المجددون (1).. الإمام محمد عبده: «أستاذ» أرهق عقول الأزاهرة

السبت، 04 مايو 2019 09:00 م
المجددون (1).. الإمام محمد عبده: «أستاذ» أرهق عقول الأزاهرة
الإمام محمد عبده
محمد الشرقاوي

 
«انتبه إلى یسارك إنه یمين.. إلیك یا حافى القلب، فوحدك لا تكذب، انتبه إلى المؤمنین إنهم كفار. انتبه إلى المتزوجین لیسوا أزواجا.. انتبه إلى الصلاة لا تصلى، انتبه إلى الأسماء إنها غیرها.. انتبه إلى الفقهاء إنهم یكتبون الله وهم لا یعرفون قراءته.. انتبه إلى العشاق إنهم یلهون، والقلب لا یلهو بعشقه یا حافى القلب، إنه یموت به فحسب.. لم یمت عاشق بعیدًا عن قلبه قط، إنه یموت بعیدًا عن قبره فحسب.. لم یبقَ عاشقٌ ولا مؤمنٌ.. كلنا نكذب، فى عشقنا وفى إیماننا.. لا سماء هنالك ولا قلوب.. انتبه للتاریخ إما أنبیاءٌ لله، أو لصوص لله، هذه حیرة الوجود».. هكذا وصف الكاتب والمفكر العراقى عبدالرازق الجبران رجال الدين فى كتابه المثير للجدل «لصوص الله».
 
الجبران أضاف «إن الحقيقة الأكثر وجودية والأهم تاریخیًا، هى أن الإنسان عبد لكهنوته ولیس للاهوته، فالكثير من سكان المدينة الفاضلة یتبعون المتدینين ورجال الدین فحسب، لكنهم لا يتبعون كتاب الله وإنما كتب متبعيهم، فالحقيقة المهملة وسط المعبد هى أن الكهنوت استعبد الله ولم یعبده»، مؤكداً أن الكهنوت الدينی يتعارض تمامًا مع الإنسانية وأسُسها التی خلقها الله، فالكهنوت جعل شرعیة العبید والاستعباد من بدیهیاته، فبلال بن رباح كان عبدًا فى قريش لكنه لم ینتم لعبادة اللات والعزى، رغم أنه فی قریش، ولم یكن مسیحیًا باعتباره حبشیًا.. بكل الأحوال، هذا المسروق بوجوده لم یكن یفكر فی إشكالیة وجود الله، كان یفكر فی إشكالیة وجوده هو.. إنه عبد.. إنه بحاجة إلى حریة، لذا لم يجلب له النبی إلهًا وإنما جلب له الحریة، وفى ذلك أكبر وجوديات النبی فی دینه، حینما تنبه بلال إلى الحریة تنبه إلى الألوهیة، حينما اعترف له النبی بالحریة اعترف هو بالله. رسخ الجبران فی كتاباته لإعمال العقل فی العقيدة والأمور الدينية، وأن الدين اتخذه متاجرون بوابة لمصالحهم، وهو ما دعا له مجددون، كان على رأسهم الإمام محمد عبده وغيره الكثير. 
 
يقول الدكتور رجاء أحمد علي، فی مؤتمر الإمام محمد عبده (مفكرا ورائدا للاستنارة) يوليو 1997، «يدلنا استقراء التاريخ على أن هناك صراعا مستمدا بين العقل والنقل، هذا الصراع يظهر بصورة واضحة فی العصور المختلفة، وخير مثال على ذلك العصور الوسطی المسيحية وما حدث فيها من انهيار فی جميع نواحی الحياة، أيضًا نجد هذا الصراع واضحا فی العصور الحديثة، وقد ترك رواسبه فی الشرق الإسلامى، حيث نجد العقل وقد تعرض للنقد والتجريح والاضطهاد من قبل من يطلقون على أنفسهم حماة الدين».
 
على مدار قرون من الزمن حاول البعض اقتحام المناطق الرمادية فی معضلة التراث الإسلامي، لكن لم تفلح جهودهم، فتيار النقل كان أقوى من أنصار العقل، درجة أنه حاكمهم، وجعل منهم ملاحدة فی نظر العامة، وبالتالی كانت محاولات الاشتباك مع الخطاب الدينی النقلى، الذی تعرض لكثير من التدليس وسوء الفهم، على استحياء، فلم يوجد عقل يقوى على اقتحام تلك المنطقة المحرمة، ويكتشف مجهول أو ينكر مألوف، وعندئذ يصبح بفضل جرأته أهلا لاضطهاد خصومه، لذلك قامت حركات إصلاحية تنويرية فی الشرق الإسلامی جعلت معولها العقل والشريعة السمحة لمواجهة كل فساد، ومن هذه الحركات الإصلاحية تلك التی قام بها الشيخ محمد عبده والتی كان لها أثرها الواضح فشملت كل مناحی الحياة، فهی دعوة لتحرير الفكر والعقل والمجتمع بأسره من ربقة التقليد. 
 
الحلقة الأولى.. الإمام محمد عبده 
 
لئن كان جمال الدين الأفغانی هو المؤسس لمدرسة العقل فی مصر، فإن محمد عبده هو الذی أقام صروحها ودعا إليها ونشرها بين الناس، فكان بحق هو صاحبها وأستاذها وإمامها الأول، فكان له من الأثر فيها ما لم يكن لأستاذه جمال الدين، ولعل شهرة محمد عبده توجب علينا الاقتصار فی ترجمته على بعض معالم حياته التی نستشف من ورائها اتجاهه الفكری ليس إلا.
 
الإمام محمد بن عبده بن حسن بن خير الله، ولد فی حصة شبشير من قرى محافظة الغربية، ونشأ فی قرية محلة نصر، تبعد عن دمنهور نحو خمسة عشر كيلومترا، وظهرت على الإمام ملامح النضوج منذ صغره، فكان ينظر إلى كل شىء نظرة المتفحص، فلم يكن يعجبه شىء، درجة أنه قال على المدة التی مكثها فی صغره بطنطا لتعلم تجويد القرآن الكريم الذی أتمه فی عامين شىء، لرداءة التعليم فيها، يقول محمد بن عبده، إن الطريقه التی تدرس بها العلوم الدينية آنذاك كانت عقيمة.
 
ولد الإمام فی أواخر سنة 1265 هجرية، وتعلم القراءة فی منزل والده بعد أن جاوز العاشرة ثم حفظ القرآن فی سنتين انتقل بعدها إلى المسجد الأحمدی بطنطا ليتعلم التجويد، ليعود بعدها إلى محلة نصر وتزوج سنة 1282 هجرية، بعدها ألزمه والده الذهاب إلى طنطا للتعلم، فهرب فی الطريق إلى بلدة «كنيسة أورين»، ولجأ إلى أحد أخوال أبيه، واسمه الشيخ درويش الذی حبب إليه العلم وطلبه بسبب طريقته فی التدريس حتى صار طلب العلم وتحصيله أحب شىء إلى نفسه.
 
أقام عند الشيخ درويش 15 يوما وانتقل بعدها إلى طنطا، خوفا من والده الذی وجهه إليها للدراسة ثم انتقل إلى الأزهر فی منتصف شوال 1282هـ فداوم على طلب العلم على يد شيخه، ويعود إلى محلة نصر فی آخر كل سنة ليتلقى الدروس من الشيخ درويش الذی يسأله ما درست المنطق؟ ما درست الحساب؟ ما درست شيئا من مبادئ الهندسة؟ وكان الأستاذ الإمام يلتمس عند عودته إلى القاهرة هذه العلوم، عند من يعرفها إلى أن جاء السيد جمال الدين الأفغانی فی شهر المحرم 1287 فتلقى عنه بعض العلوم الرياضية والفلسفية والكلامية ويدعو الناس إلى التلقی عنه فقرأ على السيد الزوراء للدوانی فی التصوف و(شرح القطب على الشمسية) و(المطالع) و(سلم العلوم فی المنطق والهداية) و(الإشارات) و(حكمة العين) و(حكمة الإشراق فی الفلسفة) و(عقائد الجلال الدوانی فی التوحيد) و(التوضيح مع التلويح فی الأصول الوجغميني) و(تذكرة الطوسی فی الهيئة القديمة) وكتابا آخر فی (الهيئة الجديدة).

معركة فكرية بدأها مبكرا
 أسهمت تلك الكتب فی تشكيل فكر محمد عبده، واتهموه على أثرها بالانتماء إلى المعتزلة، فتلك الكتب التى لم تدرس فی الأزهر الشريف، وخاض هو معركته وحده، فاتفق مع مجموعة من الطلاب على دراسة المنطق وعلم الكلام، ومع الوقت زادت تلك المجموعات حتى اشتهر أمره، ووشى به بعض الدساسين إلى الشيخ الأزهری محمد عليش، الذی بلغه أن محمد عبده يقرأ كتب المعتزلة والمتكلمين فی الأزهر، ويرجح مذهبهم، الأمر الذی أثار حفيظة الشيخ عليش، فهو كان يعتبر ذلك المسلك من البدع التی يخشاها على الدين.
 
رفض الشيخ عليش، ما يقرأه محمد عبده، ودعاه لحوار انتهى بنزاع وخصومة، وترك بعدها الإمام التدريس فی الأزهر الشريف، وتقول بعض المصادر التاريخية إن محمد عبده لم يترك التدريس فی الأزهر، وكان يجلس بين تلامذته واضعا بجانبه عصا، وقال إذا جاء الشيخ بعكازه فله هذه العصا.
 
كانت تلك أولى المعارك الفكرية التی قادها الإمام محمد عبده، مع أكبر ممثلی تيار النقل فی ذلك التوقيت الشيخ محمد عليش، والذی قال عنه الكاتب عباس العقاد: «لقد كان صالحا، زاهدا فی الدنيا، لكنه كان يكره البدع فی الدين».

الطريق إلى العالمية

 فی سنة 1294 هجرية، عرض محمد عبده نفسه على لجنة الامتحان بالأزهر الشريف، لنيل شهادة العالمية، فحصل عليها ولم يكن نيله لها بالمانع له من الاستمرار فی طلب العلم، فكان له فی طلبه ثلاث مراحل: الأولى: الطلب على طريقة الأزهر المعروفة من مناقشة فی عبارات المتون والشروح والحواشی والتقارير. الثانية: ثم تحول عن تلك الطريقة إلى طريقة السيد الأفغانی الذی أطلقه من التقيد بعبارات المؤلفين وتعويده الحكم باليقين مع تطبيقه على حال المسلمين الحاضرة، الثالثة: أضاف إلى هذا النظر فی علوم الإفرنج فقرأ مما ترجم من الكتب ثم تعلم الفرنسية وصار يقرأ بها.
 
بعد نيل عبده الشهادة العالية، عمل مدرسا فی كلية دار العلوم للتاريخ، وفی مدرسة الألسن الخديوية للعربية فی أواخر سنة 1295 هجرية، مع مداومته على التدريس فی الجامع الأزهر فدرس فی دار العلوم «مقدمة ابن خلدون»، وكان غرضه من ذلك بث أفكاره الإصلاحية فی السياسة وفی المجتمع وفی التعليم عبر ذلك الدرس الذی يفتح له المصارع فی الحديث عن تلك الأمور من أوسع الأبواب.
 
كان يكلف تلاميذه بكتابة المقالات ليعودهم الإحساس بمشاركته فی الإصلاح والنقد فتكون آراؤه لديهم أكثر قبولا وتأثيراً إلا أنه لم يلبث طويلاً حتى عزل لصلته بالسيد جمال الدين الأفغانی الذی صدر الأمر بنفيه.

رجال فی حياة الإمام
تأثر الشيخ محمد عبده بعدد من الرجال الذين أثروا حياته وأثّروا فيها، وكان من أولهم الشيخ درويش خضر الذی كان يلتقی به فی إجازته من كل عام، فيتعهده بالرعاية الروحية والتربية الوجدانية، فيصب فی روحه من صوفيته النقية، ويشحذ عزيمته ونفسه بالإرادة الواعية، ويحركه للاتصال بالناس، والتفاعل مع المجتمع، ويدعوه إلى التحدث إلى الناس ونصحهم ووعظهم.
 
وهو الذی ساعده على تجاوز حدود العلوم التی درسها بالأزهر، ونبهه إلى ضرورة الأخذ من كل العلوم، بما فيها تلك العلوم التی رفضها الأزهر وضرب حولها سياجًا من المنع والتحريم.
 
ومن ثم فقد اتصل محمد عبده بالرجل الثانی الذی كان له أثر كبير فی توجيهه إلى العلوم العصرية، وهو الشيخ حسن الطويل الذی كانت له معرفة بالرياضيات والفلسفة، وكان له اتصال بالسياسة، وعُرف بالشجاعة فی القول بما يعتقد دون رياء أو مواربة.
 
وقد حركت دروس الشيخ حسن الطويل كوامن نفس محمد عبده، ودفعته إلى البحث عن المزيد، وقد وجد ضالته أخيرًا عند السيد ودار العلوم وفی مدرسة الألسن، كما اتصل بالحياة العامة.

عقبات فی طريق الإصلاح

عُزل الإمام محمد عبده عن التدريس، وأمر بالبقاء فی بلده لا يتركها، حتى صدر الأمر بالعفو عنه سنة 1287 هجرية، عين على أثره رئيسا لتحرير الجريدة الرسمية (الوقائع المصرية)، وفی سنة 1300هـ 1882م حكم عليه بالنفی لاشتراكه فی الثورة العرابية، وتوجه إلى الشام حيث مكث فيه مدة نفيه إلا عشرة أشهر، أقامها فی باريس أصدر خلالها مع الأفغانی جريدة «العروة الوثقى» عاد بعد توقفها إلى الشام فبدأ درسه فی منزله فی بيروت فی السيرة النبوية وقرأ فی الجامع الكبير التفسير لا يلتزم كتابا وإنما يقرأ فی المصحف ويفسر.
 
دعی فی سنة 1303 هجرية إلى التدريس فی المدرسة السلطانية فلبى وكان له فيها إصلاحات متعددة فزاد فی علوم التوحيد ومعاملات الفقه والتاريخ والمنطق والمعانی والإنشاء ووجد أن المختصرات فی التوحيد لا تأتی على الغرض من إفادة التلامذة والمطولات تعلو على أفهامهم والمتوسطات ألفت لغير زمانهم فأملى عليهم ما هو أمس بحالهم فكانت (رسالة التوحيد)، ونقل إلى العربية رسالة (الرد على الدهريين) لأستاذه الأفغانی وشرح كتاب (نهج البلاغة) و(مقامات بديع الزمان الهمذانى).

إصلاح الأزهر الشريف والمعركة الأشرس

لخص محمد عبده منهجه فی الإصلاح الدينی واللغوي، وكان لا يرى طريقاً للإصلاح الدينی سوى بإصلاح الأزهر، وقال فی ذلك جملته الشهيرة إن بقاء الأزهر متداعيا على حاله محال، فهو إما أن يعمر، أو أن يتم خرابه.
 
وصف الإمام الراحل الأزهر بأوصاف قاسية، إذ كان يراه باعثا على الجمود، ولم تتح لمحمد عبده فرصة إصلاح الأزهر إلا بعد أن تولى الخديوی عباس الثانی الحكم، حيث أصدر مرسوما يقضی بإنشاء مجلس لإدارة الأزهر ويضم بين أعضائه محمد عبده، فجدد الإمام بعض الأشياء فی الأزهر وحاول الإصلاح حتى رحل الخديوی واستقال معه محمد عبده.
 
يقول الكاتب الكبير عباس محمود العقاد فی كتابه «عبقری الإصلاح محمد عبده» إن الإمام كان ثائرا، ولكنه لم يكن عرابيا، كان يؤيد الثورة العرابية فی أمرين هما تنبيه الرأی العام وجمع كلمته للمطالبة برفع المظالم وإصلاح الحكم وإسناد المناصب الكبرى ووظائف الحكومة عامة إلى الوطنيين.
 
وثانيهما هو التعويل على إنهاض الأمة وإقامة نهضتها على أسس التربية والتعليم وإعدادها للحكم النيابی المستقل برغبتها الصادقة وقدرتها علی صيانته من عبث الولاة المتسلطين.
 
توقع محمد عبده أن تنهض أوروبا وتسبق دول العرب والمسلمين لأنهم يطبقون الإسلام دون أن يعتنقوه من حيث الالتزام والإتقان والانضباط الخلقی والسلوكی وأخذهم بالأسباب فی إقامة حضارة دون انغلاق فكري، أو جمود عقلی أو الانصياع لحكم الباباوات، وكان يقول إن الحاكم ليس له سلطة دينية فيحكم على عقائد الناس بالفساد أو الصلاح، كما كان يفعل البابوات فی أوروبا، وإنما الحاكم سلطته مدنية ويحكم بالشرع الإسلامی كسلطة تنفذ هذا الشرع.

وجدت إسلاما بلا مسلمين

عبارة هی الأشهر فی حياة الإمام، ففی رحلته إلى فرنسا انبهر الإمام الراحل بما رآه من نهضة وتنمية وحضارة. وقال جملته الشهيرة وجدت هنا إسلاما ولم أجد مسلمين، وفی ديار الإسلام وجدت المسلمين ولم أجد الإسلام، ويضيف وجدت المبادئ والقيم والمثل العليا، وكلها صفات يطالبنا بها الإسلام ووجدت أمانة وإتقانا وإخلاصا، وكلها سمات يحثنا عليها ديننا، وبذلك فهم مسلمون بلا إسلام.
 
كان محمد عبده موقنا بأن المشكلة ليست فی الدين، وإنما فی الفهم الخاطئ له، وما تراكم على هذا الفهم من أفكار استمرت فی الوجود واكتسبت قداسة طمست حقيقة الإسلام التی تدعو للبناء والرقی المادی والروحي، باتساع المكان والزمان ووفق متطلبات كل عصر.

مجدد الدنيا بالدين 

يقول الكاتب الكبير محمود عباس العقاد «بعبقری التنوير»، ووصفه الكاتب السيد يوسف «برائد الاجتهاد والتجديد للفكر الديني،» ووصفه آخرون بباعث الدولة المدنية وإمام المجددين، وقال عنه الكاتب والمفكر محمد عمارة إنه مجدد الدنيا بتجديد الدين.
 
ولم يكن الإمام الراحل محمد عبده يعلم أن ما نادى به قبل قرن ونصف من الزمن يمكن أن يتحقق، وأن ما خشی منه تحقق، فقد كان بفكره الثاقب يرى أن استخدام الدين مطية للسياسة يضر بالدين والسياسة معاً، وأن وصول التيارات التی تستخدم الدين وسيلة للحكم فی بعض الدول يضر بالدين وبالسياسة وبالحياة.
 
وكانت نظرته المطالبة بإبعاد رجال الدين عن حكم الشعوب، مبنية على أساس أنهم قد يعتبرون رأيهم صواباً يتماشى مع الدين، دون أن يدركوا أنه خطأ يجافی الدين.
 
إعمال العقل دفع بتيار النقل إلى مهاجمة الإمام المجدد هجوما ضاريا، فروجوا لأحاديث عن زندقته وانتمائه لفرقة المعتزلة، والتی يراها الكثير من علماء الدين فرقة مضللة، لمجرد أنها تحكم العقل فی كل شيء، حتى وإن كان هناك نص فی القرآن الكريم والسنة النبوية. 
 
روج التيار المناهض لمحمد عبده، إشاعات منها، اشتراكه مع أستاذه الأفغانی فی المحافل الماسونية ونشاطه فيها وتعاونه مع أستاذه فی نشر مبادئها، وأنه كان يحتفظ ببعض كتب الماسونية فی منزله بخط الأفغانی وقد صودرت أثناء سجنه بمصر.
 
لم يتوقف الهجوم عند هذا الحد، بل اتهموه بالشرك، ويستندون فی ذلك إلى خطابه إلى الأفغاني، والذی جاء فيه «كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها وهی هذه الأمة لم يخطر لها هذا الخاطر على بال من مدة تزيد على عشرين قرناً»، وفسره بقولهم: قال هذا القول وهو فی القرن الرابع عشر الهجری أو العشرين الميلادی وعلى كلا الأمرين يكون قفز بقوله الحكم الإسلامی بأكمله! فمتى عرفت هذه الأمة ذلك إذا لم تكن عرفته فی الإسلام؟!
 
ومن ذلك ما كتبه إلى أستاذه الأفغاني، بتاريخ 5 جمادى الأولى سنة 1300 هجرية، قائلاً: «ليتنی كنت أعلم ماذا أكتب إليك، وأنت تعلم ما فی نفسی كما تعلم ما فی نفسك، صنعتنا بيديك وأفضت على موادنا صورها الكمالية وأنشأتنا فی أحسن تقويم فيك عرفنا أنفسنا وبك عرفناك وبك عرفنا العالم أجمعين فعلمك بنا  كما لا يخفاك علم من طريق الموجب وهو علمك بذاتك وثقتك بقدرتك وإرادتك، فعنك صدرنا وإليك إليك المآب. يقولون إن تلك العبارات تستوجب إعادة النظر فی عقيدة الرجل 

هل اختلف محمد عبده والأفغاني؟ 

كان جمال الدين الأفغانی سبباً فی تحول محمد عبده من الصوفية إلى الفلسفة، ودافعاً له إلى الإصلاح، لكنهما اختلفا فی الأسلوب والوسيلة ومازال حديثهما ونقاشهما عن الإصلاح يثير الإعجاب والجدل معاً.
 
اختلف محمد عبده وجمال الدين الأفغانی فی آليات التجديد، ففی حديث نادر أوردته الكتب التاريخية، جاء نصه: قال محمد عبده للأفغاني: أرى أن نترك السياسة ونذهب إلى مجهل من مجاهل الأرض، لا يعرفنا فيه أحد، نختار من أهله عشرة غلمان أو أكثر من الأذكياء، سليمی الفطرة، فنربيهم على منهجنا ونوجه وجوههم إلى مقصدنا، فإذا أُتيح لكل واحد منهم تربية 10 آخرين لا تمضی بضع سنين أخرى، إلا ولدينا 100 قائد من قادة الجهاد فی سبيل الإصلاح، ومن أمثال هؤلاء يرجى الفلاح.
 
ورد جمال الدين الأفغانی قائلاً: إنما أنت مثبط نحن قد شرعنا فی العمل، ولابد من المضی فيه، ما دمنا نرى منفذا.
 
ورغم أن تجديد الخطاب الدينی كان سلاح الاثنين، لكن محمد عبده كان يرى أن الإصلاح يبدأ فی الفكر ومحاربة الجهل، والتخلف دون رفض أصل حضارتنا العربية وهو الإسلام. وكان الخلاف بين الأفغانی ومحمد عبده يقتصر على الإصلاح والنهوض بالوطن، فالأفغانی من أنصار الثورة ضد الاستبداد والقهر، بينما يرى محمد عبده أن تغيير المجتمع وإصلاحه يجب أن يكون تدريجياً، وعن طريق التعليم ومواجهة الجمود والتخلف.

وفاة الإمام 

توفی الإمام فی مساء يوم 11 يوليو عام 1905م / 7 جمادى الأولى 1323 هـ، بالإسكندرية، بعد معاناة من مرض السرطان عن ست وخمسين سنة، ودفن بالقاهرة ورثاه العديد من الشعراء.
 
وعندما توفی عبده كان الخبر صادماً للمصريين والعرب وكل عشاق التنوير والحضارة وتجديد الفكر.
ورثاه شاعر النيل حافظ إبراهيم قائلاً :
 
بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة
ضاقت عيون الكون بالعبرات
ففی الهند محزون وفی اليمن جازع
وفی مصر باك دائم الحسرات

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق