وصية أمي.. الحزن لصاحب الحزن

السبت، 16 مارس 2019 06:54 م
وصية أمي.. الحزن لصاحب الحزن
أيمن عبد التواب يكتب..

 

 
كنا نجهز هدية «عيد الأم»،، لكنها آثرت الرحيل، قبل موعد عيدها بخمسة أيام.. هكذا قررت أمي.. أو هكذا قُرِّرَ لها.. رحلت تاركة لنا وصية عظيمة: «الحزن لصاحب الحزن»!
 
في لحظات الألم يبقى مشهد النهاية عالقًا في الذاكرة.. نهاية مسرحية.. فيلم.. مسلسل.. نهاية حياة.. وآهٍ من قسوة مشهد نهاية الحياة.. وحياة مَنْ؟ حياة أمي، التي كان السادس عشر من شهر مارس شاهدًا على اللقاء الأخير بيننا..
 
كلانا كان علي يقين من لحظة إسدال الستار وذهاب كل منا في طريق نعرفه جيدًا، لكننا- كالعادة- نتفاجأ به، على الرغم أنه لم يتأخر عن موعده.
 
«الحزن لصاحب الحزن» كانت مقولة أمي.. أعتقد أنني سمعتها للمرة الأولى عندما توفيت «جدتي»، والدة أمي. كنتُ في دراستي الابتدائية الأولى، ولم أكن أعرف معنى الموت.. تسللتُ على أطراف أصابعي، وفتحت التليفزيون الأبيض والأسود القابع في حجرة بمفرده.. رآني أحد الجيران أو الأقارب، لا اتذكر.. أخبر والدتي على أمل أن يحظى بمكانة عندها، أو ربما لأهداف أخرى.. 
 
عندما لمحتُه أسرعتُ بإغلاق التليفزيون، وحاولت الاختباء من عين أمي الجالسة بين الجالسات لتقبل العزاء، لكنها- كعادتها- كانت تجيد القنص، فنادت عليَّ بعينيها، فلما ذهبت إليها، اصطحبتني إلى «حجرة الجلوس»، وفاجأتني وفاجأت الجميع بتشغيل التليفزيون وتعلية صوته إلى المستوى الأخير.. حتى إذا ما هرعت بعض المعزيات لاستطلاع الأمر، فوجئن برد أمي تقول لهن: «منجلكوش في حاجة وحشة.. ويلا بقى عشان عاوزه أعشي العيال»!
 
أمجنونة كانت أمي، كما قرأتها في عيون المعزيات قبل الرجال؟ لماذا فعلتْ ذلك؟ لماذا لم تدمع عيناها على والدتها وهي وحيدة والديها؟ لماذا لم تحزن على «ستي» وهي الحنونة العطوفة القوية؟ لماذا لم تبكها مثل كل النساء؟ أليست والدتي سيدة مثل بنات جنسها؟ ألم تكن أمي تحب أمها؟
 
الإجابة كانت عند أمي: «الحزن لصاحب الحزن»، «ناس بتيجي تعزي عشان الواجب، وناس بتيجي تعزي عشان تجيب في سيرة الناس.. وكل واحد بيروح ويسيب الحزن لصاحب الدار».. جميلة هي، وبسيطة هي فلسفة أنثى لم تدخل مدرسة، ولم تنل حظًا من التعليم!
 
قوية شرسة كانت أمي مع الآخرين، ضعيفة وديعة هي عندما يتعلق الأمر بأولادها.. هل أكسبها كفاحها في زمهرير شتاء طوبة ولهيب شمس بؤونة صلابة وقوة وعنادا؟ هل أكسبها عملها في «التجارة» خبرة في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، مع اعتبارات المكسب والخسارة؟
 
آهٍـ أمي.. أفتقدك.. أفتقد خبزك.. أفتقد حنانك.. أفتقد قوتك.. أفتقد جرأتك.. أفتقد جبروتك.. نعم جبروتك يا أمي مع الآخرين حين كانوا يستقوون علينا، لكنك كنتِ تجبرينهم على الفرار أو الاعتذار حتى ولو لم يكونوا مخطئين!
 
غريبة أنتِ يا أمي.. ما دخلتي معركة إلا وكان الفوز حليفك.. لم تخسري معركة.. ما زلتُ أتذكر مناوشاتك مع شقيقة الرئيس السادات.. أتذكر جرأتك على المهندس مشهور أحمد مشهور.. أتذكر حمايتك للمرحومة شاهندة مقلد، حين كاد أهل قريتنا ميت أبو الكوم يفتكون بها، لأنها توزع منشورات تهاجم السادات، وتدعو إلى «دين جديد»، أقصد سياسية غير التي ينتهجها الرئيس المؤمن!
 
ما زلتُ يا أمي أتذكر ما فعلتيه برئيس لجنة الإسكان، وكان كفيلًا بسجنك سنوات وسنوات.. لم أكن أستعحب من جرأتك على خوض معارك مع أي مسؤول.. بل كنت أتعجب من أعدائك الذين دخلوا معكِ في معارك وتحولت عداوتهم لك إلى محبة.. فماذا فعلتِ لهم؟ ولماذا ظلوا أوفياء لكِ يسألون عنك بعد وفاتك، ويترحمون عليكِ؟
 
آهـٍ أمي.. أحدثك بشيء سيسرك.. صداكِ قد اشتاق إليكِ، وأخبرته أنكِ ستعودي.. وبالأمس كنتُ وزوجتي في سيرتك الطيبة.. دعوتُ لكِ بالرحمة وهي أيضًا دعتْ لكِ كثيرا من قلبها.. ذكرتني بمواقف فعلتيها معها، ومساندتك لها حتى ولو بالصمت عن توجيه الأسئلة السخيفة التي توجهها الحموات لزوجات أبنائهن... زوجتي تحبك يا أمي كما كنتِ تحبينها..
 
آهـٍ أمي.. مجدي يذكرني على «الفيس» أن اليوم هو ذكرى رحيلك.. لم يعلم مجدي وأخوتي الثمانية أنكِ جئتني اليوم في منامي؛ لتذكريني بمشهد النهاية.. يوم أن أُذِنَ لك بمقابلة حبيبك الذي كنتِ تدعينه ليحفظنا من كل شر.
 
أعلم يا أمي أنك تبتسمين الآن وتقولين للموتى- بنفس طريقتك الساخرة: «واحد يهودي هيموت النهارده.. أيمن ابني أكيد سخن وبيخرف.. دا بينسى تاريخ جوازه يبقى افتكر يوم وفاتي إزاي؟ أيمن ابنى ممكن ينسى أي حاجة إلا الشغل»! 
 
ابتسمي يا أمي.. لقد رأيتُ ابتسامتك الآن.. ابتسمي واضحكي كما لم تضحكي من قبل..لكن اذكرينا عند ربك.. قولي لمن يكتب مشاهد النهاية أن يترفق بنا.. 
 
 
وسلام الله عليك في أعلى عليين.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق