هشام السروجي يكتب: قضية الطلاق بين المفهوم التراثي والتجديد

السبت، 08 فبراير 2020 05:46 م
هشام السروجي يكتب: قضية الطلاق بين المفهوم التراثي والتجديد
الدكتور شوقى علام مفتى الجمهورية

الطلاق الشفهى أصبح ظاهرة تهدد استقرار المجتمع كمحور رئيسى يحتاج إلى تطوير مسائله الفقهية

مفتى الجمهورية: لا نُجيب فى دار الإفتاء المصرية عن مسائل الطلاق إلا بحضور الزوج للتحقق من أنه بالفعل قد قصد الطلاق

عندما بدأ الله الخلق كان لهدف وحكمة ربانية «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ».
 
 ولما كانت الخلافة تتحقق باستمرار الوجود، وكان الإنسان فانيا ليس بخالد، كان التناسل هو الخيار المُكمل لنقص الخلود، من هنا احتلت غريزة البقاء المرتبة الأولى فى الاحتياجات الإنسانية.. أن يبقى الإنسان حيا ليتحقق الهدف الإلهى من الخلق، ولأن الدين جاء مُنظما للمجتمع الإنسانى وعلاقات أفراده ببعضهم البعض، وكذلك علاقتهم بالخالق سبحانه وتعالى، كانت من أولويات هذا التنظيم أيضا، تقنين علاقة التناسل أو الزواج، بوضع أحكام الزواج والطلاق فى الإطار الذى يضمن تدفق النسل وتحقيق الوجود، ومن ثم نجد أن تلك العلاقة مسار جدل دائر بشكل دائم بين أتباع كل الأديان، السماوية منها والوضعية، ليس لهذا السبب فقط من الحكمة الإلهية، ولكن لما تضمنه من تحقيق إشباع لغريزة الجنس التى تأتى فى مرتبة متقدمة من الغرائز المسيطرة على الكائن، ومشاعر الأمومة والأبوة والاستقرار والسكينة والشراكة الحياتية.
 
من هنا جاء الاهتمام بقضايا الزواج والطلاق والأحكام المنظمة لهما، واعتبرها الأولى بأن يطالها تجديد الفكر الدينى، بعد المستجدات السلبية التى ضربت جذور المجتمعات المسلمة، وأصبحت تهدد بشكل مباشر الهدف الإلهى المتمثل فى الحفاظ على الخليفة فى الأرض، لتحقيق الحكمة الإلهية وتذليل كل الصعاب أمام حصولها، لتكون بمثابة فتح الختم الأول فى مشوار تجديد الفكر الدينى، لخصوصيتها التى تمس جوهر الإنسانية.
 
يُحاصَر مفهوم تجديد الفكر الدينى، بين فريقين، الأول يتمسك بمنهج أقرب إلى إزاحة الجمود عن الموروث الفقهى من المدارس الفقهية القديمة، إلى مدرسة حديثة أكثر اتساعا ورحابة، تكون المرونة القادرة على استيعاب مستحدثات الأمور الحياتية، من خلال فكر فقهى يملك جرأة التماس مع الأصول، من حيث استنباط الأحكام والقواعد الفقهية المستمدة من المصادر المقدسة قاطعة الثبوت.
 
أما الفريق الثانى يرى أن التجديد ينحصر فى الفروع دون الأصول، والمقصود بالثوابت هنا ليس النص المقدس، إنما هو المنتج البشرى الفقهى القادم من التراث، كما هو رأى الأمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، وبالتالى تظل المشكلة قائمة بين الموروث التراثى ومقتضيات التجديد الفعلية التى تواجه المجتمع، كقضية الطلاق.
 
عندما اجتهد الفقهاء الأربعة المؤسسون للمذهب السُنى، كان الهدف تعميم الحكم الشرعى ليشمل جميع مناحى الحياة، بعد ظهور مسائل فقهية مستحدثة حينها، تحتاج إلى من يستنبط أحكامها من مصادر التشريع الرئيسية -القرآن والسُنة-، وينظم جماعة المسلمين بالشكل الذى يتوافق مع الشريعة التى جاء بها الإسلام، الهدف السامى الذين سعوا له هو خلق عقد اجتماعى بين أفراد هذا المجتمع، يكون مصدره الوحى ونمط حياة النبى محمد والمعروف اصطلاحا «بالسنة النبوية»، علما بأن اتباع النهج المحمدى كان أمرا إلهيا فى قوله «ولكم فى رسول الله أسوة حسنى لمن كان يرجو لقاء ربه».
 
مع مستحدثات الحياة وظهور قضايا جديدة بعد وفاة رسول الله، بدأ تطور أسلوب استنباط الحكم من المصادر الرئيسية، ليضاف إليها الإجماع والقياس، وكان ظهورهما، لضمان استمرارية الحكم الشرعى فى حياة المسلم، وقد عَرف الفقهاء الإجماع بأنه «اتفاق مجتهدى أمة محمد بعد وفاته فى حادثة، على أمر من الأمور فى عصر من العصور».
 
ومع تطور المجتمع ظهرت مسائل جديدة لا حكم لها فى الكتاب أو السنة أو الإجماع، ففرضت الضرورة توسيع أرضية التشريع فظهر القياس، وهو الأحكام على المسائل المتشابهة، عند عدم وجود حكم فى المصادر السابقة من كتاب وسنة وإجماع، وعرف الشافعية وعدد من المحققين، منهم الباقلانى وغيره، أن القياس «حمل معلوم على معلوم فى إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما فى حكم أو صفة»، على سبيل المثال قياس حكم شرب الهيروين على حكم شرب الخمر لتشابه التأثير وهو غياب العقل، وفى الحديث أن معاذ عندما بعثه الرسول إِلى اليمَنِ فقال: «كيف تقضى؟» فقال: «أقضى بما فى كتاب الله» قال: «فإن لم يكن فى كتاب الله» قال: «فبسنة رسول الله» قال: «فإن لم يكن فى سنة رسول الله» قَالَ: «أجتهد رأيى ولا آلو» قَالَ: «الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله».
 
استمر المجتمع فى التطور  وبالتوازى تطورت مصادر التشريع لتواكب حالة المجتمع، فظهر بعد الإجماع والقياس، الاستحسان، العرف، الاستصحاب، المصلحة المرسلة، سد الذرائع، شرع من قبلنا، قول الصحابى.
 
كان هدف المجتهدون والفقهاء فى استنباط الأحكام من مصادر التشريع السابقة، هو حماية الإنسان من الشرور التى شرع الله تحريمها، وتذليل العقبات أمامه فى سبيل تنفيذ الأوامر، ولما كان من أهداف الوجود البشرى على الأرض هو التناسل والتكاثر لتحقيق الإعمار، فجاء الحفاظ على عماد المجتمع -الأسرة- لتكون القوانين المنظمة والحامية والمحافظة عليها، من أولويات الاهتمام الإلهي، وبالتالى كانت أحكام الزواج والطلاق هى الشاغل الأكبر فى العقل الفقهى للمجتهدين.
 
السجال الدائر فى الساحة حاليا والأهم هو قضية الطلاق بين المفهوم التراثى وبين مقتضيات التجديد، بعد مستجدات مفاهيم العلاقات الإنسانية والأطر الاجتماعية المنظمة لها.
 
والأصل فى الأحكام الدينية من تحليل وتحريم ووجوب وكراهة، هو تنظيم العلاقة بين الأفراد، تارة بالتهريب وأخرى بالترغيب، وبالتعمق فى فلسفة الأحكام الشريعة نجدها لا تتوقف عند هذا الإطار العام، بل أيضا تنظم أنماط إشباع الفرد لاحتياجاته وغرائزه الأساسية، وبالأخص الذى يحتاج إلى شريك يحقق الإشباع، مثل علاقة الزواج التى تشبع احتياج الاستقرار والتكامل وغرائز الجنس والتناسل، فى إطار يحفظ للشخص ارتقاءه النوعى على كل الأنواع الموجودة معه على الأرض، وهو ما أشار إليه الدين الإسلامى بمفهوم «التكريم»، حيث ورد فى القرآن الكريم (ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا).
 
ولأن الزواج هو أهم علاقة يحقق فيها الفرد قدرا متشعبا من الاشباع لاحتياجات وغرائز متعددة فى آن واحد، كانت تحتاج إلى رؤية أكثر عمقا، تتيح لها قدرا من المرونة فى الاجتهاد والتفقه، لتوفير هدف الاحتياج البشرى الأول وهو «الوجود» من خلال التناسل واستمرارية النوع، للحفاظ على عماد المجتمع -الأسرة- ومفرخة الجنس البشرى.
 
حاليا ومع التطور المرعب فى العلاقات الإنسانية التى تلاصقت فيها الثقافات المتشابهة والمتناقضة، وساد صراع الرغبات فى الوصول إلى أعلى درجات الرفاهية، زادت معها الضغوط الحياتية التى انعكست على سلوك الفرد بالسلب، ومن ثم كان لها بالغ التأثير فى القرارات التى يتخذها، والتى تميل إلى التسرع والعنف، كنتيجة طبيعية لما سبق من عوامل تفرضها بيئة الحياة، لتتزلزل الأرض تحت أقدام الأسر وتنهار العلاقات الزوجية، أمام طوفان الطلاق الذى يجتاح الشرق والغرب، وخير دليل على ذلك الأرقام المفزعة لحالات الطلاق التى تزيد يوما بعد يوم وعاما بعد عام.
 
منذ سنوات أثار المعنيون بالشأن الدينى الحديث عن الطلاق الشفهى، بعدما أصبح ظاهرة تهدد استقرار واستمرار المجتمع، كمحور رئيسى يحتاج إلى تطوير مسائله الفقهية، بين التراث الموروث من اجتهاد قدماء الفقهاء وبين التجديد الذى تفرضه الضرورة، وبدون الدخول فى الأسانيد التى يستند عليها كل فريق من الفريقين، يجب وضع الحكمة الإلهية فى الخلق صوب العين، لنقارن أى الرأيين يحققها ويحافظ على بث نورها فى الوجود الإنسانى، دون التمسك بالرأى أو الإمساك بتلابيب المخالف.
 
الحديث الذى دار بين فضيلة الأمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، وبين رئيس جامعة القاهرة الدكتور محمد الخشت أستاذ فلسفة الأديان والمذاهب الحديثة والمُعاصرة، الأسبوع قبل الماضى فى مؤتمر تجديد الخطاب، ليست مبارزة كما يحاول البعض تصويرها، بل يجب أن ينظر إليها باعتبارها بداية فتح الباب أمام الحوار، والمصارحة بأمراض المجتمع والبحث عن علاجات تداويها، والخروج من ضيق الحديث على استحياء إلى فضاء النقاش والاشتباك البناء، بهدف الوصول إلى صيغة تحقق حكمة الخلق وتقى المجتمع خطر الانهيار وتشجع على الدخول فى معترك التجديد الفقهى فى المسائل القديمة والحديثة، فالقارئ الجيد لسيرة الفقهاء، يجد أن اجتهادهم الحميد كانت الغاية منه هو تحقيق ما سبق، وكانوا من الجرأة أن يضيفوا إلى مصادر التشريع، أضعاف المصدرين التى ورثهما المسلمون من حياة النبى محمد صلى الله عليه وسلم.
 
الطلاق هو قرار إنهاء العلاقة الزوجية بين الذكر والأنثى، ومع تطورات السلوك الإنسانى يحتاج ذلك القرار إلى ضوابط قادرة على تنظيمه بشكل يجعله فى أضيق الحدود بعد روية وتأن، من هنا جاءت المطالبة بألا يتم الفعل إلا بضوابط مقننة، تحافظ على وجود الأسرة، وطالما السجال دائر إذن فهناك مساحة من الآراء والمرونة التى تسمح بتوفير تلك الآليات الضابطة للقرار.
 
الدكتور شوقى علام مفتى الجمهورية فى لقاء تليفزيونى فى يناير 2017 تحدث حول موضوع وقوع الطلاق الشفهى، قائلا «إن عقد الزواج وُجِدَ بيقين وذلك بحضور الأهل والمأذون والشهود والناس، وهذا العقد لا يُرفع إلا بيقين، بمعنى أنه يجب أن نتيقن أن هذا الزوج قد تلفظ بالطلاق، وهو قاصد إنهاء العلاقة الزوجية بلفظ ونيه صريحة، ولذلك لا نُجيب فى دار الإفتاء المصرية عن مسائل الطلاق إلا بحضور الزوج إلى الدار للتحقق من أن هذا الزوج بالفعل قد قصد الطلاق.
 
وبالإشارة إلى الإحصائيات قال المفتى إن دار الإفتاء يعرض عليها ما يقرب من 3200 فتوى تقريبا فى الشهر فيما يخص مسائل الطلاق، وبعد التحقيق الرصين والدقيق ننتهى إلى أن الذى يقع من هذا العدد ما يقرب من ثلاث حالات فقط.
 
كلام فضيلة المفتى كان من الوضوح الكافى إلى أن التعامل الفعلى وعلى أرض الواقع من دار الإفتاء لا يجنح تماما إلى الطلاق الشفهى، فلماذا لا يتفق الحكم الفقهى مع ما يمارس فى الواقع؟

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق