المجددون (5).. الإمام محمد مصطفى المراغي: قائد إعمال العقل تلميذ محمد عبده

السبت، 01 يونيو 2019 10:00 م
المجددون (5).. الإمام محمد مصطفى المراغي: قائد إعمال العقل تلميذ محمد عبده
الإمام محمد مصطفى المراغى
محمد الشرقاوی

الإمام.. تلميذ الإمام.. قائد الإصلاح.. المحارب.. الشيخ الثائر.. صاحب الحجة
 
الإسلام سبب نهضة المسلمين وقوتهم واتحادهم، وأن التمسك به هو السبيل لإعادة أمجاده التى ولّت، ولا نجاة للمسلمين إلا بالرجوع إلى الله، وتفهم كتاب الله، والعمل بما سنه رسول الله، ومن الخطأ كل الخطأ أن يظن ظان أن تأخر المسلمين نشأ عن دينهم»، كلمات بسيطة سجل بها الشيخ محمد المراغى نفسه بها فى سجلات المدافعين عن الدين الإسلامى فى التاريخ.
محمد وينتهى نسبه إلى بيت محمد صلى الله عليه وسلم، إنه فضيلة الإمام الأكبر الشيخ الثالث والثلاثين والخامس والثلاثين للجامع الأزهر محمد مصطفى بن محمد بن عبد المنعم المراغى القاضى الحسيني، ينتهى نسبه إلى الحسين بن على وفاطمة الزهراء بنت النبى محمد صلى الله وعليه وسلم. 
 
ولد الإمام الراحل فى 7 ربيع الآخر سنة 1298 من الهجرة، الموافق 9 مارس عام 1881، ونشأ فى مراغة وحفظ القُرآن الكريم على يد أبيه وفى أحد كتاتيبها تعلَّم مبادئ المواد الأساسية التى تُؤهِّله للالتحاق بالأزهر، ثم أرسله أبوه للقاهرة، للالتحاق بالأزهر، ودرس علوم الأزهر على يد كبار مشايخ عصره وتأثر بأصحاب التيار المجدد وكان الأزهر وقتها يعيش نهضة إصلاحية واسعة النشاط. 
 
فى ذلك التوقيت حضر إلى مصر جمال الدين الأفغاني، واستقطب رجال الإصلاح وأقطاب الثقافة، وعلى رأسهم الإمام محمد عبده، وكان الرواق العباسى هو مجلسه، وكان يستمعُ فيه للمحاضرات، وأيضًا لشيخه الشاب على الصالحي، وهو من شباب علماء الأزهر المستنيرين المحقِّقين، الذى درس عليه علوم العربية، وتأثر بأسلوبه فى البيان والبلاغة.
 
اتصل علم المراغى بالشيخ محمد عبده، وتعلم منه التجديد والإصلاح وتتلمذ على محاضراته فى تفسير القرآن، وتأثر بمنهجه فى التوحيد وما يراه من ضرورة التنقية للعقائد الإسلامية من ترف المتكلمين القدامى، وتأثَّر بمنهج الإمام محمد السلوكى ودعوته الإصلاحيَّة، ومواقفه الوطنيَّة، وسار على نهجه فى التجديد.
 
نجح المراغى فى امتحان العالمية، وكان ضمن أعضاء اللجنة الشيخ محمد عبده، وكان الأوَّل على زملائه، ودعاه الإمام إلى منزله تكريمًا له، لم يقف الأمر عند تلقى العلم بل امتد على العهد، فحصل على العالمية من الدرجة الثانية- حصل عليها محمد عبده- أهلته للتدريس فى الأزهر، ومن أجل ذلك عقد الشيخ المراغى لنفسه حلقةً. 
 
ومثلّ النبوغ المبكر للمراغى فهو الحاصل على درجة الدكتوراه عن عمر يناهز 24 عاما، ليصبح بذلك أصغر علماء الأزهر الشريف، فلفت نظر لكبار أهل العلماء وتلاميذه، واشتدَّ عليه الإقبال، ولم يبقَ فى حلقات درسه غير ستَّة أشهر غادَر بعدها إلى السودان. 
 
تولى المراغى مناصب عدة قبل تولِّيه مشيخة الأزهر، فعمل فترة فى السودان، ثم رئيسا للتفتيش الشرعى بوزارة العدل 1919، ورئيس محكمة مصر الكلية الشرعية 1920، ثم عضوا بالمحكمة العُليا الشرعية، ثم رئيسًا لها. وخلال الرحلة العملية للعالم الصغير، أقر عدة إصلاحات هامة، كان على رأسها عدم التقيُّد بالمذاهب، ما يعنى أنه إذا وجد فى غيرها ما يُناسب المصلحة العامَّة للمجتمع، أخذ به فى القضاء. 
 
ورغم أن الإمام الأكبر كان أحد أساتذة المذهب الحنفي، إلا أنه رسخ للقضاة قاعدة فقهية تقول: «ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنَّه موافقٌ للزمان والمكان، وأنا لا أحتاج أنْ آتيكم بنصِّ المذاهب الإسلامية يطابقُ ما وضعتم، إنَّ الشريعة الإسلاميَّة فيها من السماحة والتوسعة ما يجعلنا نجدُ فى تفريعاتها وأحكامها من القضايا المدنية والجنائية كلَّ ما يفيدنا وينفعنا فى كلِّ وقت وحين، ولقد اختلف الأئمَّة فى الآراء الشرعية والفقهية».
 
لم يقتصر تجديد المراغى على القضاء وأحكامه فقط، بل توصل إلى التجديد فى الأحكام الشرعية، فاستنتج أنَّ التجديد فى الأحكام الشرعية ميسور، وأنَّ المسائل الفقهية ما دامت غير قطعية فهى قابلة شرعا للتجديد والتغيير، فاقتبس من كل المذاهب والمجتهدين، وأصدر سنة 1920 «قانون الأحوال الشخصية»، فعدل قانون الطلاق والمواريث.
دعا المراغى إلى توحيد المذاهب الفقهية، وقال إنه يجب العمل على إزالة الفروق المذهبية، وتضييق شقَّة الخلاف بينها؛ فإنَّ الأمَّة فى محنة من هذا التفريق، ويجب أنْ يدرس الفقه دراسة بعيدة عن التعصُّب لمذهبٍ معيَّن، وأنْ تدرس قواعده مرتبطة بأصوله من الأدلة المنصوص عليها من الكتاب والسُّنَّة.
 
لم تكن المذاهب الفقهية وحدها التى حاول التقريب فيها، بل الطائفية أيضا فأكد على روابط الصداقة بين المسلمين والعالم، وإيجاد تضامن بين الهيئات العلمية والتعليمية فى البلاد الإسلامية.
 
ومن بين القضايا الفكرية، التى اشتبك معها فى تعامله كان إعمال مدرسة العقل باتباع الدليل وذم التقليد، فكان يقول لا يستقيم التجديد فى الفكر والسلوك، إلا إذا أعملنا العقل المنضبط بالوحي، وطرحنا عن أنفسنا رداء التقليد والاتباع دون دليل.
 
وقد بين الشيخ المراغى أن القرآن يذم التقليد فى غير آية منه.. موضحًا أن (الأدلة) التى ينبغى أن نتبعها ليست أدلة المنطق والفلسفة- مما يصعب على كثيرين- بل اتباع الأدلة الواضحة المبثوثة فى جنبات الكون، والتى تؤكد بوضوح ويُسر وجود الخالق سبحانه واستحقاقه العبودية وحده لا شريك له.
 
يقول الشيخ: ذم الله سبحانه المجادلين من غير علم، وذم التقليد وعدم الاهتداء بالعلم الناشئ عن الدليل أو بالهدى عن المعصوم أو بكتاب منير. وقد جاءت فى القرآن آيات كثيرة فى هذا المعنى تذم التقليد وتعيب المقلدين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170).
 
التفكر والتدبر، كانتا من أبرز القضايا الدينية التى تبناها المراغي، فقال فى «جناية صَرْف الناس عن الكون وعلومه»، إذا كان (القرآن الكريم) هو كتاب الله المسطور المقروء، فإن (الكون) هو كتابه المنظور، كلاهما سواء فى الدلالة على عظمة الخالق سبحانه ووحدانيته، وبديع صُنعه وخَلْقه، كما أننا مَدعوون إلى تدبر كليهما، والانتفاع من الأسرار المبثوثة فيهما.
 
وقال: «لقد جنى بعض العلماء على المسلمين فى الماضى جناية بعيدة الأثر فى حياتهم، جناية صَرْفِ الناس عن الكون وأسراره؛ فهذا لا يتفق وأغراض القرآن، فضلاً عن أن هذه الدراسات رَفَعَ التعمقُ فيها أمما من أمم العالم، ومكّن لها فى الأرض؛ فاستولت على أمم تفوقها عددا وثروة، واستوت على عروش العز والسلطان، وإهمال هذه الدراسات سلب العزة من أمم كانت خليقة بالعز، بتاريخها ودينها وثروتها، وإنى أنصح قومى وأهل ملتى بتوجيه الجهود إلى الدراسات العلمية، واستثمار ما أودعه الخالق جل شأنه فى معادن الأرض ونباتها وحيوانها، وما أودعه فى الهواء والضوء وغير ذلك من الموجودات؛ فذلك خير مما نحن فيه دِينًا ودُنيا».
 
تولَّى الشيخ المراغى منصب شيخ الأزهر مرتين: الأولى لمدة عامين من 1928 حتى استقالته فى 1930، والثانية لمدة 10 سنوات من 1935 إلى وفاته فى 22 أغسطس 1945. فى الولاية الأولى كان الشيخ المراغى يبلغ من العمر 48 سنة، فرسخ جهد كله للنهوض بالأزهر، وإصلاح أحواله، فاستبدل نظام الدعم لطلابه من نظام «الجراية» من الطعام والخبز، واستطاع تعيين راتب يصرفُ شهريًّا بالجنيه للطالب الأزهري. 
 
اشتبك المراغى مع قوانين الأزهر ومناهجه الدراسية فشكل لجان لدراسة القوانين ومناهجه الدراسيَّة، واهتم بالدراسات العليا فيه، فاقترح إنشاء ثلاث كليَّات عُليا هي: كلية اللغة العربية، كلية الشريعة، وكلية أصول الدين، مع إنشاء أقسام عديدة لكلِّ تخصُّص. وفى أكتوبر سنة 1929 احتدم الخلاف بين المراغى والملك فؤاد؛ فقدَّم استقالته، وحاول رئيس الوزراء منعه، لكنَّه أصرَّ على الاستقالة، واختير الشيخ الظواهرى شيخا للأزهر.
 
وبعد استقالته قضى أكثر من خمس سنوات عاكفا فى بيته على البحث والدراسة ومراجعة آراء المصلحين من قبل، وبخاصة آراء أستاذه الإمام محمد عبده، كما راجع الأسس التى وضعها للإصلاح وما تَمَّ تحقيقُه منها، وما ينبغى تعديله، وذلك فى ضوء دراساته العميقة للنهوض بالأزهر. عاد المراغى شيخًا للأزهر مرَّةً ثانية فى سنة 1935 مؤيدا من الجميع، فباشر تنفيذ ما استقر عليه رأيه من وجوه الإصلاح فى الأزهر، وما رآه فى فترته الأولى، وقد حدَّد مهمَّة الأزهر أنَّه هو المعهد الإسلامى الأكبر، وأنَّ الغرض منه: 
 
القيام على حفظ الشريعة؛ أصولها وفروعها، واللغة العربية، وعلى نشرهما، وتخريج علماء لتعليم الشريعة وأصولها وفروعها، واللغة العربية، ونشرها فى مختلف المعاهد والمدارس، ويتقلَّدون الوظائف الشرعيَّة، ووجوب تدريس القُرآن الكريم تدريسا جيدا، وتدريس السُّنَّة النبويَّة على وفق ما تتطلبَّه اللغة العربيَّة ومعانيها، وتهذيب العادات الجتماعية؛ بحيث تتَّفق وقواعد الإسلام الصحيحة.
 
وأقر دراسة الأديان والملل، وكذا تاريخها وفرقها، وتدريس أصول الفقه والمذاهب قديما وحديثا، ثم استقرَّ رأيه على تقسيم التعليم الدينى إلى قسمين: قسم عام ليسدَّ حاجة مَن يريد التفقُّه فى الدِّين ومعرفة اللغة العربية، القسم يؤهل للتعليم الثانوي، والثانوى يؤهل للدراسات العُليا، وكلاهما مشابه لمنهج التعليم فى المدارس المدنيَّة.
 
أنشأ الشيخ المراغى مجموعةَ لجانٍ؛ منها: لجنة الفتوى، الوعظ والإرشاد، جماعة كبار العلماء «مجمع البحوث الإسلامية»، وأنشأ مراقبة خاصَّة للبحوث والثقافة الإسلاميَّة، تختصُّ بالنشر والترجمة والعلاقات الإسلاميَّة، والبعوث العلميَّة، والدُّعاة، فصدر قرار بإنشائها سنة 1945.
 
كان هدف الإمام المراغى أنْ يخرج الأزهر الشريف من النِّطاق المحلى إلى المجال العالمي؛ فانتهز فرصة انعقاد المؤتمر العالمى للأديان فى يوليو 1936، فأرسل رسالةً للمؤتمر، ألقاها نيابةً عنه عبدالعزيز المراغي، ولقيت استحسانا عظيما، وتُرجِمت إلى عدَّة لغات، وانتخبه المؤتمر نتيجة لذلك رئيسا فخريّا، وكان موضوع البحث الزمالة الإنسانية، دعا فيها إلى تعاون أصحاب الأديان جميعا لمقاومة الماديَّة العمياء التى تُوشك أنْ تُدمِّر العالم. 
 
يقول عنه الإمام الراحل عبدالحليم محمود، إنه عالم ذكي، وشخصيَّة خارقة، مهيب، صاحب رأى فى العلم والسياسة، ونزلوا على رأيه فى مواقف كثيرة مهمة، وكثيرا ما استمع الملك فاروق إلى رأيه، وكان يحضر مجالسه العلميَّة، وينصره على بعض الأحزاب المناوئة، والجميع يعرف مكانة الإمام المراغي؛ لجرأته فى قول الحق، وإنْ أغضب ذلك ذوى السلطان.
 
لم يكن الشيخ المراغى إمعة، بل كان صاحب كلمة وموقف على الساحة السياسية، وتمثل ذلك فى مواقف عدة، أبرزها مع الملك جورج الخامس، فحينما أرادت بريطانيا تتويج ملكها جورج الخامس إمبراطورا للهند، ورتَّبت حكومة السودان فأصدرت الأوامر إلى الأعيان وكبار الموظفين فى السودان أن يسافروا إلى ميناء سواكن، لاستقبال باخرة الملك وهى فى طريقها إلى الهند؛ حيث تتوقف لبعض الوقت وكان فى مقدمة المدعوين قاضى السودان –وقتئذ.
 
وكان البروتوكول يقضى بألا يصعد إلى الباخرة أحد غير الحاكم الإنجليزي، وأما من عداه فيمكثون بمحاذاة الباخرة ويكفى أن يشرفهم الملك بإطلالة عليهم، فغضب المراغى وأخبر الحاكم الإنجليزى بأنه لن يحضر لاستقبال الملك إلا إذا صعد مثله إلى الباخرة لملاقاته، فتحرج الإنجليز وكثفوا اتصالاتهم ومن ثم غيروا الترتيب.
 
وصعد الشيخ المراغى السفينة وقابل جورج الخامس فقال بعض الإنجليز والمراسلين مستنكرين: «كان ينبغى أن تنحنى للملك كما ينحنى كل من يصافحه» فرد عليهم قائلا: «ليس فى ديننا الركوع لغير الله».
 
ومن بين مواقفه الوطنية، المساواة بالقضاة الإنجليز، فرفض الاستمرار فى القضاة بعد منحه زيادة قدرها ستَّة جنيهات، على راتبه البالغ وقتها 14 جنيهًا، واحتجَّ على ذلك قائلاً: إنَّ القاضى الإنجليزى يتقاضى راتبًا قدره خمسون جنيهًا، وتستكثرون على القاضى المصرى عشرين جنيهًا، وعاد إلى مصر، وطلب منه العودة لكنَّه رفض وقدَّم استقالته.
 
وعندما عرض على المراغى منصب قاضى القضاة فى السودان، اشترط أنْ يكون تعيينه بأمر من الخديوى فى مصر، وأن يختار بنفسه لائحة المحاكم الشرعيَّة بالسودان، واختيار القضاة، واختيار الآراء الفقهيَّة التى يحكمون بها، وطلب من كلِّ محاكم السودان أنْ ترسل إليه بيانا شهريّا بالقضايا، وأن يُراجع وينفذ ما يَراه صوابا، وعمل على ترقية القضاء فى السودان، فأشرف على القسم الشرعى بالكلية، وزوَّده بأساتذة من علماء الأزهر، ورفع من كرامة القضاء.
 
شارك المراغى فى ثورة 1919، وقاد المصريين الموجودين بالسودان، ولمَّا اشتدَّت الثورة بمصر، والتفَّ المصريون بالسودان حول الشيخ الإمام، قاد جموعَهم فى مظاهرة كبيرة، وأخذ يجمع التوقيعات لتأييد زعامة سعد زغلول لزعامة الأمَّة، ودعا كلَّ مصرى لأنْ يُسهم بما تجودُ به نفسه لتخفيف المصائب التى أنزلها الإنجليز بالشعب المصرى.
 
 واعترض الحاكم الإنجليزى بالسودان، ودار حوار بينهما قال له: إنى أكلمك كرئيسٍ، وكان المراغى سريعَ البديهة، قويَّ الحجَّة فى شجاعة، فردَّ عليه وقد التهب غاضبًا: كنت أفهم أنَّك تعلم واجبك، إنَّه ليس لى رئيس هنا، فأنا الحاكم العام معيَّن بأمرٍ ملكي، وهو حاكم سياسى وأنا قاضى القضاة، ولا إشراف لأحدٍ منَّا على الآخَر، وتركه وانصرف، فأرسل الحاكم العام إليه يدعوه لتناوُل الشاى معه، وبعد نقاشٍ طويل بينهما أجابه الشيخ المراغى بكلامٍ خلاصته: «إنَّنى حوَّلت تيار ثورة المصريين والسودانيين ضد الإنجليز من تيار دموى إلى تيار مالي؛ أي: يجب على الإنجليز إرجاع كافَّة الأوقاف والمباني»، وأجراها لهم الإمام بمبالغ شهرية يعود ريعها على الشعب السودانى نفسه.
 
ردَّ عليه الحاكم قائلاً: افعل ما تريد، وقد قلت للإنجليز: إنَّ الشيخ المراغى لا يمكن مناقشته أو التغلُّب عليه، ومن الصعب إقناعه، وهنا ثار حكَّام الإنجليز، واقترحوا أخيرًا منحه إجازة من السودان، ورجع إلى مصر مكرما.
 
حاول الملك فاروق جعل الشيخ المراغى إصدار فتوى يحرم على زوجته الأولى فريدة الزواج من غيره، بعد تطليقها، وكان الشيخ يُعالج بالمستشفى فرفض الاستجابة؛ فضاق الملك به، وذهب إليه بالمستشفى، فقال له الإمام عبارته الخالدة: «أمَّا الطلاق فلا أرضاه، وأمَّا التحريم فلا أملكه»، وطال الجدل، فصاح المراغى قائلاً: «إنَّ المراغى لا يستطيع أنْ يحرم ما أحلَّ الله».
 
فى الحرب العالمية الثانية أعلن كلمته المشهورة فى مسجد الرفاعي: «أسأل الله أنْ يجنِّبنا ويلات حربٍ لا ناقة لنا فيها ولا جمل»؛ لأنَّ الإنجليز أرادوا أنْ يزجُّوا بالمصريين معهم فى حرب الألمان، ولقد أحدث تصريح الإمام ضجَّة كبرى هزَّت الحكومة المصرية وأقلقت الإنجليز.
 
واتَّصل رئيس الوزراء بالشيخ محاولا تهدئة الموقف، والإنجليز يعرفون مكانته الدينية ومنزلته عند الشعب، ونادى الإمام باحترام العلم والعلماء فهم صفوة القوم وعليتهم، وأمر رئيس الوزراء بأنْ يُصدر مرسوما بتصدُّر العلماء واجهة كلِّ الاحتفالات الرسميَّة.
 
للشيخ عدة مؤلفات هامة جدا فى الساحة الدينية، أهمها: الأولياء والمحجرون بحث فقهى فى موضوع الحجر على السفهاء، وتفسير جزء تبارك، وبحث فى وجوب ترجمة القرآن الكريم، ورسالة الزمالة الإنسانية، مؤتمر الأديان بلندن، وبحوث فى التشريع الإسلامى فى الزواج. 
 
تروى مجلة المصور، من داخل المستشفى قبل وفاته بأيَّام، أنه كان يقضى وقته فى كتابة وتفسير سورة القدر؛ ليُلقى عنها حديثًا فى الاحتفال بليلة القدر، ورأته الممرضة ليلة وفاته منكبًّا على كتابة التفسير، فطلبت منه أنْ يستريح فرفض، ثم زاره الطبيب فوجده يتمتَّع بصحَّة جيدة ونبض حسن، ولكنَّه ما كاد ينصرف حتى فاضت روحُه الطاهرة إلى بارئها راضية مرضيَّة بعد حياةٍ حافلة بجلائل الأعمال، وذلك فى ليلة الأربعاء 14 رمضان 1364هـجرية الموافق 22 أغسطس 1945، وشُيِّعَ إلى مثواه الأخير.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق