيرة، إذ سيغرق البلدان في منتجاتهما التي لن تلقى مشتريا لها، وسيعانيان كسادا لم يعرفانه وعجزا كبيرا في التصريف بفعل ارتفاع أسعار منتجاتهما نتيجة لارتفاع سعر صرف اليوان والمارك بشكل كبير مقابل الدولار الذي سينهار.
 
ويبدو أن أوروبا تنتظر عامين أسودين قادمين، خاصة مع تزايد اضطرابات الشوارع في الدول الكبيرة، بداية بأحداث "السترات الصفراء" في فرنسا، والتي انتقلت منها لدول أخرى، ولاسيما في ظل صعود اليمين في النمسا وألمانيا، فيما ستندلع النزعات الانفصالية على أطراف الاتحاد الأوروبي، وستعلو أصوات المناهضين للاتحاد، وستلجأ أنظمة الحكم في بلدان وسط أوروبا الضعيفة اقتصادياً، إلى استخدام القوة في الداخل ضد انتفاضات شعوبها ضدها، وذلك للدفاع عن مصالحها وإسكات الانفصاليين.
 
ختاماً فإنه إذا ما صدقت التوقعات وانهار الدولار، فإن الطوفان الذي سينجم عن ذلك، سيولد آثارا مدمرة على معظم دول العالم، وربما تكون روسيا كالعادة هي الأقل تأثراً  كما حدث في أزمة عام 2008، وذلك ليس بسبب قوة اقتصادها، بل بسبب اعتمادها الأكبر على نفسها ومواردها، وليس على الدول الأخرى.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق