سرطانيات ليست عشوائية!

الجمعة، 08 نوفمبر 2019 08:00 م
سرطانيات ليست عشوائية!

سرطانيات ليست عشوائية! 
 
تقول فلسفتنا الشعبية: «الحكمة ضالة المصري، أنى وجدها باسها وركنها على جنب». بينما تقول زوجتي: «الأكل في التلاجة، سخّنْ وكُلٰ».. لا أحب الحكمة «الدليفري»، ولعل ذلك ما جعلني لا أعترض على طبيخ زوجتي، ولو كان «بايت»!
 
كان كل شيء على ما يرام قبل أن أسكن في «كمبوند» شعبي.. فعلى طريقة الدرما المصرية القديمة، أخفى الطبيب حقيقية مرضي، وخشي أن يخبرني بنقل أوراقي من برج «الثور» إلى مكتب تنسيق «السرطان». لا أثق كثيرًا في كلام معظم الأطباء. الأطباء كالحكومة، كالنساء البغايا؛ يستنزفونك، يمنونك بالوعود ومعسول الكلام، والنتيجة لن تطول مانجة الإسماعيلية، ولا فطير المنوفية.
 
علمتني التجربة مع «مرض السرطان»، أو «الضيف الرزل»- كما أسميه- أن لا أثق في الطب «التجاري» والعاملين فيه.. لم يخبرني أحد من قبل بإصابتي بالمرض اللعين.. أربعة أشهر لحين إخباري بالحقيقة.. كنت منتظرًا من الحكومة أن تصدر بيانًا تكشف فيه تفاصيل مرضي للرأي العام. تخبر الجماهير العريضة أنني صحيح «نكرة»، لكن لم أُُضبط يومًا متلبسًا برشوة، ولا وضعت يدي على أملاك الدولة، ولا أخذت قرضًا مليونيًا.. فقط عبدٌ صالحٌ، يدفع الضرائب والتأمينات، ومن البيت للكباريه ومن الكباريه للبيت! 
 
انتظرت خروج وزير الأوقاف؛ ليخبرنا كيف نتعامل مع المرض «الخبيث» من منظور فقهي، ووفقًا للشريعة الإسلامية، بدلًا من أن يتركنا فريسة سرطان العصابات الإرهابية.. انتظرت معاليه أن يفسر  لنا سر الشبورة المائية الكثيفة، التي تحجب الرؤية عن المساجد في الصباح الباكر، وتمنع أشعة الشمس من أن تبتسم للمستشفيات والمراكز الصحية عند الظهيرة.. كل ما فعله فضيلته أن أصدر بيانًا أهاب فيه بسائقي السيارات توخي الحذر، عند القيادة على الطرق الزراعية والساحلية..
 
الشمس أعلنت عن غضبها، في منتصف النهار؛ بتجاوزها الأربعين درجة في الظل، مصحوبة بارتفاع نسبة الرطوبة، أصابت المواطنين بالاختناق.. محصل الأتوبيس يطالبني بثمن تذكرة الكشف بمجرد الركوب. رفضت الدفع قبل الجلوس. صممتُ على دفع نصف تذكرة، وهو يريدها كاملة.. حاولتُ النزول لكن طاقم التمريض حال بيني وبين الشارع.
 
كان العلاج الكيماوي يشق طريقه في أوردتي.. مذيعة الربط أعلنت عن خبر سار، بعد قليل.. وزارة التعليم العالي والصرف الصحي حذرت من رياح شديدة تضرب البلاد، مصحوبة برمال وأتربة، تؤدي إلى انخفاض الرؤية على الطرق، واضطراب فى حركة الملاحة البحرية.. وزير الزراعة كشف عن الخطة «السرية» لمواجهة الإرهاب، وتقويض الفكر الديني المتطرف. تصفيق حار صيفًا، لزج مهين شتاءً.
 
رئيس هيئة الجمارك يتوقع تساقط أمطار خفيفة، وانخفاض ملحوظ فى درجات الحرارة، نتيجة تكاثر السحب المطيرة، التي تكونت من تأثر البلاد بوصول هواء بارد قادم من الغرب.. الحكومة أقرت ضريبة جديدة على الهواء البارد القادم من أوروبا، والهواء الساخن القادم من الهند.. ومحافظ البنك المركزي يؤكد ارتفاع احتياطي البلاد من «البيض» والوصول إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي منه.
 
المذيعة تعاود الظهور، وتعتذر للمشاهدين عن نسيان الخبر السار الذي كانت أعلنت عنه. ورئيس هيئة الأرصاد يتهمها بمخالفة شرع الله ورسوله، وأنها ستحشر مع فرعون وهامان، وأعداء الحكومة، وساء أولئك رفيقًا.. 
 
سائق الأتوبيس لم يستجب لصرخات المرضى، ولم يتوقف في محطته الرسمية.. وزارة الري أعلنت الطوارئ، وأمرت بصرف علبة لبن مجفف لكل راكب سيصل إلى الموقف سالمًا. والحماية المدنية أعلنتها بوضوح: «لم نعثر على هلال أكتوبر، وجارٍ البحث عنه»!
 
لا أثق في الطب، فقط أصدق «زوجتي» بحكم الجينات الرجولية، وأميل إلى تصديق بعض المذيعات والممرضات الجميلات، الفاتنات، الرائعات على الرغم من كذبهن الواضح.. لا ذنب للكمسري، فهو «عبد المأمور»، يفعل ما يؤمر، ولو كان في الأتوبيس أدوية كافية، ما منعها عن الركاب.. ثم لماذا إصراري وتمسكي بدفع نصف تذكرة؟ نحن ندفع الكوامل، وأكثر من الكوامل، فلماذا هذه المرة؟
 
بنفس الابتسامة التي أدى بها يمين تولي الوزارة، خرج وزير الأوقاف- في مؤتمر صحفي عالمي- ليؤكد مرور بمرحلة «فارقة»، وأن  حالة عدم استقرار الجو «طبيعية»؛ لمرور البلاد بـ«موجات خماسينية» في فصل الشتاء، أدى إلى انتشار الطقس المتطرف.. بينما أكدت مذيعة النشرة الجوية المسائية أن النفس البشرية تشهد طقسًا متقلبًا، يؤدي إلى حجب «الضمير»!
 
بعد الحصول على الموافقة، وإخلاء الطرف، ودفع الحساب، سمح لي سيادة اللواء الطبيب بالخروج من المستشفى.. أوصى الممرض باصطحابي إلى أقرب مشروع للإسكان الاجتماعي؛ للاستجمام فيه، وزيادة حسي الوطني. تحفظت، فلست أقل وطنية من أحد. طلب مني التوقيع على محضر بالواقعة. رفضت. طلب من زوجتي الذهاب بي إلى طبيب نفسي. رفضت.. سألته: ما علاقة السرطان بالعشوائيات؟ رفض الإجابة، ووقع على تذكرة الخروج وعدم التعرض لشخصي!
 
تتذكر المذيعة الخبر السار. تبحث عن رئيس القناة، فلم تجده.. تطلب من المخرج الظهور بشكل عاجل على الهواء؛ لإعلان الخبر، وبث البشرى للشعب الصابر. يسمح لها.. ظهرت متلألئة على الشاشة.. بثت الخبر مبتهجة.. لكن ما أن ابتعدت عن الشاشة حتى أُلقِي القبض عليها بتهمة «إذاعة أخبار كاذبة»!

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق