كيف يحاول «ترامب» تقويض استقلالية أوروبا عبر فرض أجندته الأطلسية؟

الأربعاء، 04 ديسمبر 2019 01:00 م
كيف يحاول «ترامب» تقويض استقلالية أوروبا عبر فرض أجندته الأطلسية؟
دونالد ترامب- رئيس أمريكا

ربما تحمل أجندة قمة «الناتو»، التي تنطلق في منتجع «سيلتيك مانور»، ببريطانيا، في طياتها بذور انقسامات جديدة، بين الولايات المتحدة، وحلفاها فى دول أوروبا الغربية، خاصة مع إصرار الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، على تغيير توجهات الحلف العسكرية، عبر تكثيف الوجود العسكري، في أوروبا الشرقية، والتى تمثل عمقا استراتيجيا للخصم الروسي، فى خطوة تمثل استفزازا صريحا لروسيا، بعد فترة من الهدوء النسبى في علاقات موسكو، سواء مع واشنطن، خاصة منذ صعود ترامب إلى البيت الأبيض، فى يناير 2017 من جانب، أو مع أوروبا الغربية، في ظل التعاون فى العديد من المجالات وعلى رأسها قطاع الطاقة.

وبالرغم من التوافق غير المسبوق بين روسيا والولايات المتحدة، فى العديد من القضايا الدولية والإقليمية، إلا أن ثمة صراعا غير منظور، يبدو واضحا فى إعادة توزيع مناطق النفوذ، وهو ما بدأ فى الشرق الأوسط، عندما قررت واشنطن الانسحاب من سوريا، لتسيطر موسكو عل مقاليد الأمور هناك، وبالتالى مزاحمة النفوذ الأمريكى فى المنطقة، فى الوقت الذى ظهرت فيه مناطق أخرى للصراع بين الجانبين، على رأسها القارة الأوروبية، فى إطار الإعداد لـ «نظام دولى جديد»، حيث وجدت موسكو لنفسها نوافذ عدة يمكنها من خلالها كسر التحالف التاريخى بين الولايات المتحدة وأوروبا، على رأسها ما يمكننا اعتباره «سياسات عدائية»، غير مسبوقة من قبل واشنطن تجاه حلفائها.

التعاون الأوروبى الروسى بدا واضحا فى توجه ألمانيا نحو التعاون مع روسيا فى مجال الطاقة، مما أثار حفيظة الرئيس الأمريكى والذى اتهم المستشارة الألمانية بالتبعية لموسكو، بسبب حالة الارتباط الوثيق التى باتت تجمع بين البلدين فى هذا المجال، فى ظل الاعتماد الألمانى الكبير على الغاز الروسى، بينما اتجه الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون نحو إطلاق دعوات عدة لتبنى مواقف أوروبية مستقلة عن الولايات المتحدة فيما يتعلق بالعلاقة مع روسيا، معتبرا أنها لم تعد الخصم الذى ينبغى مواجهته من قبل الغرب، فى المرحلة الراهنة، فى ظل تنامى تهديدات جديدة، وعلى رأسها المواقف الأمريكية نفسها، والتى قامت على إضعاف أوروبا وتفكيكها، وهو ما يمتل استكمالات لمبادرته السابقة بتأسيس ما يسمى بـ «الجيش الأوروبى الموحد»، ليكون بديلا للناتو.
 
التحرك الأوروبى المستقل عن واشنطن، يمثل تقويضا صريحا للقيادة الأمريكية للمعسكر الغربى، والتى استمرت لعقود طويلة من الزمن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو الأمر الذى لا تقبله الإدارة الأمريكية، والتى تسعى حاليا، ليس فقط، نحو تحقيق نقاط إضافية على حساب الغريم الروسى، ولكن ترويض أوروبا المتمردة على الولاية الأمريكية عليها، عبر إجبارهم على قبول الأجندة الأمريكية المستفزة لموسكو، بهدف ضرب أى تحركات من قبل قادة القارة العجوز لإيجاد بديل للحليف الأمريكى، يمنحهم قدرة أكبر على المناورة، أو ربما ابتزاز واشنطن لاستعادة المزايا التى كانوا يحظون بها من قبل، سواء على الجانب الاقتصادى أو الأمنى، بعدما اتجهت إدارة ترامب لفرض رسوم جمركية على الواردات القادمة من أوروبا، وكذلك تلويحها المتواتر بالانسحاب من الناتو، والذى يمثل رأس حربة فى الدفاع عن القارة العجوز، إذا لم تلتزم الدول الأعضاء فى التحالف بتقديم التزاماتها المالية.
 
وهنا يمكننا القول بأن الأجندة الأمريكية المفروضة على الناتو بالتوجه عسكريا نحو أوروبا الشرقية، لا تستهدف موسكو فقط، وإنما محاولة جديدة من واشنطن لتقويض استقلالية أوروبا، وهو الأمر الذى لا يعد سابقة فى تاريخ ترامب، حيث سبق وأن قوض إمكانات أوروبا فى التحرك باستقلالية فى العديد من القضايا الدولية المحورية، وعلى رأسها الموقف من إيران، حيث أنه لم يسمح لهم بالإبقاء على استثماراتهم فى طهران، بعدما قرر توقيع عقوبات عليها، مهددا الشركات بفرض عقوبات إذا ما استمرت بالعمل فى الدولة الفارسية، وهو ما أجبر الشركات الأوروبية على الانسحاب من السوق الإيرانى رغم إرادة حكوماتهم.
 
ولعل رغبة واشنطن فى فرض إرادتها على أجندة التحالف الغربى يمثل تأكيدا أمريكيا على قدرتها على قيادة الغرب، رغم محاولات بعض القوى الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا، فى التشكيك فى ذلك، وهو ما بدا واضحا فى تصريحات ماكرون الأخيرة، والتى وصف خلالها حلف الناتو بـ «الميت إكلينيكيا»، بالإضافة إلى ضرب ما يمكننا تسميته بـ «الإسفين»، فى العلاقات الأوروبية الروسية، والتى شهدت تطورا كبيرا فى الأشهر الماضية، على خلفية التعاون فى مجال الطاقة.
 
ولا تقتصر المكاسب التى يسعى ترامب إلى تحقيقها على تقويض استقلالية القارة العجوز، أو الاحتفاظ بقيادة المعسكر الغربى، وإنما إضعاف حالة التوحد الأوروبى، والتى تمثل صداعا فى رأس الرئيس الأمريكى منذ بداية حقبته، حيث أن مسألة التوجه العسكرى نحو الشرق هى بمثابة «كمين»، جديد لزيادة الشقاق داخل الاتحاد الأوروبى، وهو الأمر الذى بدأ تدريجيا على مدار السنوات الماضية، وتحديدا منذ قرار بريطانيا بالانفصال عن الكيان الأوروبى المشترك، فى استفتاء 2016، والذى كان بمثابة اللبنة الأولى فى الانتقال من مرحلة الوحدة الأوروبية إلى مرحلة جديدة من الانقسام والتشرذم، تفاقمت تدريجيا من المستوى البينى (بين دول القارة)، إلى المستوى الداخلى (داخل العديد من دول أوروبا)، وهو ما ظهر فى المظاهرات المتواترة التى شهدتها العديد من العواصم، سواء بسبب الاحتجاج على السياسات التى تتبناها الحكومات، حتى إحياء الحركات الانفصالية التى دعت إلى الخروج سلطان الدول المركزية، كما هو الحال فى إقليم كتالونيا.
 
وتعد حالة الجدل التى تبعت حديث ماكرون عن الناتو، دليلا دامغا على الحال المتفاقم الذى وصلت إليه حالة الانقسام داخل القارة العجوز، خاصة مع التصريحات الألمانية، والتى اعتبرت أن بقاء الناتو يمثل ضرورة أوروبية قصوى، فى ظل عدم قدرة دول القارة العجوز على حماية نفسها فى مواجهة أية تهديدات خارجية، وهو ما يمثل انحيازا، أو ربما مغازلة ألمانية، للإدارة الأمريكية بعد توتر دام لما يقرب من 3 أعوام، منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، على حساب فرنسا، والتى تعد فى المرحلة الراهنة أحد أكبر الدعاة للوحدة الأوروبية.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق